عون وبرّي... خلاف «الكيمياء المفقودة»

يخفي «هواجس» الشيعة من إلغاء شراكتهم في السلطة التنفيذية

عون وبرّي... خلاف «الكيمياء المفقودة»
TT

عون وبرّي... خلاف «الكيمياء المفقودة»

عون وبرّي... خلاف «الكيمياء المفقودة»

تخطى الخلاف بين رئيسي الجمهورية اللبنانية ميشال عون، ومجلس النواب نبيه برّي، إطار الخلاف على مرسوم الأقدمية الذي وقّعه عون ورئيس الحكومة سعد الحريري لضباط من دورة 1994، بعدما دخل إطار التصعيد بين الطرفين، وثباتهما على موقفيهما من «دستورية» التوقيع من عدمه، ليعكس حالة صراع بين رئيسين، يعتبر البعض كلاً منهما الأقوى في طائفته، لكن فرّقهما «انعدام الكيمياء» بينهما منذ عام 2009 على الأقل، ومن المرجح أن تنعكس على أداء الحكومة، وتمتد إلى ما بعد الانتخابات النيابية المقبلة.
والواقع أن الخلاف اليوم، يتجاوز بُعد العلاقة الشخصية، حتى لو نفى الطرفان ذلك؛ فهو يفتح الباب على ما يُزعَم أنه «هواجس» عند الشيعة من عودة الثنائية المارونية – السنّية (رغم لا تساويها) التي كانت قائمة قبل «اتفاق الطائف». وهو ما يدفع برّي إلى التمسك بالاتفاق الذي أنهى حرب 15 سنة في لبنان، وكرّس بالعرف دوراً للشيعة في السلطة التنفيذية يتمثل عبر توقيع وزير المال؛ إذ كانت هذه الوزارة من حصة الشيعة في حكومتين شكلتا بعد «اتفاق الطائف» مباشرة، قبل أن تنتقل إلى الطائفة السنّية في حكومات رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، وتعود إلى الشيعة في الحكومتين الأخيرتين في عام 2014 وأواخر عام 2016. ومن شأن الخلاف، رغم نفي الطرفين اللذين يقدمان مقاربة قانونية له، أن يمتد إلى التحالفات الانتخابية المقبلة، ويخلط أوراقها من جديد، كما من شأنه أن ينتج «أزمة حكم»، إذا ما فشلت أركان الحكومة في تحييد الخلافات السياسية عن عملها وقدرتها الإنتاجية.
بدأ الخلاف بين رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه برّي ورئيس الجمهورية ميشال عون الشهر الماضي على خلفية توقيع عون ورئيس الحكومة سعد الحريري مرسوم منح أقدمية سنة لعدد من الضباط الذي تخرّجوا في دفعة عام 1994، وهي الدفعة من الضباط معروفة بـ«دورة عون».
و«دفعة عون» تضم ضباطاً كانوا التحقوا بالمدرسة الحربية في العام الذي كان فيه عون رئيساً لـ«الحكومة الانتقالية» (3 وزراء عسكريين مسيحيين) قبل أن يقصيه النظام السوري في عام 1990. ومع أن القانون العسكري يفرض التدريب 3 سنوات قبل أن يتخرج التلميذ الضابط بصفة ملازم، لم تحتسب لهؤلاء سنة أقدمية لهم، وهي السنة التي أمضوها في منازلهم من غير تدريب بسبب ظروف الحرب، علما بأنهم التحقوا بالمدرسة الحربية من جديد، وتخرجوا في عام 1994.
إثر توقيع المرسوم، اعتبره برّي تجاوزاً للأعراف القانونية كون توقيع مرسوم من هذا النوع يرتب أعباء مالية على الدولة تستدعي توقيع وزير المال، علماً بأن وزير المال علي حسن خليل هو أحد أبرز ممثلي برّي في الحكومة.
وبعدما أحال برّي معالجة ملف ترقية الضباط من دورة 1994 سنة واحدة، إلى رئيس الجمهورية قائلاً: إنه يترك لعون معالجة الموضوع، صرّح رئيس الجمهورية في 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، بأن «منح سنة أقدمية لضباط دورة 1994 محقّ؛ لأنه في 13 أكتوبر (تشرين الأول) 1990، الدورة كانت في المدرسة الحربية وأنا وقّعت مرسوم دخولها». ورأى عون أنه «بسبب كيدية سياسية معينة أرسلوهم إلى منازلهم (إثر الإطاحة به وإخراجه من القصر الجمهوري)، ثم استدعوهم بعد سنتين، ونحن حاولنا أن نردّ لهم نصف حقهم».
وشدّد عون على أن «هذه القضية محقّة بالجوهر وبالأساس، والمرسوم يوقّعه رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، وإذا هناك أحد معترض فليذهب إلى القضاء، وسأفرح إذا كسر القضاء قراري».
هذا التصعيد، قابله برّي برفضه دعوة عون الذهاب إلى القضاء الذي «يذهب إليه الضعفاء» – حسب تعبيره -، وبتحذير من أن يمسّ تصرف عون بـ«اتفاق الطائف» والدستور، تاركاً كرة المعالجة مرة أخرى في ملعب رئيس الجمهورية بالقول: «مرة جديدة يا فخامة الرئيس أترك الأمر لحكمتك وقضائك، فالمخفي أعظم».

كيمياء مفقودة
في الحقيقة، لم تشهد العلاقة بين عون وبرّي تطوّراً إيجابياً، منذ عودة عون من منفاه في العاصمة الفرنسية باريس في عام 2005، وتفاقم الخلاف بينهما أكثر في مرحلة إبرام التسوية بين الحريري وعون؛ لأن رئيس مجلس النواب بقي من أشدّ معارضي انتخاب عون رئيساً للبنان، حتى تاريخ جلسة انتخابه في 30 أكتوبر 2016.
ولا يخفي مراقبون أن «الكيمياء مفقودة» بين الرجلين، وأنه لو كانت هناك علاقة بينهما، تشبه علاقة برّي بالنائب وليد جنبلاط مثلاً، أو علاقة تشبه علاقة عون بالحريري في هذا الوقت مثلاً، لما وصل الخلاف إلى مرحلة التعقيد الحالي.
غير أن انعدام اللقاءات بين الرئيسين، رغم أنه الحلّ المتوقع بالنسبة لقياديين في «التيار الوطني الحر» بعد التصعيد بين الطرفين في الإعلام، فاقم المشكلة. ووسط التعقيدات التي تحيط بالحلول، بعد انكفاء «حزب الله» - حليف الطرفين - عن التوسّط، وإعلان الحريري أنه «غير معني بما يُشاع» عن وساطة لحل خلاف الرئيسين، تفتح الأزمة النقاش على دور الشيعة في السلطة التنفيذية.

هواجس شيعية من الإقصاء
تحضر «هواجس» الشيعة المعلنة من إقصاء دورهم في السلطة التنفيذية، عبر استبعاد توقيع وزير المال على مرسوم منح أقدمية عام للضباط من دورة 1994، في الخلاف القائم في هذا الوقت، رغم نفي طرفي الخلاف أن يكون الموضوع طائفياً أو ذا بعدٍ يمسّ بـ«الميثاقية».
ويقول الوزير اللبناني الأسبق إيلي الفرزلي: «إن هناك نقاطاً في الدستور اللبناني، غالباً ما تكون نقطة تجاذب أو خلاف على تفسيرها، موجودة الآن بين الرئاستين الأولى والثانية، وقد تكون بين الرئاستين الأولى والثالثة، أو بين الثانية والثالثة»، وتابع في حديث لـ«الشرق الأوسط» موضحاً «كنا دائماً نقول يجب تطبيق الطائف والالتزام به، وإيجاد المرجعية الدستورية الصالحة للبت بالتفسيرات»، ومنادياً بتعزيز صلاحيات المجلس الدستوري في هذا المجال.
وحسب الفرزلي «في الحقيقة هناك وجهات نظر بالقصة الأخيرة، لا أنظر إليه على أنه خلاف على تثبيت صلاحيات الشيعة، رغم بعض الأصوات التي تحدثت عن هذه المقاربة. أنا أرى أنه كان يمكن أن يحدث لو كان هناك وزير مال من أي طائفة أخرى». وذكّر بخلافات كثيرة حول تفسيرات مواد دستورية في تجارب سابقة بين الرئاسات الثلاث، شارحاً «حاولت أن أستطلع حقيقة الخلاف وخلفيته بالنسبة للنقاط التي سمعتها حول سحب صلاحيات الشيعة بفعل الاتفاقات المسيحية - السنية أخيراً، وسألت جهات شيعية وازنة حول تلك المقاربة، لكن الجواب كان قاطعاً بالنفي... لكن في ظل وجود اختلاف في وجهات النظر حول تفسيرات دستورية، لا بد من وجود مرجعية لحل الخلاف، ويجب على مجلس النواب الجديد بعد الانتخابات أن يحل هذه المعضلة».
ورداً على سؤال عن «الهواجس» الشيعية المزعومة إزاء إقصاء دورهم من السلطة التنفيذية، لا يخفي الفرزلي أنه «قد تكون هناك هواجس عند البعض في ظل التوافق الذي جرى بين المسيحيين والسنة، لكنها ليست قراراً شيعياً عاماً. أستطيع أن أؤكد ذلك». وأردف النائب السابق لرئيس مجلس النواب إن ذلك «لا يعني أن العلاقة بين السنة والمسيحيين يجب أن تتوقّف، بل يجب أن تنمو وتترعرع وتتطوّر؛ لأن هناك مصلحة وطنية عليا في نمو العلاقة بين السنة والمسيحيين، وهي ضرورة وطنية ولزوم وطني أثمرت استقراراً في البلد وإنتاجية في العمل الحكومي»، مؤيداً في الوقت نفسه نمو العلاقة بين السنة والشيعة.

برّي متمسك بتطبيق «الطائف»
حتى هذا الوقت، لا يخرج المقرّبون من برّي الخلاف من إطار النقاش القانوني، مستندين إلى موقف رئيس مجلس النواب يوم الأربعاء الماضي، وقوله: إنه لن يضيف شيئاً على ما قاله في السابق حول ضرورة توقيع وزير المال على مرسوم ترقية الضابط.
وتتحدث مصادر مطلعة على موقف برّي عن إصراره على «الاحتكام للدستور»، واعتباره أن الجهة المخوّلة بفض الخلاف على تفسيره هي مجلس النواب، مؤكدة أن برّي طرح الحل القائم على أن يُحال المرسوم لوزير المال لتوقيعه كي يصبح نافذاً، وهو الاقتراح الذي لم يستجب له عون.
من جهة ثانية، تنفي تلك المصادر في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن تكون هناك هواجس شيعية من إقصاء الطائفة من دورها في السلطة التنفيذية الذي يتمثل بتوقيع وزير المال على المراسيم التي تترتب عليها أعباء مالية. وتؤكد «إن الاتفاقات السياسية جزء من الديمقراطية المعمول بها في لبنان (في إشارة إلى اتفاقات عون – الحريري)... وفي السياسة هناك تحالفات وخصومات، وهذا أمر طبيعي». ومن ثم، تشدّد المصادر على أنه «فيما يتعلق بالقانون والدستور، جميعنا تحت سقف القانون، وكل الأطراف متفقة على الدستور واتفاق الطائف الذي لا يجوز خرقه». ثم تقول: إن الخلاف «ليس طائفياً، ولكن مع ضرورة تطبيق القانون النافذ وتحاشي خرق الدستور واتفاق الطائف».

اتفاق الطائف
«اتفاق الطائف» حوّل حكم لبنان الرئاسي إلى حكم جماعي، وباتت السلطة التنفيذية ممثلة بمجلس الوزراء مجتمعاً، بعدما كانت محصورة برئيس الجمهورية يعاونه الوزراء. وبالتالي، كرّس إعادة توزيع الصلاحيات بشكل يضمن التمثيل العادل لكل الطوائف.
ومن ثم، تميزت مرحلة ما قبل الطائف بالنسبة للسلطة التنفيذية بـ«الثنائية في الحكم»، في إشارة إلى رئيس الجمهورية المسيحي الماروني ورئيس الحكومة المسلم السنّي، وباتت المراسيم تحتاج إلى توقيع رئيسي الجمهورية والحكومة، علماً بأن رئيس الجمهورية كان قبل يتمتع بصلاحية تسمية رئيس الحكومة وإقالته. أما في دستور ما بعد «الطائف»، فبات الحكم – كما سبقت الإشارة – لمجلس الوزراء مجتمعاً، وباتت المراسيم تحتاج إلى توقيع الوزير المتخصص إلى جانب توقيعي رئيسي الجمهورية والوزراء. وهنا أهمية توقيع وزير المال على أي مرسوم تترتب عليه أعباء مالية.
الدستور اللبناني، حتى بعد «الطائف»، لم ينص صراحة على تقسيم المواقع وتقاسمها، لكن هناك أعرافاً في الحياة السياسية كرّست المحاصصة. وبهدف إشراك الشيعة (الذين يتمتعون بترؤس السلطة التشريعية، أي البرلمان) في السلطة التنفيذية، جرى بعد «الطائف» اعتماد تقليد في أول حكومتين شكلتا في أعقاب توقيع الاتفاق التاريخي، كذلك وفي الحكومتين الأخيرتين أن تعطى وزارة المال للشيعة. وكان قد تولى هذه الوزارة خلال عقد التسعينات الوزير الراحل الدكتور علي الخليل، وفي آخر حكومتين الوزير الحالي علي حسن خليل.

معركة ما بعد الانتخابات
في أي حال، المؤشرات على أن الخلاف يأخذ الطابع الميثاقي، تتكرّر. ويتساءل الباحث السياسي جورج عَلَم «هل النأي بالنفس على أساس الاتفاق بين عون والحريري، يعيد الثنائية المارونية - السنّية، وبالتالي، يهمش الدور الشيعي؟»، ويجيب: «ثمة وجهة نظر تقول ذلك»، استناداً إلى ما قاله بري: إن «اللبنانيين دفعوا 150 ألف ضحيّة في الحرب الأهلية ثمناً لـ(الطائف)، لكي لا يكون قرار الدولة عند شخص واحد، بل عند مجلس وزراء يمثّل التوافق في البلد».
غير أن عَلَم يأخذ الخلاف إلى مرحلة ما بعد الانتخابات، متوقعاً أنه «لو اجتمع الرئيسان عون وبري، وأبرما اتفاقاً رئاسياً، يضمن لبرّي الاستمرار بالمجلس بعد الانتخابات المقبلة، ستُعالج المشكلة». ولكن، لا ينظر كثيرون إلى هذه الرؤية بوصفها واقعية، بالنظر إلى أن تمسك الكثير من الأطراف المؤثرة ببقاء برّي رئيساً للمجلس النيابي، يخفف من وقع هذا الخيار الذي يرفضه الآن، على الأقل: «حزب الله» و«تيار المستقبل» و«الحزب التقدمي الاشتراكي» الذي يترأسه النائب وليد جنبلاط.
لكن عَلَم، يوضح في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن «التفاهم الرئاسي بين عون والحريري، الذي أنعش الثنائية المارونية - السنية، أقلق الطائفة الشيعية ودفع برّي للطرح في دائرته الضيقة سؤالاً جوهرياً عن مستقبله في رئاسة المجلس إذا أجريت الانتخابات» المزمع إجراؤها في مايو (أيار) المقبل. ويضيف: «من حق برّي التساؤل هنا، كون الكيمياء بين الطرفين ليست على ما يرام منذ زمن. وكان بري قد أعلن صراحة يوم انتخاب عون أنه لن ينتخبه مع أنه أمّن نصاب الجلسة القانوني لانتخابه، في حين يعتبر عون أنه انتخب برّي مرتين لرئاسة البرلمان».
وحول معارضة أطراف مؤثرة لخيار استبعاد برّي من رئاسة المجلس، يقول عَلَم إنه «في الحسابات الحالية، بالتأكيد لا بديل عن برّي، ولا أحد يتجاوز الخطوط الحمراء بهذا الخصوص... لكن بعد الانتخابات قد تكون هناك خيارات أخرى بالنظر لكون لبنان ليس جزيرة معزولة عن التغييرات في المنطقة، والتحولات الدولية والإقليمية التي قد تنتج حسابات جديدة، قد تكون مشابهة للحسابات التي كرّست الاتفاق بين عون والحريري». وحتى الوصول إلى تلك المرحلة، لا يستبعد عَلَم تأثيرات الخلاف على العمل الحكومي، قائلا: إنها «واردة»، قبل أن يضيف «في ظل انقطاع الوسطاء وسكوت (حزب الله)، تظهر أجواء اليوم أن لا أمل بالانفراج قريباً»، ثم يستطرد «حياد (حزب الله) عن المشكلة بين حليفيه، سلبي». وللعلم: «حزب الله» كان قد أعلن في وقت سابق على لسان أمينه العام أن «الأزمة دقيقة ولبنان يحتاج إلى جهة دستورية قوية تحكم بالخلافات حول تفسير الدستور».

خلافات عون ـ برّي
برز التفاوت في علاقة الرئيسين نبيه برّي وميشال عون منذ عودة عون إلى بيروت في عام 2005. وفي حينه لم يكن عون جزءاً من «التحالف الانتخابي الرباعي» الذي جمع برّي والحريري وجنبلاط و«القوات اللبنانية». ورغم توقيع عون مذكرة تفاهم مع «حزب الله»، الحليف الأبرز لبرّي وشكلا معاً ثنائية شيعية – مسيحية مارونية، لم تحظ علاقة عون بالحرارة، لبري، بل وصفه برّي بأنه «حليف حليفي» (أي «حزب الله»).
وتفاقم التفاوت في العلاقة بين الطرفين في عام 2009 إبّان الانتخابات التي نافس فيها «التيار الوطني الحر» الذي كان يترأسه عون، مرشحي برّي التقليديين في منطقة جزّين (ذات الغالبية المسيحية) في جنوب لبنان، وأسفرت عن إقصاء مرشح برّي النائب الراحل سمير عازار خلال تلك الانتخابات في معركة أطلق عليها عون تسمية «استرداد قرار جزّين».
ورغم مشاركة الطرفين في خمس حكومات منذ عام 2008، لم تمنع المشاركة من التباينات التي تفاقمت في تمديد ولاية مجلس النواب التي رفضها عون، واصفاً مجلس النواب بأنه «غير شرعي»، لتصل إلى نقطة خلافية أكبر مع ترشيح برّي حليفه سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، وهو خيار رفضه «حزب الله» متمسكاً بترشيح عون للرئاسة. ومع ذلك، لم يخفِ برّي رفضه انتخاب عون، وكانت له الجرأة في تأمين النصاب في جلسة انتخاب الرئيس من غير انتخابه، وانعكس ذلك على علاقة الرجلين خلال مرحلة تشكيل حكومة الحريري 2016 بعد انتخاب عون رئيساً للجمهورية.
وامتدت الخلافات بعدها إلى قانون الانتخاب؛ إذ رفض برّي بصورة قاطعة أي تعديل على القانون النافذ الذي ستجري الانتخابات وفقه في مايو المقبل، رغم تلميحات الوزير جبران باسيل (صهر عون ورئيس «تياره») إلى رؤيته بإجراء بعض التعديلات. وبجانب المناكفات والخلافات التفصيلية في الحكومات اللبنانية حول قوانين ومراسيم مرتبطة بقضايا معيشية أو تلزيمات مشاريع، جاء الخلاف الأخير... الذي بدا مستعصياً حتى الآن في ظل غياب أي مبادرات تستطيع أن تحل الخلاف بين الرئيسين.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.