خطورة استعمال الدين في مجال السياسة

باحثون عرب يكتبون عن الدولة في التنظير العربي والإسلامي

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

خطورة استعمال الدين في مجال السياسة

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

في كتابه الشهري الجديد بعنوان «الدولة في التنظير العربي والإسلامي: التأصيل والتحديات»، يتناول مركز المسبار للدراسات والبحوث، عدة دراسات لمجموعة من الباحثين والمختصين.
فتحت عنوان: «الأمة والدولة في الفكر المعاصر»، يبحث أستاذ الفلسفة والدراسات بجامعة نواكشوط الموريتانية عبد الله السيد ولد أباه، المحاولات الفكرية الأكثر رصانة وعمقاً في تناول مسألة «الدولة - الأمة»، من خلال تقديم وتقويم سبعة من أبرز المفكرين العرب هم: عبد الله العروي، وهشام جعيط، ومحمد عابد الجابري، وبرهان غليون، ومحمد جابر الأنصاري، وعلي أومليل، ووجيه كوثراني.
ويشير ولد أباه إلى أن ما يجمع هذه الأسماء السبعة هو الانخراط المزدوج في العمل الفكري والسياسي، وتبني المنظور النقدي للفكر السياسي العربي في تلويناته الآيديولوجية المختلفة. ويبين أن هذه المقاربات المذكورة في تناولها لإشكالية الأمة والدولة في السياق العربي الحديث، وجدت نفسها مضطرة للتعامل مع ثلاث ثنائيات بارزة هيمنت على الخطاب الآيديولوجي العربي: ثنائية الدولة القُطرية والدولة القومية، ثنائية الدولة التحديثية والدولة التقليدية، وثنائية الدولة التسلطية والدولة المدنية.
ويخلص الباحث في الوقوف عند هذه الثنائيات الثلاث التي شغلت سبعة من أهم المفكرين العرب في مقاربتهم لموضوع الدولة والأمة، إلى أن الإشكال الرئيسي الذي شغل الباحثين العرب في الاجتماع السياسي العربي المعاصر، هو علاقة الدولة الوطنية الحديثة ببناها المجتمعية العميقة في مستواها المحلي الضيق (مشكل التنوع القبلي والطائفي والديني والإثني) ومستواها القومي الأشمل (الأمة بمفهومها الثقافي والديني).
وفي هذا الكتاب يتناول الباحث السعودي في العلوم السياسية الدكتور توفيق السيف، في دراسته تطور فهم المجتمع الديني الشيعي لفكرة الدولة والمجال العام، لا سيما في ربع القرن الأخير، حيث شهدت هذه الفترة مراجعات عميقة لأبرز التعبيرات عن تلك الفكرة، أي نظرية «ولاية الفقيه».
يعرض السيف في البدء موجزاً لأبرز المنعطفات في فقه الشيعة السياسي، بغية إبراز بؤرة اهتمام المدرسة الفقهية، أي مصدر شرعية السلطة، فضلاً عن كشف محرك التحولات السابقة والحاضرة على حد سواء، أي اقتراب الفقهاء من السياسة.
كما تعرض الدراسة بإيجاز لآراء عالِم الدين محمد مهدي شمس الدين (1936 - 2001)، الذي قدم رؤية أكثر تطوراً من «ولاية الفقيه» في نسختها المعيارية.
الجزء الأخير من الدراسة مخصص لنقاش رؤية بديلة، تنطلق من مراجعة معمقة لا تقف عند مجادلة النظريات الفقهية، بل تذهب إلى مجادلة الأساس الفلسفي الذي قام عليه الفقه الإسلامي ككل. وهي تنفي قدسيته وثبات أحكامه. ومن هنا فإنها تقدم منظوراً جديداً لدور الدين في الحياة العامة وعلاقته بالدولة، يقترب كثيراً من المنظور الليبرالي، ويدعو دون مواربة إلى ديمقراطية تكفل مشاركة المسلمين، ليس فقط في صناعة السياسة، بل وأيضاً في إنتاج وصوغ الرؤية الدينية التي تناسب زمنهم. اختار الباحث كأنموذج، النظريات التي يطرحها المفكرون الإيرانيون الثلاثة: محمد مجتهد شبستري، ومصطفى ملكيان، وعبد الكريم سروش. أما الإشكالية الأساسية في الدراسة فهي ليست «كيف ينظر الشيعة إلى الدولة؟»، بل: كيف يريدونها أن تكون؟ ويخلص الباحث إلى أن فهم الشيعة للسلطة بدأ محدوداً في نطاق الإمامة. ثم انفتح قليلاً وانتقل جانبه المدرسي إلى الحقل الفقهي، حيث تلعب إلزامات وحاجات الواقع دوراً في تشكيل رؤية الفقيه. في مرحلة تالية مال المجتمع الشيعي إلى توحيد قيادته وتكثيفها في حملة العلم الديني، فتبلور مفهوم نيابة الفقيه للإمام، ثم ولايته العامة. أتاح وصول الفقهاء إلى السلطة الفرصة لاختبار كفاءة التراث الفقهي في الحياة الواقعية. لكن العقد الأول من عمر الجمهورية الإسلامية، كشف عن غربة الفقه عن عصره. نتيجة لذلك، تبلور داخل المجتمع الديني تيار يدعو صراحة إلى طي صفحة الفقه والكلام القديم، وبناء منظومة فكر ديني جديدة كلياً، تتضمن - بين أمور أخرى - تصوراً مختلفاً عن الدولة العادلة ومعنى الدين ودوره في الحياة العامة.
من جهته، تساءل الباحث الجزائري حميد زناز، عن الأفكار والأطروحات التي كانت مهمة في الفكر السياسي الخلدوني وما تبقى منها، وهل يمكن أن تفيدنا في فهم طبيعة السلطة في مجتمعاتنا العربية في بداية هذا القرن الحادي والعشرين. بكلمة أخرى: هل نظرية ابن خلدون قادرة على الاندماج في راهننا، بحيث نستطيع أن نجعلها تسهم في فهم ثم حل مشكلة الحكم في بلداننا، وبناء الدولة الحديثة، وعلى الخصوص تجاوز إشكالية علاقة الدين بالسياسة؟ كان يرى ابن خلدون أنه يمكن أن يكون للدين - بصفة عامة - أثر كبير في تكوين السلطة، وعلى الخصوص في طور الاستيلاء عليها، ولكن بشرط أن يأتي لتقوية العصبية. وقد لعب الإسلام بهذا المعنى في ظروف ومراحل تاريخية كثيرة دوراً مهماً في توحيد الناس اجتماعياً وسياسياً. ولكن هل يستطيع أن يلعب دوراً سياسياً حاسماً في أيامنا؟ ذلك هو السؤال الأهم. من البديهي القول: إن مجتمعاتنا العربية الحالية أكثر تعقيداً بمئات المرات من ذلك المجتمع القديم الذي عاش فيه عبد الرحمن بن خلدون، ومن هنا يصبح استعمال الدين في مجال السياسة أمراً قد يكون خطيراً؛ إذ يمكن أن يؤدي إلى التطرف والتعصب والعنف، كما حدث بالأمس القريب وكما يحدث اليوم. وهو ما يحجب الشواغل السياسية الحقيقية التي تعيشها المجتمعات العربية، كالانتقال إلى مرحلة المواطنة وتكوين وعي مواطني حقيقي يطالب بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية ودولة القانون.


مقالات ذات صلة

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
كتب فرويد

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية

د. ماهر شفيق فريد
كتب ناثان هيل

«الرفاهية»... تشريح للمجتمع الأميركي في زمن الرقميات

فلنفرض أن روميو وجولييت تزوَّجا، بعد مرور عشرين سنة سنكتشف أن روميو ليس أباً مثالياً لأبنائه، وأن جولييت تشعر بالملل في حياتها وفي عملها.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

صدر حديثاً عن دار نوفل - هاشيت أنطوان كتاب «دليل الإنسايية» للكاتبة والمخرجة الآيسلندية رند غنستاينردوتر، وذلك ضمن سلسلة «إشراقات».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون «شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

عن دار «بيت الياسمين» للنشر بالقاهرة، صدرتْ المجموعة القصصية «شجرة الصفصاف» للكاتب محمد المليجي، التي تتناول عدداً من الموضوعات المتنوعة مثل علاقة الأب بأبنائه

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر
TT

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث؛ لكنه يتوقف بشكل مفصَّل عند تجربة نابليون بونابرت في قيادة حملة عسكرية لاحتلال مصر، في إطار صراع فرنسا الأشمل مع إنجلترا، لبسط الهيمنة والنفوذ عبر العالم، قبل نحو قرنين.

ويروي المؤلف كيف وصل الأسطول الحربي لنابليون إلى شواطئ أبي قير بمدينة الإسكندرية، في الأول من يوليو (تموز) 1798، بعد أن أعطى تعليمات واضحة لجنوده بضرورة إظهار الاحترام للشعب المصري وعاداته ودينه.

فور وصول القائد الشهير طلب أن يحضر إليه القنصل الفرنسي أولاً ليستطلع أحوال البلاد قبل عملية الإنزال؛ لكن محمد كُريِّم حاكم الإسكندرية التي كانت ولاية عثمانية مستقلة عن مصر في ذلك الوقت، منع القنصل من الذهاب، ثم عاد وعدل عن رأيه والتقى القنصل الفرنسي بنابليون، ولكن كُريِّم اشترط أن يصاحب القنصل بعض أهل البلد.

تمت المقابلة بين القنصل ونابليون، وطلب الأول من الأخير سرعة إنزال الجنود والعتاد الفرنسي؛ لأن العثمانيين قد يحصنون المدينة، فتمت عملية الإنزال سريعاً، مما دعا محمد كُريِّم إلى الذهاب للوقوف على حقيقة الأمر، فاشتبك مع قوة استطلاع فرنسية، وتمكن من هزيمتها وقتل قائدها.

رغم هذا الانتصار الأولي، ظهر ضعف المماليك الذين كانوا الحكام الفعليين للبلاد حينما تمت عملية الإنزال كاملة للبلاد، كما ظهر ضعف تحصين مدينة الإسكندرية، فسقطت المدينة بسهولة في يد الفرنسيين. طلب نابليون من محمد كُريِّم تأييده ومساعدته في القضاء على المماليك، تحت دعوى أنه -أي نابليون- يريد الحفاظ على سلطة العثمانيين. ورغم تعاون كُريِّم في البداية، فإنه لم يستسلم فيما بعد، وواصل دعوة الأهالي للثورة، مما دفع نابليون إلى محاكمته وقتله رمياً بالرصاص في القاهرة، عقاباً له على هذا التمرد، وليجعله عبرة لأي مصري يفكر في ممانعة أو مقاومة نابليون وجيشه.

وهكذا، بين القسوة والانتقام من جانب، واللين والدهاء من جانب آخر، تراوحت السياسة التي اتبعها نابليون في مصر. كما ادعى أنه لا يعادي الدولة العثمانية، ويريد مساعدتهم للتخلص من المماليك، مع الحرص أيضاً على إظهار الاحترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين؛ لكنه كان كلما اقتضت الضرورة لجأ إلى الترويع والعنف، أو ما يُسمَّى «إظهار العين الحمراء» بين حين وآخر، كلما لزم الأمر، وهو ما استمر بعد احتلال القاهرة لاحقاً.

ويذكر الكتاب أنه على هذه الخلفية، وجَّه نابليون الجنود إلى احترام سياسة عدم احتساء الخمر، كما هو معمول به في مصر، فاضطر الجنود عِوضاً عن ذلك لتدخين الحشيش الذي حصلوا عليه من بعض أهل البلد. ولكن بعد اكتشاف نابليون مخاطر تأثير الحشيش، قام بمنعه، وقرر أن ينتج بعض أفراد الجيش الفرنسي خموراً محلية الصنع، في ثكناتهم المنعزلة عن الأهالي، لإشباع رغبات الجنود.

وفي حادثة أخرى، وبعد أيام قليلة من نزول القوات الفرنسية إلى الإسكندرية، اكتشف القائد الفرنسي كليبر أن بعض الجنود يبيعون الملابس والسلع التي حملها الأسطول الفرنسي إلى السكان المحليين، وأن آخرين سلبوا بعض بيوت الأهالي؛ بل تورطت مجموعة ثالثة في جريمة قتل سيدة تركية وخادمتها بالإسكندرية، فعوقب كل الجنود المتورطين في هذه الجريمة الأخيرة، بالسجن ثلاثة أشهر فقط.

يكشف الكتاب كثيراً من الوقائع والجرائم التي ارتكبها جنود حملة نابليون بونابرت على مصر، ويفضح كذب شعاراته، وادعاءه الحرص على احترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين.

لم تعجب هذه العقوبة نابليون، وأعاد المحاكمة، وتم إعدام الجنود المتورطين في هذه الحادثة بالقتل أمام بقية الجنود. وهكذا حاول نابليون فرض سياسة صارمة على جنوده، لعدم استفزاز السكان، وكان هذا جزءاً من خطته للتقرب من المصريين، وإرسال رسائل طمأنة إلى «الباب العالي» في الآستانة.

وكان من أول أعمال نابليون في الإسكندرية، وضع نظام حُكم جديد لها، استند إلى مجموعة من المبادئ، منها حرية الأهالي في ممارسة شعائرهم الدينية، ومنع الجنود الفرنسيين من دخول المساجد، فضلاً عن الحفاظ على نظام المحاكم الشرعية، وعدم تغييرها أو المساس بقوانينها الدينية، وكذلك تأليف مجلس بلدي يتكون من المشايخ والأعيان، وتفويض المجلس بالنظر في احتياجات السكان المحليين.

ورغم أن بعض بنود المرسوم تُعدُّ مغازلة صريحة لمشاعر السكان الدينية، فإن بنوداً أخرى تضمنت إجراءات شديدة القسوة، منها إلزام كل قرية تبعد ثلاث ساعات عن المواضع التي تمر بها القوات الفرنسية، بأن ترسل من أهلها رُسلاً لتأكيد الولاء والطاعة، كما أن كل قرية تنتفض ضد القوات الفرنسية تُحرق بالنار.

وفي مقابل عدم مساس الجنود الفرنسيين بالمشايخ والعلماء والقضاة والأئمة، أثناء تأديتهم لوظائفهم، ينبغي أن يشكر المصريون الله على أنه خلصهم من المماليك، وأن يرددوا في صلاة الجمعة دعاء: «أدام الله إجلال السلطان العثماني، أدام الله إجلال العسكر الفرنساوي، لعن الله المماليك، وأصلح حال الأمة المصرية».