لعل أمر الانصراف النقدي والفكري عن الاهتمام بالسرد في تراثنا، والانحياز إلى الشعر دراسة وفناً من أعقد المشكلات التي يمكن الخوض فيها؛ لتداخل الأسباب وتعددها، ففي المسار الديني، ظهرت خطورة القص في لحظة بدء جمع الحديث الشريف؛ الذي تزامن مع تكاثر القصاص في العصر الأموي، وأوائل العصر العباسي، فقد كثر الوعَّاظ والمذكِّرون الذين كانوا يستخدمون القصص في الترغيب والترهيب بأحاديث موضوعة في الغالب، مما حمل الخلفاء والفقهاء على التصدي لهذه الظاهرة، فهذا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يسأل زرعة القاصَّ الذي اشتهر بالقص في الكوفة: علام ثبات الدين؟ فلما تأكد من علمه بالأمور الشرعية سمح له بالقص، وهذه أم أبي حنيفة تسأل ابنها أن يحملها إلى أحد القصَّاص لتستفتيه في أمر يخصُّها، فقال لها: «أنا صاحب الفتيا في العراق، هل لي أن أفتيك؟»، فأصرَّت عليه، فحملها أبو حنيفة براً بها إلى ذلك القاص، وتقتنع بما قاله القاص لها، كما عُرف عن أحمد بن حنبل تصديه لظاهرة القصَّاص حيث يقول: «ما أحوجنا إلى قاصٍّ صدوقٍ»، ويقول أيضاً «ما أكذب القصَّاصَ والسُؤْال»، وبعد ذلك يأمر الخليفة العباسي المعتضد بالله بمنع القصاص؛ الذين انتشروا في بغداد من القص في الجوامع والطرقات، بعد أن رأى العامة تلتف حولهم وتتقرب منهم، فهل الخليفة كان يخشى التأثير السياسي لهؤلاء القصاص، أم أن سطوة المؤسسة الدينية كانت نافذة بحيث دفعت الخليفة إلى إصدار أوامره لمنع القصاص؟ أم أن انفصام ثقافة النخبة عن العامة، أتاحت لهؤلاء القصاص أن يحددوا جمهورهم المستهدف؟ أم إلى الدور التعويضي الذي تلعبه القصة في نفوس العامة؟ هذه أسئلة ينبغي أن تحضر عند مقاربة العلاقة المرتبكة بين الشعر والسرد في تراثنا.
وفي مقابل التضييق على القصاص، كان الشعراء يستقبلون في المحافل، وتفتح لهم أبواب البلاط، ويُحتفى بهم ويُكَرمون، ولم يجد الشعراء نهياً ولا أمراً بعدم القول في أي أمرٍ يرونه مناسباً للقول، فقد تعددت تجارب الشعراء حتى تجاوزت المسموح الديني، كما في شعر أبي نواس وبشار بن برد ومسلم بن الوليد وغيرهم، لقد تبلور ما يشبه الموقف الجماعي بين الديني والسياسي والثقافي على التماهي مع الشعر، والتصدي في الوقت نفسه لظاهرة نمو الفنون السردية، وقد يُحتجُّ بالمقامة والاهتمام بها، غير أن أمر المقامة لم يؤخذ من زاوية سردية، بل من زاوية لغوية بلاغية، فهي في ذلك أقربُ إلى الدرس النقدي الذي حظي به الشعر، وعندما استقبلت المقامة سردياً استقبلت على أنها هزلٌ مسلٍ ليس إلا، وليست من ثمَّ من أدب الخاصة، وهذه النظرة الطبقية إلى الفنون تضخَّمت حتى فجَّرت العامة نصها الخالد «ألف ليلة وليلة»، فسخرت من الخاصة أيما سخرية، ومن يعود إلى الليالي يلحظ اهتمامها المثير بانتهاك معاقل الخاصة؛ المتمثلة في بلاط الخلفاء، ويلحظ أيضاً الانتصار غير المسبوق للمرأة في تراثنا، وهي متلازمة أخرى بين قمع السرد وقمع المرأة، ولعل كتاب «بلاغات النساء» لابن طيفور قد جسد هذه اللعبة الطبقية، عندما جمع أقاصيص تنتصر فيها المرأة على حساب الرجل، وليس أي رجل، بل الخليفة رمز السلطة في أعلى مستوياتها.
لقد كان خطابنا الثقافي منقسماً إلى خطابين متضادين: خطابٌ نخبويٌّ، وآخر شعبويّ، احتضن الخطاب النخبوي الشعر، ووظَّفه لخدمة سياقاته السياسية والاجتماعية، فكان حاضراً ومواكباً لاحتفالات البلاط السياسي، والمحافل الاجتماعية الكبرى، أما الخطاب الشعبوي فقد استغل الإمكانات السردية لمواجهة السلطة، وما «كليلة ودمنة»، و«نصوص المقامات»، و«ألف ليلة وليلة» وغيرها إلا أمثلة على مقاومة النخبوي سياسياً واجتماعياً. فهل يمكن أن نتكيف مع هذه الفرضية؟
بمراجعة العديد من الأدبيات والمقولات والملاحظات في سياق نشوء وتطور الأدب العربي شعراً وسرداً، يجب أن نحرِّر أمراً في غاية الأهمية، يضاف إلى إشكالية ازدواجية الخطاب الثقافي، وهذا الأمر يتعلق بالناحية المصطلحية، فإذا كان الشعر قد تحدد بمصطلحه قديماً وحديثاً، واستقرَّ هذا المصطلح حتى في الخطاب القرآني، فإن من معضلات السرد في تراثنا العربي غياب المصطلح الذي يجمع شتات الفنون السردية من حكاية ونادرة وطرفة ومقامة ومثل وغيرها، تحت اسم جامع يحدد هويتها في مقابل الشعر، وإنَّ عدم ربط الفنون السردية في سياقٍ يجمعها أضعف من شخصيتها أمام الشعر المستقل باسمه، الجامع لشخصيته.
فالنثر (المصطلح) الذي استخدم في مقابل السرد تتداخل فيه أنواع أخرى غير الفنون القصصية، فالخطابة والمنافرات والمفاخرات وسجع الكهان، وبعد ذلك كل الكتابات النثرية في علوم العربية والنقد والتاريخ والتفسير وغيرها تحشر في هذا المصطلح، وهو ما تنبه إليه النقاد العرب في مطلع القرن العشرين، وخصوصاً زكي مبارك وطه حسين، عندما أطلقوا مصطلح النثر الفني لتمييز الفنون الحكائية عن غيرها من أشكال النثر، ورغم أن هذا المصطلح يعد تحولاً جاداً في النظر إلى مفهوم الفنون السردية، إلا أنه ما يزال قاصراً عن تحديد الهوية السردية للفنون الحكائية الخصبة بجمالياتها والغنية بمدلولاتها، غير أن هذا المصطلح لم يكن كافياً؛ ليدل على سردية النص، فهذا الدكتور علي الراعي يضع رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل في خانة وسطٍ بين الرواية والنثر الفني، ففي نظره لم ترق رواية «زينب» لفن السرد الروائي، لكنها نثرٌ فني يرتقي عن النثر العادي، ولم يتم تجاوز هذه الإشكالية المصطلحية إلا في أواخر السبعينات الميلادية من القرن الماضي، عندما تمت الاستفادة من التحولات النظرية السردية في الغرب، وأصبح مصطلح «السرد» هو السائد في تعريف الفنون السردية المختلفة تراثية كانت أم عصرية.
إن المحطات السردية الضخمة التي أنتجها الأدب العربي مثل «كليلة ودمنة»، و«البخلاء»، و«المقامات»، و«رسالة الغفران»، و«رسالة التوابع والزوابع»، و«أدب الرحلات»، و«ألف ليلة وليلة»، والسير الشعبية على اختلاف أنواعها، بالإضافة إلى قصة «مجنون ليلى» التي تعددت روايتها في الكثير من المصادر، ولعل أشهرها ما رواه صاحب «الأغاني»، كل هذه المحطات استقبلت متفرقة بوصفها إنتاج أفراد لا ظاهرة متماسكة تنمو باتجاه أفقٍ سردي متعاظم النمو والازدهار؛ الذي بلغ ذروته في «ألف ليلة وليلة»: ما مسؤولية الدور النقدي الذي كرَّس اهتمامه بظاهرة الشعر شرحاً وتمحيصاً وتبويباً وتصنيفاً؟ وفي المقابل، ظلَّ الجهد السردي ينمو بعيداً عن دوائر التأثير الثقافي، فلم يدرس ولم يصنف ولم يبوب؟
هنا ظهر حجم المشكلة، فعندما استفاق العرب في عصر النهضة في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فتشوا عن تراثهم القصصي، فوجدوه مهملاً، لم تبنَ مساراته بالتوازي مع الشعر، لقد وقع الارتباك عند رواد النهضة المشتغلين بالكتابة القصصية من أمثال ناصيف اليازجي وأحمد فارس الشدياق، فقلة من الكتاب رأت ضرورة الاشتغال على المنجز السردي القديم، لكن أين هو؟ لم يجدوا سوى المقامة التي لها شخصية مميزة، بوصفها نصاً يمكن أن يحتذى، ومع ذلك، لم يكن الأمر مقنعاً ومشجعاً، فالتفتوا إلى السرد القادم من الغرب في شكل الرواية والقصة القصيرة التي كانت حاضرة في الترجمات الكثيرة، وفي هذه اللحظة استشعر محمد المويلحي ضرورة الإفادة من الشكلين العربي والغربي معاً، فقدَّم مغامرة روائية ذكية بعنوان «حديث عيسى بن هشام» حاول فيها أن يجمع بين شكلين، المقامة في شكلها الثنائي (الراوي والبطل)، والرواية المنفتحة في أفقها الزمني، وفي حركتها وإيقاعها الذي يقترب من نبض الواقع، لكن هذه التجربة لم يستفد من فكرتها إلا في أواخر الستينات عندما بدأ جمال الغيطاني، ونجيب محفوظ، وواسيني الأعرج، وغيرهم بالقيام بمهمة استلهام التراث السردي، لكن هذه المرة بوعي قومي وجماليٍ، قومي؛ لتزامن هذه التجربة مع المد الوحدوي والقومي الذي سعى لإعادة تأسيس التراث القومي، وجماليٍّ؛ لما في هذه التجربة من غنى جمالي وإنسانيٍ، وإن من يقرأ روايات الغيطاني يدرك الكنوز السردية الهائلة التي يحفل بها التراث السردي التي ظلت غائبة أو مغيبة لأسبابٍ كثيرة.
وأريد أن أختم بملاحظة تستحقُّ أن نتوقف أمامها، ولعلَّها تلخص أزمة العلاقة بين الشعر والسرد: ألا تلاحظون معي أن هناك علاقة بين الانتصار والشعر، وعلاقة أخرى بين السرد والهزيمة! الأمر ليس لغزاً، بل ملاحظة أرى أنها جديرة بالنظر، فعلى مدى قرونٍ تمتَّع الشعر بمنزلة رفيعة، لكنَّ ذلك كان ارتباطاً بحال الأمة المنتصرة عسكرياً وسياسياً، المتماسكة حضارياً وإنسانياً، فكان الشعر حاضراً؛ لاستثمار حالة الانتصار هذه، فحضر في المعارك، والحروب، وفي الجدل السياسي، وفي بلاط الخلفاء، وعندما فقدت الأمة زهوها وانتصارها انحسر دور الشعر المتباهي بالانتصار؛ ليأتي دور السرد معوضاً الانكسار بالحضور، وتغذية الوجدان العام؛ الذي لم يعد للشعر فيه الدور الفاعل، وفي الحديث: «إن بني إسرائيل لما هلكوا قصوا»، الألباني في السلسلة الصحيحة، 4-246. فلم تنتشر قصص بني إسرائيل إلا في حال شتاتهم وضعفهم، فهو أمرٌ يكاد يكون لازمة بين فنون السرد والهزيمة، مثلما الأمر بين الشعر والانتصار.
كلُّ الفنون العظيمة مثل «ألف ليلة وليلة» والسير الشعبية، ظهرت في العصور المتأخرة في وقت انكسار الأمة، وضعفها، وتمزق مركزيتها، وغاب الشعر الذي فقد روح الانتصار في الأمة، وتحول إلى ألغازٍ وإخوانيات، وانعدمت روح الإبداع والابتكار، ورغم وجود استثناءاتٍ هنا وهناك، فإنها لا تغيِّر المعطى العام الذي يؤكد ضعف الشعر وازدهار السرديات منذ القرن العاشر الهجري، حتى مطلع القرن العشرين بعد حركة إحياء الشعر، وعليه يمكن أن نقول إن الشعر للانتصار والسرد للهزيمة، أي أن الشعر يصلح لعصور انتصار الأمة وحيويتها، وإذا ضعف حال الأمة جاءت السرديات؛ لتؤسس خطاب ما ينبغي أن يكون وليس ما هو كائنٌ، وهو خطابٌ يعزِّز القيم المعنوية في غياب حالة الانتصار، فمن يقرأ «سيرة عنترة» يلحظ اتحاد الشعوب تحت راية واحدة، وهو تعبيرٌ رمزي يعوِّض غياب الوحدة والقوة في حال الأمة.
ولأن واقعنا الرَّاهن ما زال يغرق في الضعف والفرقة والتنافس، فلا صوت يعلو فوق صوت السرديات المقروءة، والمرئية كالدراما التلفزيونية، فالزمن زمن الرواية كما أشار إلى ذلك العديد من النقاد، والشواهد أبلغ من شهادات النقاد، فالرواية حاضرة على مستوى الإبداع والتلقي والنقد بمعايير غير مسبوقة.
هل لأنَّ هناك إدراكاً متأخراً لأهمية السرد فاحتلَّ الصدارة، أم هي حتمية التاريخ تفرض فنونها وأجناسها؟ إنَّ الحضور لا يقاس بالكم، لكن يقاس بالتأثير، وبهذا المعنى، تحتلُّ الرواية، على وجه الخصوص، صدارة القول الأدبي، متمكنة من القراء بدرجاتٍ مقروئية غير مسبوقة.
أما القول بتفوق الرواية على الشعر، فهو قولٌ قادمٌ من سنوات الإحباط التي عانى منها السرد، قولٌ يتغافلُ عن الاشتراطات المعرفية، والحتميات التاريخية، التي بُنيت عليها العلاقة الفكرية بين الشعر والسرد، فحضور الرواية بهذا الزخم ليس موتاً في المقابل للشعر، بل إشكالية الشعر في ذاته لا في غيره.
هل هذه الظاهرة، ظاهرة التنافر لا التجاور بين الشعر والسرد ظاهرة طبيعية؟ مرة أخرى أعتقد أننا أمام مكتسبين يجب الاهتمام بهما معاً، ورغم أن حضور السرد، وقوة تأثيره ونفوذه، أمرٌ حتميٌّ، وليس ناتجَ وعي أو تحولٍ في الذهنية النخبوية، فهناك من لا يزال ينظر بعين النقص للفنون السردية من باب الاستعلاء أحياناً، كون السرد ارتبط في أذهانهم باللهو والهزل، وبالعامة لا الخاصة. كما أن تراجع الشعر يعود ربما إلى انفصاله عن الفواعل الاجتماعية، وانفتاحه على تجارب غربية منها قصيدة النثر التي سجلت الصدمة وبقيت محدودة التأثير.
* أستاذ السرديات في جامعة الملك عبد العزيز بالسعودية