قرار القدس يرضي أصوليين... ويثير غضب معتدلين

قبلة الحياة للتنظيمات الإرهابية على اختلاف مسمياتها

تواصل الغضب والاشتباكات في رام الله للأسبوع الثالث على التوالي رداً على القرار الأميركي اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل (إ.ب.أ)
تواصل الغضب والاشتباكات في رام الله للأسبوع الثالث على التوالي رداً على القرار الأميركي اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل (إ.ب.أ)
TT

قرار القدس يرضي أصوليين... ويثير غضب معتدلين

تواصل الغضب والاشتباكات في رام الله للأسبوع الثالث على التوالي رداً على القرار الأميركي اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل (إ.ب.أ)
تواصل الغضب والاشتباكات في رام الله للأسبوع الثالث على التوالي رداً على القرار الأميركي اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل (إ.ب.أ)

في فبراير (شباط) من عام 2017 أكد الرئيس الأميركي دونالد ترمب على أن الولايات المتحدة وحلفاءها سيلحقون الهزيمة بإرهاب الجماعات المتطرفة و«قوى الموت» حسب تعبيره. تصريحات ترمب جاءت في قاعدة ماكديل في تامبا بولاية فلوريدا، مقر القيادة العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط، ويومها أضاف: «لقوى الموت والدمار، اعلموا أن أميركا وحلفاءها سيلحقون بكم الهزيمة»، مضيفاً مرة أخرى: «سنتغلب على الإرهاب، ولن ندعه يتجذر في بلادنا».
هل جاءت وتجيء قرارات ترمب الأخيرة لتخدم فكرة القضاء على الإرهاب أم أنها باتت بمثابة قبلة الحياة لتلك التنظيمات الإرهابية على اختلاف مسمياتها؟
خلال حملته الانتخابية الرئاسية تحدث دونالد ترمب. عن أحلامه في أن يكون الرئيس القادر على جلب السلام للشرق الأوسط، وإنهاء حالة النزاع الذي طال بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ويومها قال المراقبون للمشهد هناك إن الرجل يحلم بأن يضحى واحداً من القياصرة الذين يكتبون أسماءهم في سجلات التاريخ الأميركي، غير أن قراره الأخير بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل من جهة، ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس من جهة أخرى، أكد أن ما تحدث به ترمب، ضرب من ضروب الأوهام، وفاته أن القدس هي أكبر كثيراً من كونها مدينة جغرافية عادية. لقد فات ترمب أنها مدينة ذات صبغة مطلقة، ولهذا فإن اسمها يرتبط لغوياً وفعلياً بـ«القداسة»، إنها القدس أو بيت المقدس، وإن مكانتها في قلوب المسلمين والمسيحيين، لا يمكن أن تقل أبداً عن أهميتها بالنسبة لليهود، ومعنى تخصيصها لفريق بعينه وتمكينه منها، وبمساندة أميركية لا تعرف سوى القوة كمعيار وحيد لها، هو بمثابة إثارة الأحقاد والكراهية لدى الفريقين الآخرين، مما يدفعهما في طريق المقاومة، وبخاصة إذا كانت القوة هي السند الوحيد الذي تعرفه إسرائيل وأميركا من ورائها، ومن هنا ينبغي طرح علامة الاستفهام، هل جاء قرار الأميركي ليقدم خدمة ذهبية للتيارات الإرهابية التي تؤمن بالعنف والقتل كلغة حوار؟
الشاهد أنه قبل الجواب على السؤال المتقدم قد يعن لنا أن نتساءل: «أليس قرار القدس نابعاً من قلب أصولية مسيحية أميركية ويخدمها ويبث فيها مشاعر سلبية لا تعرف إلا لغة الغطرسة والكبرياء وبعيداً عن ما هو مسيحي من قيم وأخلاق حقيقية؟

الأصولية المسيحية والقرار الأميركي
ظهرت الازدواجية الأميركية في شخص ترمب خلال الحملة الرئاسية الانتخابية عينها، ففي الوقت الذي كان فيه يتشدق بتصريحات عن السلام بين الجانبين، كان يعد تيار اليمين الأصولي المسيحي الأميركي، بما لا يملك أي إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها. هذا التيار وبخلاف ما يذهب كثير من الباحثين ليس تياراً يهودياً وحسب، ذلك أن غالبيته من أنصار الرؤى الإيمانية المسيحية المغلوطة عمداً، والتي ترى أن دولة إسرائيل هي المعنى والمرادف لتمام وكمال النبوءات، وأنها العلامة الأخيرة المؤكدة لنهاية العالم، ومن ثم حدوث ما يسمى بـ«المجيء الثاني»، الذي لا بد له، وأن يمر عبر معركة نهائية على الأرض بين قوى الخير وقوى الشر، ما يطلق عليها معركة هرمجدون.
ولعل الناظر للمشهد يدرك أن ترمب كان لا يسعى لمصلحة السلام، أو حتى صالح اليهود الأميركيين حتى، ذلك أن نصب عينيه أن يحصل في الدورة الثانية على أصوات الأميركيين الذين صوتوا له في المرة الأولى، باعتباره رئيساً يفي بما يعد به، وهل يهود أميركا يدعمون هذا القرار؟
مثير جداً الجواب، سيما وأن عدداً من استطلاعات الرأي التي أجرتها منظمة «جي ستريت» الجناح المنشق عن الإيباك، جماعة الضغط الداعمة لإسرائيل في أميركا، أكدت أن ثمانين في المائة من الأميركيين اليهود يؤيدون حل الدولتين، في حين عبر اثنان وسبعون في المائة عن تأييدهم لجعل القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطينية مستقلة إلى جانب دولة إسرائيلية مستقلة.
«جي ستريت» عينها وفي استطلاع رأى لها العام الجاري (2017) أظهرت أن ستة عشر في المائة فقط من يهود أميركا يؤيدون نقل السفارة الأميركية إلى القدس، فيما أربعة وأربعون في المائة يرفضون نقل السفارة إلى القدس رفضاً تاماً، وستة وثلاثون في المائة لن يقبلوا النقل إلا في وقت لاحق، عندما يسود السلام بالفعل في إسرائيل وفلسطين. القضية إذن هي غزل براغماتي من ترمب على أوتار الأصولية الأميركية المسيحية الداخلية التي دعمته وتدعمه سيما داخل الكونغرس، وبصفة خاصة بين الأعضاء الديمقراطيين الذين وقفوا وبكل قوة وراء قرارات ترمب الأخيرة، باختصار غير مخل فإن «التيار المسيحي الأصولي في الولايات المتحدة الأميركية، بات اليوم يمثل أكبر كتلة دينية لها تأثير فاعل على صعيد الحياة السياسية، بعد أن بلغ نحو 25 في المائة من مجموع السكان في البلاد»، وعليه فإن أفضل من وصف حقيقة قرار ترمب كان «مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية (صاحب النفوذ الكبير في كل الإدارات الأميركية)، حينما أشار إلى أنه «لم يكن هناك أي سبب دنيوي لاستفزاز العالم العربي بهذا القرار».
لعل الذين قدر لهم الدخول بعمق في قراءة أدبيات الجماعات الأصولية الإسلاموية على اختلاف أشكالها وألوانها، يدرك كيف أن «مدينة القدس»، تمثل ركيزة من ركائز مغازلة العوام والدهماء، بمعنى اتخاذها مبرراً وذريعة من أجل تبرير أفعالهم وحماقاتهم المرتبطة بالدم والقتل، بالتنكيل وإثارة الفوضى والذعر حول العالم.
هذا التيار الأصولي على الجانب الإسلامي لا يزال يتحدث عن تحرير بيت المقدس من الاحتلال الإسرائيلي، وإن كان الجميع يدرك إدراكاً جيداً أنه أكبر القوى المتحالفة سراً مع الصهيونية العالمية، وخير دليل على ذلك، أنه لم تطلق رصاصة واحدة من قبل تلك التنظيمات داخل إسرائيل، ولم تقم بعملية واحدة على الأرض الخاضعة للاحتلال.
في هذا السياق يتوقف المرء مع تصريحات المفتي العام للقدس والديار الفلسطينية، الشيخ محمد أحمد حسين، والتي أشار فيها إلى أن أكثر من 90 في المائة من «منابع وموارد وصحيح الإرهاب ستزول»، إذا ما تم حل القضية الفلسطينية، الأمر الذي سيوفر على العالم الكثير من المشكلات، وقد بين في تصريحاته كيف أن الإرهابيين يدعون أنهم يحاربون من أجل إعادة القدس، موضحاً أن كل من يلبس عباءة القضية الفلسطينية باسم الإرهاب، ومن يلبس الإسلام باسم الإرهاب، فإنه يروج لمزاعم باطلة وحجج واهية.

أصولية تنتعش وإرهاب يتصاعد
لم يكن الأسوأ القادم ليغيب عن أعين العلماء المسلمين الثقات، فعلى سبيل المثال وجدنا مفتي الديار المصرية الدكتور «شوقي علام» ينبه لخطورة القرار الذي اتخذه الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وكيف أنه سوف يؤجج مشاعر الكراهية، ويثير المسلمين ويعطي مبرراً أكيداً للمجموعات الإرهابية أن تنتعش من جديد. ولعل المثير في المشهد هنا هو أن أصوات أميركية ارتفعت عالياً للتحذير من تبعات هذا القرار على تصاعد وانتعاش الموجات الأصولية والإرهابية في العالمين العربي والإسلامي.
خذ إليك على سبيل المثال ما كتبته صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية ذائعة الصيت الأيام القليلة الماضية، فقد أشارت إلى أن «الجماعات (الجهادية)، وعلى رأسها تنظيم داعش، سوف تستغل قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل» مؤكدة أن «هذه الجماعات كانت كثيراً ما تعتبر قضية فلسطين والاحتلال الإسرائيلي محركاً لها وسبباً لوجودها».
أما «ريتا كاتز» مديرة مجموعة «سايت» الاستخباراتية التي تعمل من على الأراضي الأميركية، فقد حذرت بدورها من هجمات إرهابية محتملة لتنظيمي القاعدة وداعش، تزامناً مع الإعلان المرتقب - في وقت تصريحها - بشأن نقل السفارة الأميركية إلى القدس، ومضيفة: «ينبغي أن نتوقع حملة طويلة ومستمرة يقودها (الجهاديون)، على خلفية نقل العاصمة الأميركية إلى القدس، تنطوي على تحذيرات وتهديدات من قبل قادتهم، بالنظر إلى أن هذه المسألة تمثل نقطة حاسمة داخل الحركة (الجهادية) العالمية عبر خطوط (داعش) و(القاعدة)».

«داعش» والفرصة الذهبية المنتظرة
جاء قرار ترمب كهدية على طبق من ذهب للدواعش، بعد أن كره العالم العربي والإسلامي إرهابهم، وصباح الجمعة الثامن من ديسمبر (كانون الأول) نشرت الدورية الناطقة باسمهم «صحيفة النبأ» بياناً لهم عنوانه «بيت المقدس إنْ أولياؤه إلا المتقون». البيان وكما توقع الجميع كان دعوة مفتوحة لإعادة التأكيد على العنف وخياراته كطريق وحيد وفريد لاستعادة مقدسات المسلمين، وتبيان أن السلام والتعايش ما هو إلا أداة لموالاة الكفار والمشركين.
نص البيان مدعاة للتنبؤ بما هو آت إذ يقول: «بل وصل الأمر بالضالين أن ينكروا على كل مجاهد في الأرض، ويطعنوا في جهاده للمشركين»، وكأن قتال التنظيم الإرهابي هو طعن في الجهاد وقتال للمجاهدين، وهم أبعد ما يكونون عن فهم معنى الجهاد وشروطه ومقاصده»، ما يعني أن «داعش» يسعى لاستغلال اللحظة الآنية من أجل تسييس القضية الفلسطينية، ووضع مدينة القدس، لصالح أجنداتهم. ولعل من قرأ بيان «داعش» وفيه أنه: «كانت القدس في أيدي اليهود منذ 60 عاماً، والآن فقط يبكي الناس حين أعلن الصليبيون اليوم أنها عاصمتهم»، يدرك نيات التلاعب على الأوتار الأصولية لدى العوام في العالمين العربي والإسلامي، رغم زيف الادعاءات في الأصل، والدليل أن «داعش» يحاول أن يدرأ عن ذاته تهمة التخاذل في مواجهة إسرائيل في الداخل، بالقول إنه حين تهاجم الدول العربية المحيطة بها، فيفقد الإسرائيليون من يحرسونهم من العرب المحيطين بهم وهي دعوة غير صادقة، ومسلك للفرار من القول بوجود رابط بين الجانبين.
وعلى الرغم من المشهد المرتبك والمرائي لـ«داعش»، فإن غرف الحديث الخلفية، في تطبيق «تيليغرام» والتابعة لأنصار «داعش» نشرت صوراً انتقامية، ومن بين هذه الصور حرق الأعلام الأميركية والإسرائيلية ورسائل من نوعية «سنقتلكم ونقطع رقابكم»... هل غابت «القاعدة» بدورها عن المشهد؟
لم يكن لـ«القاعدة» أن تغيب أو تتوارى عن المشهد بحال من الأحوال، و«القاعدة» التي نشأت في جبال وكهوف أفغانستان، وعلى أيدي رجالات من الشرق الأوسط بعضهم من فلسطين مثل «عبد الله عزام» للقدس في سلوكياتها ومنهجها الجهادي مكانة كبيرة، فقد كان المجاهدون هناك ضد السوفيات يصرخون بالأصوات الزاعقة: «اللهم أنصرنا هنا في كابل، ولا تمتنا إلا في بيت المقدس»، مما يعني أن قضيتهم الأولى هي قضية القدس، وأن أفغانستان ممر وليست مستقراً.
كان طبيعي أن تسارع «القاعدة» في جزيرة العرب إلى إصدار بيان، نقله موقع «سايت» SITE السابق الإشارة إليه، قال فيه: «إن قرار ترمب يمثل تحدياً صريحاً للشارع المسلم الذي يعتقد بمركزية القضية الفلسطينية»، وأضاف البيان: «أمام هذا الخطب الجلل فإننا نقف إلى جانب أهلنا في فلسطين، وسننصرهم بكل ما نملك ولو حبواً على الركب، فعليكم بزاد الصبر، والجهاد في سبيل الله».
بيان «القاعدة» دعا أصحاب الاختصاص في متابعة شؤون الأصوليات والأصوليين مثل موقع «لونغ وور جورنال» إلى التساؤل: «أين سيأتي رد (القاعدة) على قرار القدس؟».
الموقع ذكر قائمة من الأهداف التي اختارها التنظيم للرد على إجراءات سابقة مماثلة، وقد ذكر القراء بـ«القسم الكبير» الذي أقسمه زعيم التنظيم السابق «أسامة بن لادن»، وفيه هدد الأميركيين بأنهم لن يهنأوا بالأمن قبل أن يعاش واقعاً في فلسطين، كما استحضر الموقع عدة حالات مماثلة وقعت فيها عمليات إرهابية رداً على مواقف أو تصرفات إعلامية وسياسية، مشيراً إلى احتمال أن تأخذ أية عملية قادمة للتنظيم سياقاً مماثلاً من ناحية اختيار الأهداف.
ثم ماذا؟: بالقطع سيكون للقرار الأميركي تداعيات سلبية كثيرة، تعزز من أحلام الأصوليين المسيحيين في الغرب، وتثير ثائرة الإسلاميين في الشرق، وبينهما يضيع السلام في العالم عامة، وفي القدس مدينة السلام بصفة خاصة.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.