أوروبا تعيش قلق العائدين من «المهجر المتطرف»

مخاوف من تحول المقاتلين الأجانب إلى «خلايا نائمة»

مقاتل أجنبي في ولاية الرقة قبل اندحار التنظيم وهزيمته («الشرق الأوسط»)
مقاتل أجنبي في ولاية الرقة قبل اندحار التنظيم وهزيمته («الشرق الأوسط»)
TT

أوروبا تعيش قلق العائدين من «المهجر المتطرف»

مقاتل أجنبي في ولاية الرقة قبل اندحار التنظيم وهزيمته («الشرق الأوسط»)
مقاتل أجنبي في ولاية الرقة قبل اندحار التنظيم وهزيمته («الشرق الأوسط»)

يستحيل اجتثاث التنظيمات المتطرفة وإغفال ما تخلفه وراءها من مقاتلين شرسين يعودون إلى أوطانهم بلوثة أفكارهم وشراسة رغباتهم بإلغاء وتدمير الآخرين، إذ يستحيل أبناء جلدتهم أغراباً عنهم ينبغي القضاء عليهم. تحتّم هذه الإشكالية التوغّل في كيفية معالجة المقاتلين العائدين من «المهجر المتطرف»، إذا كان من سبيل لإعادة تأهيلهم.

إذ يختلف ذلك حسب الحالة النفسية للمقاتل ومدى تشبّعه بالأفكار المتطرفة، وقناعته بمبادئها، أضف إلى ذلك مبلغ مركزه في التنظيم؛ إذ من النادر أن يرضخ قيادي في التنظيم للأنظمة والقوانين الدولية، بل يفضّل الموت في سبيل قضيته التي سيخسر إن تركها كل صلاحياته وامتيازاته. يبقى على وجه العموم ملف المقاتلين الأجانب شائكاً صعب المعالجة، الأمر الذي حدا بعدد من الخبراء في مجال الأمن والإرهاب بأن يفضلوا إبادتهم والتخلص من فكرهم لدرء متاعبهم عن أوطانهم إن قرروا العودة إليها. ويتجلّى ذلك عبر تأكيد المبعوث الرئاسي الأميركي الخاص بالتحالف الدولي لمكافحة تنظيم داعش بريت ماكغورك حرص التحالف على التخلص من مقاتلي «داعش» المتبقين في سوريا وقتلهم هناك.
منذ إعلان رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي الانتهاء من تحرير «آخر معاقل» تنظيم داعش في العراق والتخلص من مناطق هيمنة التنظيم، تصاعد القلق الدولي حيال الأعداد الكبيرة من المقاتلين الأجانب ممن لاذوا بالفرار وتوجهوا ناحية الصحراء محملين بفكرهم المتطرف وعزمهم على نقل التخريب والدمار في أماكن أخرى.
وتتمحور الخطورة في المقاتلين الأجانب على وجه التحديد، خصوصاً أولئك العائدين إلى أوطانهم ممن يعزمون على الانصهار بالمجتمع كأشخاص أسوياء، إلا أنهم عبارة عن خلايا نائمة على استعداد للهجوم من جديد في حال تم استنهاضهم من خلال أعضاء آخرين للتنظيم، سواء كان ذلك عبر عمليات أحادية كـ«ذئاب منفردة»، أم من خلال أعمال مشتركة؛ فعدم وجود بيئة خصبة كمعقل للتنظيم حتّم نقل ساحة العراك الداعشي من مناطق الاضطراب السياسي إلى النواحي الآمنة من العالم، وتحويل السلطة التنظيمية لها من مناطقية شملت العراق وسوريا إلى سلطة إلكترونية تتواصل مع المتعاطفين والمنضمين للتنظيم عن بُعد بوسائل متنوعة تتغير حسب مدى تضييق خناق السلطات عليها، فعلى الرغم من القيود والرقابة المكثفة التي تمارسها السلطات الدولية إلكترونياً، فإن تصريحات المتطرفين والبث المرئي لهم والتوجيهات للمؤيدين لم تتلاشَ من الوجود.
وقد تصاعد في الدول الأوروبية على وجه التحديد قلق تغلغل المقاتلين لديهم، مما أثقل كاهل السلطات الأمنية لديهم، لا سيما مع تصاعد عدد اللاجئين والأقليات في تلك الدول، ممن يحمل قابلية الشعور بالتهميش والاختلاف عن الآخرين، مما يفضي لسهولة انقيادهم نحو التطرف، ومن ثم الانضمام لتنظيمات إرهابية، خصوصاً إذا ما قوبل بأعضاء داعشيين حملوا مجد خوض تجربة «الخلافة الداعشية» الغابرة، فيصبح خطاب الكراهية ومبادئ القتل والتخويف جاذبة، وفكرة دخولهم معسكرات تدريبية للقتال أو حتى مجرد المشاركة في ساحات المعارك وقتل الأبرياء مسببات لتعظيمهم والأخذ بتوجهاتهم.
بعيداً عن التنظير، فإن عدداً من الحيثيات تعكس جهود تنظيم داعش الحثيثة نحو استعادة مجده المنحسر من خلال تكثيف تخطيطه ونقل توجهاته التخريبية إلى القارّة الأوروبية، حسب تقرير صدر من مركز بحوث تسلح الصراعات، فإن ثلث أسلحة تنظيم داعش المكوّنة من بنادق آلية وقاذفات الذخائر صُنِعت في الاتحاد الأوروبي في عدة دول، مثل رومانيا والمجر وبلغاريا. وهو الأمر ذاته الذي حذر منه الخبير المختص بالإرهاب البروفسور بروس هوفمان، إذ نوه بأن آلاف المقاتلين الأجانب قد لاذوا بالفرار من مناطق الصراع، وعدد كبير منهم يقبع في دول البلقان في انتظار الفرص المناسبة للتغلغل في بقية الدول الأوروبية. ذلك التوجه الداعشي نحو المدن الأوروبية بعد خسارة معاقله لا يتأتى بسبب سعيه لإيجاد مناطق أخرى وطرق بديلة للتنظيم، بعد أن قام التحالف الدولي بتشريده من مناطق النزاع وقتل أعداد كبيرة من أعضائه فيها.
يأتي ذلك أيضاً سعياً في استغلال التركيبة الديموغرافية لأوروبا، المؤلفة من أقليات من الممكن استغلال أو إقناع البعض منهم بالانضمام. كما أن من الصعب تقصي واكتشاف الخلايا النائمة المتخفية داخل المجتمع، التي تم غرسها، فمن الصعب تمييزها عن الآخرين، خصوصاً أن هناك فعلياً عدداً من المقاتلين العائدين من ساحات القتال، وهم محملون بخيبة الأمل في تنظيم داعش، سواء نتيجة توغّله في العنف والسعي في إبادة الآخرين أو كونه مغايراً للشعارات الدينية أو الوطنية التي كان ينادي بها من أجل تحرير العراق أو سوريا على سبيل المثال، أو حتى على اعتبار أن معاقلهم بمثابة ملاذ للمتطرفين.
تلك الخيبة تزداد مع استيعاب حقيقة التنظيم واكتفائه بالعنف والقتل والتخريب وتغافل الشعارات التي استقطب بها الآخرين من قبل. مثل هذه الفئة الراغبة في الاندماج في المجتمع قابلة لإعادة التأهيل، وإن كان من الصعب تحديد نسبة هؤلاء المتطرفين «التائبين»، لا سيما لدى المختصين بالأمن ممن يفضلون القضاء على المشكلة من الأساس عبر التخلص من المقاتلين الأجانب.
يؤكّد الخبير المختص في قضايا الإرهاب ديفيد أوتو أن «(الجهاديين) لا يتركون (الجهاد) وراءهم فقط، لأن خلافتهم قد انهارت، ولا يمكن لمقاتليهم أن يختفوا عن الوجود، فهم يجدون من الضروري إيجاد محيط بديل لهم، حيث يكون من السهل لهم الانخراط مع الآخرين، كتوجه البريطانيين إلى تركيا والأفارقة إلى ليبيا وهكذا دواليك».
وهو في وصفه يشير إلى فئة المقاتلين ممن تترسخ في أعماقهم قناعة بمسببات القتال، أو أولئك الساعين نحو القتل والتخريب ممن يحملون مسببات نفسية للقيام بذلك، وقد تلقف فرصة وجود تنظيم يدعمه سواء لوجيستياً وتدريبياً أو حتى الاكتفاء بالمعنوي من أجل تحفيزه لارتكاب الهجمات الإرهابية. وقد تم استغلال الخلايا النائمة في أوروبا من أجل إثارة الرعب فيها عبر هجمات تتفاوت ما بين المتخبطة التي تماثل الجرائم الفردية من خلال الطعن أو الدهس مما لا يتطلب تخطيطاً شاقاً، مثل حادثة الدهس في جادة لا رامبلا السياحية في برشلونة، وحادثة الدهس الأخرى في مناسبة عيد الميلاد في برلين العام الماضي، وفي نيس في العام الذي يسبقه، وتلك التي قام فيها كوسوفي بارتكاب هجوم بواسطة فأس في محطة القطارات الرئيسية في دوسلدورف، وتهجّم رجل مسلح بسكين على متجر في هامبورغ، مما يشابه إلى حد كبير الجرائم العشوائية، وأخرى تنمّ عن تخطيط دقيق مثل حادثة محاولة اغتيال رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي، وإن تمّ إحباطها، وقد تبيّن فيما بعد أن مرتكبي جميع تلك الحوادث لديهم ارتباط بتنظيم داعش، سواء كان مباشراً أم مجرد اكتفاء بالحصول على الدعم المعنوي. ولا بد أن حوادث الدهس والطعن العشوائية في أوروبا التي تكرّرت تعكس ضعف التنظيم وصعوبة مقدرته على التخطيط المحبوك لهجومٍ كبير، مع الاحترازات الأمنية المتشددة أخيراً، ويقابلها في الوقت ذاته سهولة استخدام عنصر المفاجأة والهجوم العشوائي في المناسبات التي يحتشد فيها الناس، إضافة إلى السهولة النسبية لتحريض الذئاب المنفردة، وهم غالباً عبارة عن شخوص معتلين نفسياً ينسبون المسببات الاجتماعية والدينية لحاجتهم إلى أن ينفذوا مثل هذه الهجمات الإرهابية السهلة، وإن تسبب ذلك بمقتله. وقد شنّت بالفعل حسابات نسبت لتنظيم داعش حملات مكثفة من أجل تحريض الذئاب المنفردة على استهداف الأوروبيين والتخطيط لهجمات إرهابية بالأخص في مناسبات الأعياد الرسمية مثل عيد الميلاد ورأس السنة. بل إنه في إحدى الرسوم التي نشرتها هذه الحسابات ظهر شخص ملثم ممسكاً بلعبة على صورة «بابا نويل» في إشارة إلى استهداف هذه المناسبة وفي الوقت ذاته تحفيز الخلايا النائمة في أوروبا للتيقظ والبدء باستغلال أماكن اكتظاظ الناس من أجل تنفيذ هجمات تثير الرعب، من خلال قتل أكبر عدد ممكن من الضحايا.
وإن كان ذلك لا يمنع سعي تنظيم داعش إلى إيجاد الفرصة لارتكاب جرائم إرهابية كبيرة لا تكتفي بالاعتماد على الذئاب المنفردة، ويعزز من ذلك الاحتمال أعداد المقاتلين الأوروبيين العائدين إلى أوطانهم وغالبيتهم يحملون الجنسية الفرنسية والبريطانية والألمانية، ويقدّر عدد العائدين بنحو 1200. الأمر الذي رفع من حجم الحذر المتوخى من قبل السلطات الأمنية في أوروبا، وإيجاد الطرق المثلى للكشف عن المتطرفين لديهم. وقد تبنّت أجهزة الأمن الألمانية أخيرا نظاماً جديداً لتقييم المتطرفين أطلقت عليه اسم «رادار داعش»، وهو نتاج فريق عمل مكون من خبراء في مجالات الإرهاب والجريمة وأكاديميين مختصين في علم النفس والاجتماع. ويتجلى الكشف عن الإرهابيين من خلال وضع مفردات للكشف المبكر عنهم. وعلى الرغم من أن مثل هذه الاحترازات قد ترفع سقف الأمن في أوروبا، فإنها قد تفضي إلى التنميط بناء على العرق أو الدين، مما قد يؤجج من تصاعد الإسلاموفوبيا، وبالتالي التعامل مع كل شخص عربي أو مسلم على أنه إرهابي محتمل، في الوقت الذي تدفع الهجمات الإرهابية إلى زيادة الهوة بين الثقافات، والتقليل من فرص إعطاء المتطرفين خيار الاندماج مع مجتمعاتهم من خلال إعادة تأهيلهم. لا سيما أن المراقبة المستمرة والتشكيك في مدى تنصلهم من الفكر الإرهابي يقللان من فرص الدمج ومعاودة الحياة الطبيعية، بالأخص مع ظهور عدد من خبراء الأمن ممن يحمل صرامة في القرارات وتفضيل إبادة المقاتلين الأجانب في مناطق النزاع عن عودتهم لأوطانهم.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».