رموز نضال فلسطينية

TT

رموز نضال فلسطينية

> كثرة من العرب والفلسطينيين أنشدت في عقد السبعينات أغنية «لينا» للمغني اللبناني خالد الهبر، كتب كلماتها الشاعر حسن ظاهر وتقول: «لينا طفلة كانت تصنع غدها... لينا سقطت لكن دمها كان يغني للجسد المصلوب الغاضب.. للقدس ويافا وأريحا، للشجر الواقف في غزة.. للبحر الميت في الأردن. يا نبض الضفة لا تهدأ أعلنها ثورة... حطم قيدك.. اجعل لحمك جسر العودة... فليمسِ وطني حراً.. فليرحل محتلي.. فليرحل».

لينا النابلسي

المقصودة بهذه الأغنية هي الفتاة الفلسطينية الصغيرة لينا إسحاق النابلسي التي لم تكن تبلغ في حينه سن الخامسة عشرة.
يوم 16 مايو 1976، لاحق أحد جنود الاحتلال الإسرائيلي لينا التلميذة في المدرسة العائشية في مدينة نابلس، وهي تقود مظاهرة، وحاصرها في أحد مباني المدينة وألقى القبض عليها. شهود عيان قالوا إنها بصقت في وجهه فأعدمها برصاصة في العنق، مع أنها كانت بين يديه لا تقوى على الحركة وكان بإمكانه اعتقالها. وهكذا تحولت لينا النابلسي إلى رمز وطني استمد منه جيل الشباب الفلسطيني الإلهام في مقارعة الاحتلال خلال السنوات اللاحقة، ونموذج للفتاة الفلسطينية المناضلة ضد القهر والاحتلال. وفي عقد الثمانينات ما كاد بيت فلسطيني يخلو من اللوحة التي تصوّرها وهي ملقاة على الأرض والدماء تسيل من شعرها وهي بزيها المدرسي الأخضر. اللوحة رسمها الفنان الفلسطيني ابن القدس سليمان منصور بعدما صادرت سلطات الاحتلال الصورة الأصلية التي تظهرها مضرجة بدمائها بعد قتلها.
أصبحت لينا ثاني شهيدة في مدينة نابلس بعد إلهام أبو غزالة، المقاتلة في صفوف «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، التي استشهدت بانفجار عبوة ناسفة كانت تعدها عام 1968. كذلك كانت لينا النابلسي ثاني شهيدة بالضفة الغربية تقضي برصاص جيش الاحتلال بعد عدوان يونيو (حزيران) 1967.

منتهى الحوراني و«الانتفاضة الأولى»

الشهيدة الأولى كانت منتهى الحوراني (16 سنة) من مدينة جنين، واستشهدت في يوم 11 نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1974، على مقربة من دوار مدينة جنين. وهي أيضاً سارت في مظاهرة ضد عنف الاحتلال فرّقها الجنود بالرصاص الحي، فأصابوها برأسها. وتحوّلت إلى رمز. وللعلم، بعد مقتل لينا، نفذت «الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين» عملية فدائية في الجفتلك بمنطقة غور الأردن يوم 18 أكتوبر (تشرين الأول) 1976، سمتها «عملية الشهيدة لينا النابلسي» وشارك في العملية خمسة مقاتلين، عبروا نهر الأردن وهاجموا معسكراً للجيش الإسرائيلي. ودارت معركة عنيفة قتل خلالها ثلاثة مقاتلين هم مشهور طلب العاروري وحافظ أبو زنط وخالد أبو زياد، في حين عاد اثنان إلى قاعدتهما، في حين قتل ثلاثة وأصيب ستة من جنود الاحتلال.
في تلك الفترة، تصاعد النضال الفلسطيني ضد الاحتلال بمشاركة مختلف الفصائل الفلسطينية المنضوية في منظمة التحرير الفلسطينية. وانطلقت «الانتفاضة الأولى» يوم 8 ديسمبر 1987، وإثرها دعا الرئيس الأميركي جورج بوش الأب إلى مؤتمر مدريد للسلام (عام 1991)، وبدأت مفاوضات على مسارين. وفيها برزت وتألقت د. حنان عشراوي، كناطقة بلسان المفاوضين الفلسطينيين عن منظمة التحرير الفلسطينية، ود. صائب عريقات، ورئيس الوفد د. حيدر عبد الشافي والمناضل المقدسي فيصل الحسيني. تلك الانتفاضة توقفت رسمياً مع الكشف عن «اتفاقيات أوسلو» في 13 سبتمبر (أيلول) 1993. وبرز في هذه «الانتفاضة» ألوف القادة الميدانيين الذين تحولوا إلى رموز للكفاح. وكانت حصيلتها 1162 شهيداً، بينهم 241 طفلاً ونحو 90 ألف جريح ومصاب و15 ألف معتقل فضلاً عن تدمير ونسف 1228 منزلاً. ولاستيعاب هذا العدد الهائل من الأسرى اضطرت إسرائيل إلى فتح عدة سجون. وأبعدت إسرائيل مجموعة من شباب «الانتفاضة» الذين أصبحوا لاحقاً رموزاً وقادة أمثال مروان البرغوثي ومحمد دحلان وجبريل الرجوب وتوفيق الطيراوي وغيرهم.
في تلك الفترة، أيضاً، وجهت إسرائيل لأول مرة ضربة لحركة حماس، التي بدأت محاولات لتحويل الانتفاضة إلى عمل عسكري. وفي ديسمبر 1992 أبعدت 415 شخصية من قادة حماس إلى محيط قرية مرج الزهور اللبنانية. وفي إطار المعركة لأبطال قرار الإبعاد، بقي المبعدون في خيام يرفضون أي توطين. وهبت حملة تضامن عالمية معهم أسفرت عن تحريرهم وعودتهم بعد نحو السنة إلى فلسطين. وبرز من هؤلاء يومها عدد من الشخصيات التي احتلت مواقع قيادية، مثل إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحماس ود. محمود الزهار عضو المكتب السياسي، ود. عزيز دويك رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني، وحسن يوسف قائد حماس في الضفة الغربية، وسامي أبو زهري المتحدث الرسمي. وكان بين القادة البارزين من اغتيل لاحقاً مثل د. عبد العزيز الرنتيسي وإسماعيل أبو شنب وسعيد محمد صيام وصلاح دروزة. وهذا إضافة إلى الشيخ أحمد ياسين، الذي اغتيل هو أيضاً بأيدي إسرائيل عام 2004.

«الانتفاضة الثانية» ومروان البرغوثي

«الانتفاضة الثانية» انطلقت في 28 سبتمبر 2000 إثر دخول أريئيل شارون (رئيس المعارضة الإسرائيلية يومذاك) إلى باحة المسجد الأقصى برفقة حراسه، الأمر الذي دفع جموع المصلين إلى التجمهر ومحاولة التصدي له، فكان من نتائجه اندلاع أول صدامات عنيفة في هذه «الانتفاضة». وفي مرحلة معينة منها، توفي الرئيس الفلسطيني وكبير الرموز، ياسر عرفات، الذي يصر الفلسطينيون على أن إسرائيل قامت بتسميمه. وتوقفت هذه «الانتفاضة»، فعلياً في 8 فبراير (شباط) 2005، بعد اتفاق الهدنة الذي عقد في قمة شرم الشيخ، وجمع الرئيس الفلسطيني المنتخب حديثاً محمود عباس وشارون، الذي أصبح رئيساً للوزراء. واتسمت «الانتفاضة الثانية» مقارنة بسابقتها بكثرة المواجهات المسلحة التي راح ضحيتها 4412 شهيداً فلسطينياً و48322 جريحاً (خسائر إسرائيل 334 قتيلاً عسكرياً و735 قتيلاً مدنياً بمجموع 1069 قتيلاً و4500 جريح). ومرت مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة خلالها بعدّة اجتياحات إسرائيلية منها عمليات «الدرع الواقي» و«أمطار الصيف» و«الرصاص المصبوب».
وكان من أبرز رموزها: مروان البرغوثي (من مواليد 1958)، الذي كان يقود تنظيم حركة فتح الميداني في الضفة الغربية، واعتقلته في عام 2002، وحكمت عليه بالسجن لخمسة مؤبدات، كما برزت صبايا فلسطينيات نفذن عمليات عسكرية، منهن: وفاء إدريس (كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح)، وهبة الضراغمة (سرايا القدس التابعة للجهاد الإسلامي)، وريم الرياشي (كتائب القسام التابعة لحركة حماس)، فضلاً عن عشرات النساء الفلسطينيات اللواتي تحولن إلى أسيرات.
وفي السنتين الأخيرتين تعاظمت هذه الجهود. وراح الإسرائيليون يتحدثون عن «انتفاضة السكاكين»، التي يقصدون بها قيام فلسطينيين أفراد بعمليات طعن لجنود أو مستوطنين. وخلالها تحول بعض الفتية إلى رموز، أمثال إسحق بدران (14 سنة) ومهند حلبي من سكان القدس المحتلة، اللذين قُتِلا بدعوى تنفيذ محاولة طعن.



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.