في سوريا... إعلام رديف ناطق بلسان النظام وآخر رسمي مهترئ

«ليس لدينا موارد، ونريد إعلاماً قوياً ومنافساً». مقولة تتردد كثيراً في أروقة الإعلام السوري الرسمي لتبرير العجز عن إصلاحه وتطويره. هذا أفسح في المجال لتقدم وسائل الإعلام الخاصة المرادفة. واستطاعت تلك الوسائل فرض نفسها كجزء أساسي من الإعلام المعبِّر عن النظام، بل لتتفوق في مواقع كثيرة على الإعلام الرسمي، لا سيما من جانب شن حملات موجهة ضد الأداء الحكومي، كالحملة التي شهدها عام 2017 بداية العام الدراسي للاحتجاج على تغيير المناهج لمراحل التعليم الأساسي، التي اضطرت وزير التربية للظهور في الإعلام للدفاع عن وزارته وعن نفسه شخصيا إذ طالته تهم بالفساد والعمالة.
- دعاية ركيكة
مع أن وسائل الإعلام الرديفة لا تُعتبر مؤسساتٍ مكتملةَ الأركان من حيث البنى التحتية والإدارية والتمويل، فإنها شكلَتْ ندّاً حقيقياً للمؤسسات الرسمية المتهالكة الممولة من خزينة الدولة، التي باتت لا تنتج سوى إعلام دعائي ركيك، زاد ركاكة وضعفاً خلال ست سنوات من الحرب، جراء فقدانه لعدد من أهم الكوادر الإعلامية، فعدا التخلص من المعارضين تم تهميش المحايدين وتقريب الموالين الأشداء فقط، وفتح الباب على مصراعيه لتوافد المنتفعين من خارج الوسط الإعلامي للتسلق تحت يافطة «الولاء للنظام»، ما فاقم حالة الترهل والفساد المستشري أساساً في مؤسسات تهيمن عليها الأجهزة الأمنية بشكل شبه كامل.
ولعل تراجع وزير الإعلام محمد رامز ترجمان في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي عن قرار اتخذه بإقالة مدير عام الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون بعد أقل من ساعة على بث الخبر، يؤكد أن من يقرر في الإعلام ليس وزارة الإعلام، بل جهات أخرى متعددة، تقاس قوتها بمدى قربها من رأس النظام. حتى إن وزير الإعلام لم يجد غضاضة في إعلان عجزه عن إدارة المؤسسات التابعة لوزارته بالقول صراحة إنه ليس بإمكان الوزارة الإنفاق على ملابس المذيعات، كما لا يمكن أن تسمح الوزارة للإعلام الحكومي بتسول ملابس مذيعاته من المعلنين.
وطالب ترجمان في تصريح لجريدة «الوطن» المحلية الشهر الماضي «الجميع» - دون أن يسميهم - بالتعاون «لتحسين الواقع المالي للوزارة، خصوصاً في ظل هذه الظروف الصعبة» وجاءت تصريحات وزير الإعلام بعد محاولات يائسة منه لضغط النفقات، ومعالجة الترهل في الجسم الإعلامي، حيث افتتح عام 2017، بإغلاق القناة التلفزيونية المنوعة «تلاقي»، وإذاعة «صوت الشعب»، و«القناة الأولى» في التلفزيون السوري، إلا أن هذا القرار اصطدم بمشكلة فائض العاملين، فتم اقتراح نقل أعداد من الموظفين الفنيين إلى ملاكات وزارات أخرى، الأمر الذي لقي رفضاً من مديري المؤسسات الإعلامية، باعتبار أن تحديد من يجب نقله يتم على أساس «كيدي»!!
وبحسب مصادر إعلامية في النظام «كل موظف في وزارة الإعلام من المستخدم إلى المدير العام هناك من يدعمه في الأجهزة الأمنية، والاقتراب من أي موظف هو مساس مباشر بالجهة الداعمة له».
- مشكلات التمويل
قد تكون هذه الأزمة ألهمت وزارة الإعلام لاستيعاب الفائض الحاصل من إغلاق قناتين تلفزيونيتين وإذاعة، لإطلاق ثلاث صحف جديدة أسبوعية ورقية خلال في النصف الثاني من عام 2017، وهي «المواطن»، و«الجريمة والعدالة»، و«الجماهير» والأخيرة كانت تصدر بحلب قبل عام 2011، إضافة إلى إعادة إصدار «العروبة» في حمص و«الفداء» في حماه. وذلك في الوقت الذي لا تصل فيه الصحف الحكومية الرسمية الرئيسية («تشرين» و«الثورة» و«البعث») إلى كل أحياء العاصمة دمشق، وعودة أكثر من نصف الكمية المطبوعة من تلك الصحف كمرتجع، حيث تعاني مؤسسة توزيع المطبوعات من صعوبات كثيرة في إرسال سيارتها لتوزيع المطبوعات، علماً بأن الوزارة أعلنت عودتها إلى إرسال الصحف إلى المحافظات الشمالية والشرقية خلال الصيف الماضي.
- قبضة أمنية
موظف سابق في هيئة الإذاعة والتلفزيون تم طرده من عمله بسبب عدم إظهار التأييد المطلق للنظام، قال لـ«الشرق الأوسط»: «الإعلام السوري قبل كان إعلاماً فاسداً يستحيل إصلاحه، فما بالنا اليوم بعد أن تعرض لتخريب كامل؟!» ويتابع مؤكداً أن «المؤسسات الإعلامية الحكومية تُدار من قبل أجهزة الأمن، وليس بمقدور أي شخص أن ينشر أو يبث أي معلومة على مسؤوليته وبما يمليه عليه موقعه في جهاز التحرير، إذ إن لكل صحيفة رئيس تحرير شكلي، وهو الذي يوقع اسمه، ورئيس تحرير فعلي غير ظاهر للعيان»
م.غ صحافي يعمل في مؤسسة حكومية يعترف بأنه يعمل كأي موظف عادي ليعيش وحسب، ويذكر مقولة اشتهرت بأوساط الصحافة الرسمية: «في كل مؤسسات العالم يدفعون للصحافي كي يكتب إلا في الصحف الرسمية السورية تدفع للصحافي كي لا يكتب»، ويتابع: «ماذا نكتب ونحن محاطون بزملاء شبيحة أكثرهم صحافيون وإعلاميون، يترصدون كل كلمة نتفوه بها كي يدبجوا فينا تقارير تتهمنا بالخيانة ودعم الإرهاب»، لافتاً إلى أن هناك العشرات ممن تم تسريحهم بسبب الوشايات، ليؤكد: «لا إعلام دون حرية تعبير، وتحت (البوط) العسكري لا يُصنع إعلام بل إعلام دعاية حربية».
- النظام يلتفت إلى المنابر الخاصة
اللافت أن النظام يعترف برداءة إعلامه وفقدان الأمل بإصلاحه، وهذا يفسر تشجيعه وسائل الإعلام الخاصة مرادفة للإعلام الرسمي كالإذاعات المحلية «شام إف إم» و«المدينة» و«سوريانا» والصفحات الإخبارية بالـ«سوشيال ميديا»، التي سرعان ما تطورت وتفوقت بتأثيرها على الإعلام الرسمي، لتكسب آلافاً ومئات الآلاف من المتابعين كصفحة «دمشق الآن» و«يوميات قذيفة هاون» و«سوريا فساد بزمن الإصلاح» وعدد كبير من صفحات تسمي نفسها شبكات إخبارية محلية.
وإذا كانت سياسة الإعلام الرسمي ترتكز على محورين: «الأول تغطية انتصارات الجيش العربي السوري، والثاني تغطية مسار المصالحات والترويج له»، وفق تعبير وزير الإعلام في حكومة النظام، فإن الإعلام الرديف يمارس سياسة إعلامية دون تنظير مسبق وفق اتجاهين الترويج للعمليات العسكرية لقوات النظام، وإبراز القادة العسكريين كنجوم وأبطال، وتوثيق القتلى ومتابعة أخبار المصابين وذويهم، واتجاه آخر يعنى بالشأن المحلي ويلاحق المعارضين بالنقد والوشاية ويراقب الأداء الحكومي ويتعقب الفاسدين ضمن نطاق التنافس والمصالح، إضافة لعنايته الخاصة بمتابعة سير الحياة اليومية العادية، الأمر الذي حقق لها انتشاراً واسعاً ضمن أوساط الموالين والمحايدين، وحتى المعارضين الباحثين عن أخبار من الميدان مباشرة، بغض النظر عن الموقف من توجهات الصفحة.
وخلال العام الأخير برز مديرو صفحات في مناطق سيطرة النظام كإعلاميين ناقلين للحدث فور وقوعه، لا سيما سقوط قذائف الهاون، والتفجيرات، والقرارات الرسمية، لتلعب تلك الصفحات دور الناطق غير الرسمي للنظام، ولتسد الفجوة التي خَلَّفَها أداء الإعلام الرسمي، علماً بأن معظم تلك الصفحات الإخبارية والشبكات المحلية الموالية، تتبع بشكل أو آخر للأجهزة الأمنية وتخضع لإشرافها المباشر، ما جعلها موضع حسد الجهات الحكومية والإعلامية والحزبية التي تسعى للتدخل في عملها وكبح اندفاعها في النقد، عبر دعوة مديري أهم الصفحات، للمشاركة في ورشات عمل لتوجيه عملهم الإعلامي، آخرها كانت «ورشة الإعلام الإلكتروني» أقامها قسم الصحافة والإعلام الإلكتروني في القيادة القطرية لحزب البعث (الحاكم) وشارك فيها عدد من صفحات موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) التي يزيد عددها عن 150 ألف معجب، وهي الصفحات التي صنفها حزب البعث على أنها لعبت «دوراً وطنياً فاعلاً خلال الحرب على سوريا» بحسب جريدة (البعث).
- غياب القوانين وصعود الانتهاكات
كما أقام اتحاد الصحافيين في عدة مناطق ورشات عمل مماثلة بالتعاون مع الإدارة المحلية، في ظل دعوات لتنظيم عمل تلك الصفحات، لا سيما وقد تعرض بعض العاملين فيها للاعتقال والمساءلة رغم ولائهم الشديد للنظام، وذلك لدى تجرئهم على المساس بالخطوط الحمراء، كمدير صفحة «الفساد في اللاذقية» ومدير صفحة «فساد في زمن الإصلاح».
ومع أنه لا يوجد قانون واضح ناظم للنشر الإلكتروني في سوريا، فإن محاكمة تتعلق بـ«جرائم أمن المعلومات» شهدتها دمشق خلال عام 2017، بحق الممثل السوري مصطفى الخاني لدى انتقاده سفير النظام لدى الأمم المتحدة بشار الجعفري.
يمكن القول إن عام 2017 شهد تشكُّل مشهد إعلامي سوري أكثر وضوحاً بعد ست سنوات من الحرب، برز فيه طرفان أساسيان، الأول إعلام رسمي مهترئ، ينهك ميزانية الدولة، وتتنازع الحكومة والأجهزة الرسمية السيطرة عليه. والطرف الثاني إعلام خاص مرادف، شاب، ومطواع، وغير مكلف، تمسك بزمامه الأجهزة الأمنية، ليؤدي الأدوار المطلوبة. لكن بالمجمل لا تزال سوريا تفتقر لإعلام بالمعايير الدولية، بحجم افتقارها لحياة طبيعية بالمعايير الإنسانية.