هموم العقل في عصر انفلات اللاعقلانيات

البازعي في مجموعة مقالات ومحاضرات تتناول قضايا العصر

هموم العقل في عصر انفلات اللاعقلانيات
TT

هموم العقل في عصر انفلات اللاعقلانيات

هموم العقل في عصر انفلات اللاعقلانيات

لا يأبه الدكتور سعد البازعي كثيراً لضعف التفاعل مع ما يشارك به من محاضرات وما ينشره من مقالات أو كتب متتالية تحمل طابعاً فكرياً تنويرياً متقدماً، ويصر على المضيّ قدماً في نشر مزيد منها لتضيف رصيداً رصيناً إلى المكتبة العربية، إذ إنه «سيظل هناك مَن يستحق أن يحفّز الاطلاع والاستجابة، مَن يستحق أن يكتب له وإن آثر الصمت وتوارى خلف ستر التردد أو الحيرة أو ضعف القدرة على التعبير»، كما يقول في مقدمة كتابه «هموم العقل»، الصادر عن المركز الثقافي العربي، عام 2016.
وكما جرت العادة مع كثير من كتبه، وهو ما أشار إليه في مقدمة كتابه أيضاً، يضم هذا الكتاب مجموعة من المقالات والمحاضرات التي سبق نشرها، وجُمعت بين دفتي كتاب هو أشبه بالبوتقة متجانسة الأفكار والرؤى والمنطلقات إلى حد كبير، يجمع فيما بينها مناقشة بعض الهموم الفكرية التي تطرق إليها عدد من أهم المفكرين والفلاسفة من ثقافات عالمية مختلفة.
- هموم العقل الأكاديمي
الكتاب مقسم إلى 8 محاور، جاء المحور الأول منها تحت عنوان «هموم العقل الأكاديمي»، ويضم 3 أوراق: الورقة الأولى حملت عنوان «الإنسانيات في عالم استهلاكي» وفيها ينعى الكاتب الحالة البائسة التي وصلت إليها حالة الدراسات الإنسانية في الجامعات التي أصبحت «آلات إنتاج موظفين وموظفات في القطاعين العام والخاص»، متحولة ومتخلية عن دورها المعرفي التثقيفي التنويري لتصبح مجرد ماكينة تفريخ موظفين وموظفات يسعون للحصول على شهادات تمكّنهم من الالتحاق بسوق العمل الطاحنة. ولأنه ليس إنساناً حالماً أو واهماً، فإن البازعي يدعو، للخروج من هذا المأزق، إلى أن تتخذ الإنسانيات موقفاً براغماتياً توفيقياً «لا تفقد فيه وجودها، المهدد أساساً، وذلك بأن تتوازن بين الاستجابة لحاجات سوق العمل وتعميق دورها الأساس وهو تقديم فكر ورؤية أعمق»، ثم يمضي لتأكيد ضرورة أن تتصف تلك الرؤية بالقدرة على إقناع المؤسسة الرسمية والأكاديمية ويراها المجتمع.
وتحت عنوان «الدراسات البينية وتحديات الابتكار»، يوجه صاحب كتاب «استقبال الغرب» مجدداً سهام نقده إلى الطريقة التي انتقلت فيها الدراسات البينية «أي الدراسات التي تلتقي في إطارها علوم مختلفة منها العلوم الإنسانية والاجتماعية» من محاضنها في الغرب إلى العالم العربي كما هي دون تغيير أو تعديل أو حتى تبيئة، فهي ليست نتيجة حاجة علمية معرفية لدينا بقدر ما هي محض استنساخ لما يحدث لديهم، أي في الغرب تحديداً. صحيح أن كثيراً من تلك الدراسات البينية كعلم النفس اللغوي وعلم الاقتصاد السياسي قد انتقلت إلينا، ولكن ما لم ينتقل -كما يرى البازعي- هو الدافع الأساس وراء امتزاج العلوم، ومن ثم فهو يؤكد أن ما تحتاج إليه الدراسات البينية هي «الروح النازعة للتفكير المختلف»، ويعني بذلك «النظر فيما ربط العلوم أو التخصصات المختلفة حسب التجارب العالمية للإفادة منها، مع عدم الوقوف عند تلك الأنماط من الربط، سعياً إلى أنماط جديدة، ليس لأنها جديدة أو مختلفة ولكن لأنها قد تكون الأكثر ملاءمة لاحتياجات علمية وبحثية نابعة من صميم الأوضاع الثقافية والاجتماعية وأكثر كفاءة في التعامل معها».
- في نقد الحضارة
في 3 مقالات متتابعة وتحت عنوان واحد يشكل أحد أقسام الكتاب هو «إدغار موران: في نقد الحضارة»، يقدم البازعي ما يشبه الخلاصة التعريفية بأهم أفكار وأطروحات المفكر الفرنسي إدغار موران الذي يُعد من أبرز المفكرين الغربيين الذين قدموا نقداً صريحاً وقاسياً للحضارة الغربية المتغولة التي لم تكن نعيماً كلها، كما يصر على ذلك كثير من المفتونين بها. ويرتبط موران، كما يشير البازعي، لدى كثيرين بمفهوم الفكر المركب الذي يعني الدعوة إلى «رؤية متزامنة ومتجاوزة للظواهر في المجتمعات الحديثة ولحركة التاريخ»، بمعنى أن موران يرى أن ظواهر مثل التحضر والبربرية تتزامن، «فالمجتمع الذي يُعد متحضراً قد يكون كذلك في جوانب منه وبربرياً في جوانب أخرى، وفي الوقت نفسه». إن التنمية الصناعية التي بشّر بها الغرب وكرس لها كل طاقاته وموارده «وطاقات وموارد مَن خضعوا لاستعماره» باتت -حسب موران- تشكل خطراً يتهدد البشرية على مستويين: خارجي يتمثل في التدهور البيئي، وداخلي يتمثل فيما يسميه «جودة الحياة»، ولا يقصد هنا المعنى المادي، بل المعنوي المتمثل في العلاقات الإنسانية القويمة والتوازن النفسي الفردي.
الفكرة الأساس التي ينقلها البازعي عن موران هي أن الحضارة الغربية قابلة للنقد والتفكيك والمساءلة، وهو ما يكاد يغيب لدينا نحن العرب الذين نواجه الغرب إما بخطاب هجائي لا يرى فيه إلا مصدراً للشرور، أو خطاب تمجيدي لا يرى في الغرب إلا كل ما هو إيجابي، وكلتا النظرتين تجانب الصواب، ومنبعهما ما يسميه البازعي «العمى الثقافي» الذي هو «اسم آخر للتعصب، سواء أكان مع الذات أم ضدها، ومع الآخر أو ضده».
- مَن هم المفكرون؟
بعد قسم-مقالة خُصص لعرض كتاب إدوارد سعيد الأخير «حول الأسلوب المتأخر»، ننتقل إلى قسم يضم 4 مقالات جاءت كلها تحت إطار-عنوان «مَن هم المفكرون؟»، تفتتح بمقالة تمحورت حول عبارة أدلى بها الكاتب خورخي لويس بورخس في حوار أُجري معه عام 1976. وصف بورخس نفسه في ذلك الحوار بأنه «مجرد أديب»، نافياً صفة المفكر التي ألحقها محاوره به. ولا يخفي البازعي بدوره دهشته من نفي بورخس لتلك الصفة عن نفسه، ويرى أن ذلك ينمّ عن تواضع كبير لدى بورخس «والأمر كذلك حقاً»، ولكن ألا تنمّ تلك الدهشة نفسها عن تقليل وحط من صفة ومكانة الأديب بشكل من الأشكال وبزاوية من الزوايا؟
في المقالة التالية «تساؤلات في زحمة المفكرين» يشن البازعي هجوماً على شيء من القسوة المستحقة بشأن التساهل في إطلاق مسمى «المفكر» على مَن لا يستحقه من الكتاب والمثقفين، وهذه الصفة أيضاً، أعني المثقف، غير بعيدة عن صفة المفكر، في التساهل في إطلاقها على من يستحقها ومن لا يستحقها. أما المقالة الثالثة فهي عرض لكتاب المثقف التنويري المعروف أحمد أمين الذي تناول فيه سيرته «حياتي». ويختتم هذا القسم بمقالة يعرض فيها الكاتب كتاب «الاضطهاد وفن الكتابة» لمؤلفه ليو شتراوس.
- حوارات فلسفية
وتحت عنوان «حوارات وتأملات فلسفية»، نقرأ عرضاً لكتاب احتوى حواراً بين اثنين من أهم الأسماء الفلسفية المعاصرة وهما الفرنسي آلان باديو «1937 - » والسلوفيني سلافوي جيجيك «1949 - ». ويخوض الفيلسوفان المتناقضان ليس في مواقفهما فحسب، بل حتى في طريقة حديثهما وهيئتهما، في حديث ممتد حول بعض أهم القضايا التي تشغل الفلاسفة المعاصرين مثل دور الفلسفة في قضايا الحاضر، وطبيعة الدور المنوط بالفيلسوف من مسائل عصره التاريخية والسياسية والاجتماعية، كما يدخلان في نقاش محتدم حول الديمقراطية التي تحولت إلى «صنم»، كما يشير جيجيك، إذ إن ثمة سعياً وحرصاً شديدين على المحافظة على قواعد وضوابط الديمقراطية بغض النظر عن النتائج التي تؤدي إليها حتى حين تكون غير مقنعة أو تنطوي على غش، إذ يجب القبول بها حفاظاً على اللعبة الديمقراطية نفسها.
- إشكاليات إثنية
في أطول أقسام الكتاب، وتحت عنوان «إشكاليات إثنية وعبر ثقافية»، يدرج البازعي 7 موضوعات ذات مساس بتصور الآخر لدى العرب والغربيين، وبمفهوم العدو وارتباطه بالثقافة، واختراع فكرة العدو كما يحللها أمبرتو إيكو، فضلاً عن التعريف بقراءة الفيلسوف الفرنسي آلان باديو للربيع العربي، ومناقشة مفهوم العنصرية في الفكر الأوروبي، بالإضافة إلى مقالتين حملتا عنواني «رسالة أوروبا وطموحات مفكريها»، و«ماركس واليهود».
ولأن الترجمة لا تكاد تغيب عن مؤلفات البازعي النقدية والفكرية، فقد تضمن هذا الكتاب قسماً خاصاً بالترجمة ضم مقالتين مطولتين ناقش فيهما الكاتب كتابين يتناولان بعض أكثر المسائل المرتبطة بالترجمة تعقيداً وإثارة للإشكاليات: الأول هو «مفردات في الفلسفة الأوروبية: معجم لما يقبل الترجمة»، والآخر هو «الترجمة والقوة»، ويضم أبحاثاً لعدد من الاختصاصيين بالترجمة «بوصفها نشاطاً فكرياً وتطبيقياً».
- معايشات الحرية
القسم الثامن والأخير من الكتاب احتوى على قراءة وعرض مطول لكتاب «معايشات الحرية» الصادر قبل 4 أعوام، وهو معنيّ بموضوع الحرية في الآداب والثقافات الما بعد كولونيالية «الما بعد استعمارية»، ويُقصد بها تلك التي عاشت التجربة الاستعمارية ومن ثم مرحلة التحرر من الاستعمار. ويسلط البازعي الضوء على عدد من الأبحاث الثلاثين التي ضمها الكتاب في 6 محاور، منها: الفكر الأسود، وفلسفة المقاومة، وخطابات المقاومة، وثقافة المستعمر في السودان، ومقاومة الكاتبات. أما المقالة الثانية والأخيرة في الكتاب فخُصصت لعرض ومناقشة كتاب «جدل العولمة» للكاتب الكيني نغويي وا ثيونغو، الذي صدر عام 2013. وصدرت ترجمة الدكتور البازعي له عام 2014 عن مشروع «كلمة» في أبوظبي.
* كاتب سعودي


مقالات ذات صلة

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)
ثقافة وفنون «حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

قد يفاجأ القارئ الاعتيادي الذي يقرأ هذا النص السردي الموسوم بـ«وجوه من حجر النرد»، الصادر عام 2024، كونه لا يمت بصلة لفن الرواية الحديثة

فاضل ثامر
ثقافة وفنون أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

في مجموعته القصصية «العاقرات يُنجبن أحياناً»، يُجري الكاتب المصري أحمد إيمان زكريا مفاوضات ضمنية بين المُمكن والمستحيل بما يُشبه لعبة الشدّ والجذب

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون «ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

في ديوانها الرابع «ذهبُ أجسادهن» الصادر عن دار «كتب» ببيروت، تسعى الشاعرة المغربية عائشة بلحاج إلى رصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق أجمل ما يحدُث هو غير المُتوقَّع (مواقع التواصل)

من «لم أَبِع كتاباً» إلى «الأكثر مبيعاً»

أكّدت كاتبة بريطانية طموحة أنّ رؤية روايتها تُصبح من أكثر الكتب مبيعاً بعدما انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي كان ذلك أمراً «مثيراً جداً».

«الشرق الأوسط» (لندن)

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية
TT

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري تتعلق بفترة الحملة الفرنسية على مصر وما قبلها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

ويعد الكتاب الصادر أخيراً عن دار «الكرمة» بالقاهرة بمثابة قراءة نقدية لسيرة واحد من أشهر المؤرخين المصريين في العصر الحديث عموماً والحملة الفرنسية التي عاصرها بشكل خاص وهو عبد الرحمن الجبرتي (1756 - 1825) صاحب الكتابين الشهيرين «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» و«مظاهر التقديس في زوال دولة الفرنسيس».

يشير عيسى في البداية إلى أن الصعوبات في اكتشاف منهج الجبرتي كمؤرخ تتحدد من خلال عدد من الحقائق، منها أن بعض الباحثين يصنفون الرجل في خانة «الإخباريين» ويرون أن كتابيه مجرد «يوميات» كُتبت في أوانها أو هي «إضمامة» تضم جهد مخبر صحافي غير نشيط.

والجبرتي عند هؤلاء صحافي تلك الأيام التي أرخ لها، وبينما يتحفظ بعضهم فيكتفون بإطلاق الحكم مع بعض قيود على كتاب «مظهر التقديس» فيقولون إن الجبرتي كان فيه كاتب مذكرات أكثر منه مؤرخاً، فإن هذا الحكم يشمل عند آخرين «عجائب الآثار» وبلا تحفظات فهو عندهم كتاب ليس من التاريخ في شيء إنما هو مذكرات وروايات قيد المؤلف شواردها بغير ترتيب ولا تنسيق، تصلح أن تكون مادة للمؤرخ مع شيء غير قليل من الصعوبة والعناء. ولأن «الإخباريين» في رأي البعض ليسوا أصحاب منهج أو موقف، فإن البحث في ذلك عند الجبرتي أمر غير وارد.

ويتفرع عن هذه الصعوبة أن الجبرتي كان معاصراً لمرحلة تزيد على خمسة وأربعين عاماً، كما تشكل أكثر من ثلث الزمن الذي أرخ له، فبعض من ترجم لهم كانت تربطه بهم وشائج وصلات بين صديق له وشيخ تلقى عنه العلم، فضلاً عن تلامذة أبيه وأنداده، حتى أن بعض الحوادث التي أرخها كان طرفاً فيها. وهو ما يجعل جهده كمؤرخ معيباً بالمعاصرة، وهي حجاب يحول دون الرؤية الموضوعية وينقله إلى حيث يصبح مجرد «شهادة معاصر» وليس تأريخاً، وبالتالي فلا محل لاكتشاف منهج أو رؤية، إضافة إلى أن الموقف يتعقد لأن الجبرتي نفسه قليل التعليقات ومعظم أخباره صماء لا يتجاوزها إلى مقارنتها أو تحقيقها أو تفسيرها، وهو يصوغ أحكامه غالباً في كلمات مبتسرة تنطوي تحت مظلة الأحكام الأخلاقية، من مثل: هذا التصرف «ظلم» أو «سخافة» أو «خزعبلات»، وهذا الأمر «شنيع جداً». وهذا الشخص «لعين» أو «كافر»، وبعضها عبارات لا تعكس رأياً في الحدث ولكن استكمالاً للخبر.

لكن صلاح عيسى الذي كتب هذا الكتاب في السبعينيات، وينشر لأول مرة بعد وفاته يعود بحسه كمؤرخ ويؤكد أن تصنيف الجبرتي في خانة «الإخباريين» بشكل مطلق هو خطأ بلا جدال، ولكننا مع افتراض صحته لا نرى أن الإخباريين ليسوا أصحاب منهج أو موقف. والواقع أن اختيار أخبار معينة وإهمال غيرها والحرص على الترجمة لأفراد معينين وترك الآخرين، لهو سلوك يعكس بحد ذاته وجهة نظر ضمنية. وعلى سبيل المثال، فإن الجبرتي في «مظهر التقديس» أغفل من حوادث شهر ربيع الأول 1216. وفق التقويم الهجري، وشهر ربيع الثاني من العام نفسه أكثر من نصف حوادثهما. وعاد في كتابه الثاني «عجائب الآثار» فأورد حوادث الشهرين متكاملة بحسب جهده في التجميع.

ويفسر حجب هذه الأخبار ثم إيرادها موقفاً له، فقد كانت كلها تسجيلاً لقبائح وجرائم ارتكبها العثمانيون عندما دخلوا القاهرة مرة أخرى. وبصرف النظر عن دلالة هذا فيما يتعلق بموقفه من العثمانيين، فهو أيضاً يعكس دلالة على أن الخبر ليس دائماً عرضاً لواقع أصم، ولكنه اختيار من هذا الواقع وما يتحكم فيه هو وجهة النظر أو المنهج، بل إن ترتيب بعض مباحث الكتاب نفسها يمكن أن يكون ذا دلالة.

ويرى صلاح عيسى أنه برغم أن معاصرة المؤلف للحقبة التي يرويها عنصر له تأثيره، فإن هذا التأثير يقل كثيراً هنا، لأننا نعلم أن الجبرتي لم يسجل أخباره هكذا في حينها تاركاً إياها مادة خام دون تنسيق أو تعديل. لافتاً إلى أن الدافع للجبرتي على كتابة تاريخه معروف فقد كلفه أستاذه الزبيدي في عام 1779 حين كان الجبرتي في الخامسة والعشرين من عمره بمساعدته في الترجمة لأعلام المائة المنصرمة من مصريين وحجازيين، والمراحل التي مر بها تاريخ القرن الثالث عشر الهجري، ثم دوّن بعد ذلك يوميات للمراحل التي عاصرها. المهم في هذا كله ّأن النص الذي تركه لنا الجبرتي ليس هو نص تدويناته اليومية التي كان يسجلها، ولكنه عمل تفرغ له فيما بعد لإعادة تنسيق ما كتب وتبويبه وكان وقتها قد جاوز الخمسين من عمره.

كما أن بعض الظواهر التاريخية كانت قد استكملت ملامحها، وهو بالقطع ما أتاح للجبرتي فرصة للتخلص من تأثير المعاصرة في حدودها الضيقة ومكنه من استخلاص نتائج ربما لم تكن واضحة أمامه وهو يسجل الأحداث اليومية وقت حدوثها ونقل عمله بدرجة محدودة من إطار الأخبار الأصم إلى أفق أكثر رحابة.

ولأن التاريخ عند الجبرتي هو تحقيق لإرادة عليا لا يملك الإنسان الفكاك منها وكل ما حدث له من مظالم هو «انتقام سماوي» لخروجه عن الناموس، فقد كان طبيعياً أن ينظر إلى التكوين الاجتماعي باعتباره خاضعاً لتركيب طبقي حديدي يخضع فيه الصغير للكبير والدنيء للشريف والأدنى للأعلى. في هذا الصدد يبدو الجبرتي أكثر تزمتاً من أي شيء آخر، فكل شيء لا يداني عنده الإخلال بالتصميم الاجتماعي المستقر، فعلى المماليك وهم القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية المتنامية والقادمة من خلفية العبودية والرق أن يتبعوا التقاليد تجاه أمرائهم، فإذا ما خرجوا عنها أثاروا غضبهم. ومن ثم يرى الجبرتي أن من الأحداث التي تستحق الرواية أن المماليك قد تزوجوا وصار لهم بيوت وخدم ويركبون ويغدون ويروحون ويشربون وفي أيديهم شبكات الدخان من غير إنكار وهم في الرق ولا يخطر ببالهم خروجهم عن الأدب لعدم إنكار أسيادهم وترخيصهم لهم في الأمور.

لم يكن غريباً أن يكون من أعمال «هيئة الديوان»، التي كان الجبرتي من أعضائها على عهد قيادة الجنرال مينو للحملة الفرنسية، أن يحذر القائد الفرنسي الذي خلف نابليون بونابرت من الثورة الشعبية، وأن يصوغ تحذيره في أن الثورة يقوم بها الدهماء فلا يخسرون شيئاً، وإنما يخسر الذين يملكون المال أو النفوذ، فقد ذكر أن أعضاء الديوان المذكور دعوا مشايخ الحارات والأخطاط وحذروهم مما يترتب على قيام المفسدين وجهل الجاهلين، وأن مشايخ الحارات هم المأخوذون بذلك كما أن من فوقهم مأخوذ عنهم، فالعاقل يشتغل بما يعنيه.

ومع ذلك، لا يبدو الجبرتي في تأريخه لثورة 1805 التي قام بها المصريون ضد الاحتلال الفرنسي للبلاد، معارضاً لها، بل إننا نستشعر روحاً من التعاطف في روايته لأحداثها، فقد خلت عباراته من أوصاف «الأشرار» و«أوباش الناس» في وصف الجماهير. وفي كل المناقشات التي دارت بين قادة الثورة والوالي العثماني والتي كان الثوار فيها يستندون إلى أن من حقهم بمقتضى الشريعة أن يعزلوا ولي الأمر إذا سار فيهم بالظلم، بدا الجبرتي موافقاً على هذا الرأي ووصف رفض الوالي له بأنه «خلاف وعناد».