ناج من «داعش» لا يفارقه صوت الساطور يقطع يديه... وآخر فقد عائلته وساقيه

«الشرق الأوسط» تنقل شهادات مصابين نزحوا إلى مخيم عين عيسى في ريف الرقة

أحمد حميدي فقد ساقيه وعائلته بقصف في ريف الرقة («الشرق الأوسط»)
أحمد حميدي فقد ساقيه وعائلته بقصف في ريف الرقة («الشرق الأوسط»)
TT

ناج من «داعش» لا يفارقه صوت الساطور يقطع يديه... وآخر فقد عائلته وساقيه

أحمد حميدي فقد ساقيه وعائلته بقصف في ريف الرقة («الشرق الأوسط»)
أحمد حميدي فقد ساقيه وعائلته بقصف في ريف الرقة («الشرق الأوسط»)

تبقى قصة أحمد حميدي، الشاب الثلاثيني، محفورة في ذاكرة والديه، اللذين يبكيان كلما عاد بهما المشهد إلى ذلك اليوم الذي أدمى قلب ابنهما البكر. أحمد المنحدر من حي الدرعية غرب مدينة الرقة كان متزوجا ولديه أربعة أطفال، ولدان وابنتان، يعمل سائق سيارة أجرة ينقل البضائع والخضراوات من السوق ويوزعها على المحلات والبقلات التجارية.
لكن حدثا أليما غيّر مجرى حياته. إذ بعد إعلان معركة تحرير الرقة في يونيو (حزيران) 2017، وكانت تعد سابقا أبرز معاقل تنظيم داعش في سوريا، من قبل «قوات سوريا الديمقراطية» بدعم من التحالف الدولي بقيادة واشنطن، ومحاصرة هذه القوات المدينة، ووصولها على مشارف حي الدرعية، تعرضت المنطقة التي يسكنها أحمد لنيران طيران التحالف، ويروي تلك اللحظات لـ«الشرق الأوسط»، قائلا: «تعرضنا لقصف شديد، وسقطت قذيفة فوق منزلنا، لقي ولداي الاثنان وعمي والد زوجتي حتفهم، نعم ماتوا كلهم أمام ناظري».
دفعت الحادثة أحمد ومن تبقى من عائلته إلى أن يلوذوا بالفرار بداية يوليو (تموز) العام الماضي، لكن طريق الهروب كان يخبئ له مزيدا من الألم. إذ خسر ما تبقى من عائلته. وقال أحمد: «وصلنا إلى مؤسسة الأعلاف شمال غربي الرقة، لتنفجر بنا عبوة ناسفة زرعها عناصر (داعش) في الطريق بقصد منع المدنيين من الهروب». الحادثة سيتذكرها أحمد طوال حياته، لأنها سلبت منه زوجته وابنته وفقد على أثرها ساقيه. وأضاف: «عائلتي كانت 6 أشخاص، بقينا منها أنا من دون ساقين، وأذني اليمنى لم أعد أسمع بها شيئا، وابنتي ذات السنوات الأربع أصيبت بالشلل وباتت مقعدة من شدة الانفجار».
توقف عن الحديث. اغرورقت عيناه بالبكاء. بكت معه والدته وأبوه وشقيقاته. وللتغلب على حالته يستعين أحمد بمهدئات الأعصاب والحبوب المنومة من أجل النسيان، كما يلجأ إلى الدخان ويشرب في اليوم أربع علب من السجائر. وتابع: «لحظات مثقلة بالذكريات الحزينة». أما ابن عمه محمود الذي لم يقف مكتوف الأيدي أمام حالة أحمد، فيأتي يوميا إليه في مسعى لإقناعه على الخروج لقضاء بعض الوقت خارج خيمته، الكائنة في مخيم عين عيسى الواقع على بعد 50 كيلومترا غرب الرقة. وقال: «في كل مرة يرفض الخروج، أصبح يخجل كثيرا سيما عندما يركب الكرسي، ويتحسس من ضحكات الأطفال ونظرات الناس، يعتقد أن الجميع يشفق عليه».
وذكرت منظمة الصحة العالمية والمنظمة الدولية للأشخاص ذوي الإعاقة، في تقريرها السنوي الصادر بتاريخ 13 ديسمبر (كانون الأول) 2017، أن «هناك ثلاثين ألف مصاب كل شهر بسبب الحرب في سوريا، وأن الحرب خلّفت مليونا ونصف المليون مصاب بإعاقة دائمة»، وبحسب التقرير يعيش 1.5 مليون شخص مع إعاقات مستديمة، «منهم 86 ألف شخص أفضت إصابتهم إلى بتر أطرافهم»، مشيرة إلى أن «الصراع الدائر هناك يحتدم باستخدام أسلحة متفجرة في المناطق المأهولة بالسكان».
غير أنّ عبد الستار الحاج محمد (48 سنة) المنحدر من حارة البدو بمدينة الرقة، والمقيم حاليا في مدينة الطبقة غرب الرقة، ورغم أن ساقه اليسرى بترت جراء انفجار لغم أرضي عندما حاول الهروب في سبتمبر (أيلول) العام الماضي، من قبضة عناصر تنظيم داعش، قام الرجل المكلوم بالتجول في الأماكن المدمرة والأحياء المهجورة في الطبقة، باحثا عن الخردة وأكياس البلاستيك ليبيعها في محلات مخصصة لشراء هذه المخلفات، مقابل مبلغ زهيد يكفيه لقمة عيشه وكسب قوت بيته.
وقال لـ«الشرق الأوسط»: «كنا سنموت إما برصاص قناص (داعش) وإما بقصف الطيران، لذلك قررنا أن نلوذ بالفرار، لكن فقدت ابني الأكبر، وتعاني زوجتي من ضعف في السمع منذ ذلك اليوم».
كما تعرض منزل عبد الستار في الرقة إلى القصف، ولا يمتلك المال الكافي كي يعيد بناءه من جديد، الأمر الذي دفعه للعيش مؤقتا في مدينة الطبقة حتى تنفرج حالته. وزاد: «مضطر أن أبقى هنا، وأعمل في جمع هذه الخردة حتى يفرجها الله... اللهم فكّ كربتنا».
وبحسب تقرير منظمة الصحة العالمية، فإن أقل من نصف المستشفيات والمرافق الصحية العامة في سوريا لا تزال تفتح أبوابها أمام المرضى، بَيْدَ أن أكثرها يفتقر إلى التجهيزات المناسبة لتقديم الرعاية إلى المرضى الذين يعانون من الإصابات، كما يوجد مركزان للتأهيل البدني (في دمشق وحمص) يوفران الأطراف الاصطناعية. ولفتت المنظمة الدولية إلى أن «القيود البالغة الشدة على إتاحة الرعاية الطبية» تسببت في تحول الإصابات التي يعاني منها كثير من الناس إلى اعتلالات دائمة.
من جهته، قال جلال نوفل، رئيس مركز الصحة النفسية في مدينة غازي عنتاب بتركيا، إنّ بتر القدم أو اليد أو قطعها بحد ذاتها خسارة كبيرة للإنسان، تترافق بالصدمة والمعاناة، لأن صاحبها خسر جزءا حميما من جسده. وقال إن المصاب يعاني من أمرين: «الأول يدعى ألم الطرف الشبحي، حيث قد يرافق هؤلاء شعور بالألم مكان الجزء المبتور، كأن يشعر الشخص بحاجة إلى حك يده المقطوعة»، فيما يدور الألم الثاني حول الصورة الاجتماعية المصاحبة للإنسان وخسارة جزء حميم من جسده، مشيراً: «تنعكس عليه اجتماعيا ويرافقه شعور أنه غير مقبول ومنبوذ ترافقها حالة من الخجل».
وتذكر إبراهيم العلي (28 سنة)، المتحدر من بلدة منبج بريف حلب الشرقي، 5 يوليو 2016، حيث كان ينتظر بفارغ الصبر استقبال أول أيام عيد الفطر، حيث تحولت أفراح العيد الملونة إلى لون أسود، إذ اقتاده عناصر تنظيم داعش الذين كانوا يسيطرون آنذاك على البلدة، إلى ساحة عامة وقطعوا يده اليمنى، بتهمة بيع دراجة نارية مسروقة.
وفي منزله الطيني المتواضع في منبج، قال إبراهيم لـ«الشرق الأوسط»: «أتذكر صوت المقصلة التي بترت يدي وكأنّ ذلك حدث قبل قليل. تمنيت لو حكم القاضي بالموت على أن أعيش بقية حياته بيدٍ واحدة»، حيث لم يعد بمقدوره مزاولة أي مهنة، ويخجل من الخروج إلى الشارع والاختلاط مع الناس، لأن التنظيم تسبب في عاهة دائمة لديه، كما يفضل عدم الاختلاط مع الناس كثيراً، حيث يرافقه الشعور بالخجل والعار وندبة في القلب لا يشعر بها إلا من ذاقها.
أما زوجته وفاء فتشرح حالتيه النفسية والعصبية، فقالت: «يقضي معظم الوقت مستلقيا يدعي النوم، لكنه لا يتحدث مع أحد، أما في الليل فتنتابه حالات عصبية وعلى الرغم من تناوله حبوبا مهدئة فإنه لا تنفعه ولا يصدق متى تشرق الشمس». كما لفتت زوجته إلى أنّ إبراهيم وعندما يدخل المطبخ لتحضير الشاي أو تسخين الطعام «لا يستطيع رفع شيء بيده اليسرى، لأن اليمنى مقطوعة، ثم يبدأ بتكسير الصحون والكؤوس، وكل شيء يراه أمامه».
أما وليد إسماعيل (52 سنة) الذي فر صيف 2017 من مسقط رأسه في حي الرميلة بالرقة بعد اشتداد المعارك والقصف، رفقة زوجته وأطفاله الخمسة وعائلات ثانية، انفجرت بهم عبوة ناسفة تسببت بقطع قدمه اليمنى، وفقد عينه اليسرى، وتعرض وجهه لحروق بليغة، إلى جانب مقتل عشرة أشخاص حرقا أمام عينيه، جراء شدة الانفجار، وتحولت إلى كتل من الجثث المتفحمة.
وفي محاولته رواية تفاصيل الحادثة، قال بحسرة: «نجونا بأعجوبة، بعد الانفجار حملتني زوجتي وجاري على ظهرهما مسافة كيلومترين، وأسعفاني إلى مستشفى في تل أبيض، وبتر الأطباء قدمي شبه المقطوعة لمنع انتشار الغرغرينا».
لكن وليد لم يستسلم لوضعه؛ فبعد تماثله للشفاء ذهب إلى حداد وطلب منه صناعة ساق معدنية تساعده في المشي والتحرك، كما يستخدم قدمه اليسرى فقط في القيادة، وقال في ختام حديثه: «لن أنسى الحادثة طوال حياتي، لكن اليوم أجمل ومتفائل بغدٍ أفضل».


مقالات ذات صلة

5 نزاعات منسية خلال عام 2024

أفريقيا عناصر من الجيش السوداني خلال عرض عسكري (أرشيفية - أ.ف.ب)

5 نزاعات منسية خلال عام 2024

إلى جانب الحربين اللتين تصدَّرتا عناوين الأخبار خلال عام 2024، في الشرق الأوسط وأوكرانيا، تستمر نزاعات لا تحظى بالقدر نفسه من التغطية الإعلامية.

«الشرق الأوسط» (باريس)
العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)

طائرات سورية وروسية تقصف شمال غربي سوريا الخاضع لسيطرة المعارضة

TT

طائرات سورية وروسية تقصف شمال غربي سوريا الخاضع لسيطرة المعارضة

قوات جوية روسية وسورية تقصف مناطق خاضعة لسيطرة المعارضة في شمال غرب سوريا قرب الحدود مع تركيا (أ.ب)
قوات جوية روسية وسورية تقصف مناطق خاضعة لسيطرة المعارضة في شمال غرب سوريا قرب الحدود مع تركيا (أ.ب)

قال الجيش السوري ومصادر من قوات المعارضة إن قوات جوية روسية وسورية قصفت مناطق خاضعة لسيطرة المعارضة، شمال غربي سوريا، قرب الحدود مع تركيا، اليوم (الخميس)، لصد هجوم لقوات المعارضة استولت خلاله على أراضٍ لأول مرة منذ سنوات.

ووفقاً لـ«رويترز»، شن تحالف من فصائل مسلحة بقيادة هيئة تحرير الشام هجوماً، أمس (الأربعاء)، اجتاح خلاله 10 بلدات وقرى تحت سيطرة قوات الرئيس السوري بشار الأسد في محافظة حلب، شمال غربي البلاد.

وكان الهجوم هو الأكبر منذ مارس (آذار) 2020، حين وافقت روسيا التي تدعم الأسد، وتركيا التي تدعم المعارضة، على وقف إطلاق نار أنهى سنوات من القتال الذي تسبب في تشريد ملايين السوريين المعارضين لحكم الأسد.

وفي أول بيان له، منذ بدء الحملة المفاجئة قال الجيش السوري: «تصدَّت قواتنا المسلحة للهجوم الإرهابي الذي ما زال مستمراً حتى الآن، وكبَّدت التنظيمات الإرهابية المهاجمة خسائر فادحة في العتاد والأرواح».

وأضاف الجيش أنه يتعاون مع روسيا و«قوات صديقة» لم يسمِّها، لاستعادة الأرض وإعادة الوضع إلى ما كان عليه.

وقال مصدر عسكري إن المسلحين تقدموا، وأصبحوا على مسافة 10 كيلومترات تقريباً من مشارف مدينة حلب، وعلى بُعد بضعة كيلومترات من بلدتَي نبل والزهراء الشيعيتين اللتين بهما حضور قوي لجماعة «حزب الله» اللبنانية المدعومة من إيران.

كما هاجموا مطار النيرب، شرق حلب، حيث تتمركز فصائل موالية لإيران.

وتقول قوات المعارضة إن الهجوم جاء رداً على تصعيد الضربات في الأسابيع الماضية ضد المدنيين من قبل القوات الجوية الروسية والسورية في مناطق جنوب إدلب، واستباقاً لأي هجمات من جانب الجيش السوري الذي يحشد قواته بالقرب من خطوط المواجهة مع قوات المعارضة.

وفي الوقت نفسه، ذكرت وسائل إعلام إيرانية رسمية، اليوم (الخميس)، أن البريجادير جنرال كيومارس بورهاشمي، وهو مستشار عسكري إيراني كبير في سوريا، قُتل في حلب على يد قوات المعارضة.

وأرسلت إيران آلاف المقاتلين إلى سوريا خلال الصراع هناك. وبينما شمل هؤلاء عناصر من الحرس الثوري، الذين يعملون رسمياً مستشارين، فإن العدد الأكبر منهم من عناصر جماعات شيعية من أنحاء المنطقة.

وقالت مصادر أمنية تركية اليوم (الخميس) إن قوات للمعارضة في شمال سوريا شنَّت عملية محدودة، في أعقاب هجمات نفذتها قوات الحكومة السورية على منطقة خفض التصعيد في إدلب، لكنها وسَّعت عمليتها بعد أن تخلَّت القوات الحكومية عن مواقعها.

وأضافت المصادر الأمنية أن تحركات المعارضة ظلَّت ضمن حدود منطقة خفض التصعيد في إدلب التي اتفقت عليها روسيا وإيران وتركيا في عام 2019، بهدف الحد من الأعمال القتالية بين قوات المعارضة وقوات الحكومة.

وقال مصدر بوزارة الدفاع التركية إن تركيا تتابع التطورات في شمال سوريا عن كثب، واتخذت الاحتياطات اللازمة لضمان أمن القوات التركية هناك.

ولطالما كانت هيئة تحرير الشام، التي تصنِّفها الولايات المتحدة وتركيا منظمة إرهابية، هدفاً للقوات الحكومية السورية والروسية.

وتتنافس الهيئة مع فصائل مسلحة مدعومة من تركيا، وتسيطر هي الأخرى على مساحات شاسعة من الأراضي على الحدود مع تركيا، شمال غربي سوريا.

وتقول قوات المعارضة إن أكثر من 80 شخصاً، معظمهم من المدنيين، قُتلوا منذ بداية العام في غارات بطائرات مُسيرة على قرى تخضع لسيطرة قوات المعارضة.

وتقول دمشق إنها تشن حرباً ضد مسلحين يستلهمون نهج تنظيم القاعدة، وتنفي استهداف المدنيين دون تمييز.