قرار القدس يرضي أصوليين... ويثير غضب معتدلين

قبلة الحياة للتنظيمات الإرهابية على اختلاف مسمياتها

تواصل الغضب والاشتباكات في رام الله للأسبوع الثالث على التوالي رداً على القرار الأميركي اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل (إ.ب.أ)
تواصل الغضب والاشتباكات في رام الله للأسبوع الثالث على التوالي رداً على القرار الأميركي اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل (إ.ب.أ)
TT

قرار القدس يرضي أصوليين... ويثير غضب معتدلين

تواصل الغضب والاشتباكات في رام الله للأسبوع الثالث على التوالي رداً على القرار الأميركي اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل (إ.ب.أ)
تواصل الغضب والاشتباكات في رام الله للأسبوع الثالث على التوالي رداً على القرار الأميركي اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل (إ.ب.أ)

في فبراير (شباط) من عام 2017 أكد الرئيس الأميركي دونالد ترمب على أن الولايات المتحدة وحلفاءها سيلحقون الهزيمة بإرهاب الجماعات المتطرفة و«قوى الموت» حسب تعبيره. تصريحات ترمب جاءت في قاعدة ماكديل في تامبا بولاية فلوريدا، مقر القيادة العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط، ويومها أضاف: «لقوى الموت والدمار، اعلموا أن أميركا وحلفاءها سيلحقون بكم الهزيمة»، مضيفاً مرة أخرى: «سنتغلب على الإرهاب، ولن ندعه يتجذر في بلادنا».
هل جاءت وتجيء قرارات ترمب الأخيرة لتخدم فكرة القضاء على الإرهاب أم أنها باتت بمثابة قبلة الحياة لتلك التنظيمات الإرهابية على اختلاف مسمياتها؟
خلال حملته الانتخابية الرئاسية تحدث دونالد ترمب. عن أحلامه في أن يكون الرئيس القادر على جلب السلام للشرق الأوسط، وإنهاء حالة النزاع الذي طال بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ويومها قال المراقبون للمشهد هناك إن الرجل يحلم بأن يضحى واحداً من القياصرة الذين يكتبون أسماءهم في سجلات التاريخ الأميركي، غير أن قراره الأخير بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل من جهة، ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس من جهة أخرى، أكد أن ما تحدث به ترمب، ضرب من ضروب الأوهام، وفاته أن القدس هي أكبر كثيراً من كونها مدينة جغرافية عادية. لقد فات ترمب أنها مدينة ذات صبغة مطلقة، ولهذا فإن اسمها يرتبط لغوياً وفعلياً بـ«القداسة»، إنها القدس أو بيت المقدس، وإن مكانتها في قلوب المسلمين والمسيحيين، لا يمكن أن تقل أبداً عن أهميتها بالنسبة لليهود، ومعنى تخصيصها لفريق بعينه وتمكينه منها، وبمساندة أميركية لا تعرف سوى القوة كمعيار وحيد لها، هو بمثابة إثارة الأحقاد والكراهية لدى الفريقين الآخرين، مما يدفعهما في طريق المقاومة، وبخاصة إذا كانت القوة هي السند الوحيد الذي تعرفه إسرائيل وأميركا من ورائها، ومن هنا ينبغي طرح علامة الاستفهام، هل جاء قرار الأميركي ليقدم خدمة ذهبية للتيارات الإرهابية التي تؤمن بالعنف والقتل كلغة حوار؟
الشاهد أنه قبل الجواب على السؤال المتقدم قد يعن لنا أن نتساءل: «أليس قرار القدس نابعاً من قلب أصولية مسيحية أميركية ويخدمها ويبث فيها مشاعر سلبية لا تعرف إلا لغة الغطرسة والكبرياء وبعيداً عن ما هو مسيحي من قيم وأخلاق حقيقية؟

الأصولية المسيحية والقرار الأميركي
ظهرت الازدواجية الأميركية في شخص ترمب خلال الحملة الرئاسية الانتخابية عينها، ففي الوقت الذي كان فيه يتشدق بتصريحات عن السلام بين الجانبين، كان يعد تيار اليمين الأصولي المسيحي الأميركي، بما لا يملك أي إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها. هذا التيار وبخلاف ما يذهب كثير من الباحثين ليس تياراً يهودياً وحسب، ذلك أن غالبيته من أنصار الرؤى الإيمانية المسيحية المغلوطة عمداً، والتي ترى أن دولة إسرائيل هي المعنى والمرادف لتمام وكمال النبوءات، وأنها العلامة الأخيرة المؤكدة لنهاية العالم، ومن ثم حدوث ما يسمى بـ«المجيء الثاني»، الذي لا بد له، وأن يمر عبر معركة نهائية على الأرض بين قوى الخير وقوى الشر، ما يطلق عليها معركة هرمجدون.
ولعل الناظر للمشهد يدرك أن ترمب كان لا يسعى لمصلحة السلام، أو حتى صالح اليهود الأميركيين حتى، ذلك أن نصب عينيه أن يحصل في الدورة الثانية على أصوات الأميركيين الذين صوتوا له في المرة الأولى، باعتباره رئيساً يفي بما يعد به، وهل يهود أميركا يدعمون هذا القرار؟
مثير جداً الجواب، سيما وأن عدداً من استطلاعات الرأي التي أجرتها منظمة «جي ستريت» الجناح المنشق عن الإيباك، جماعة الضغط الداعمة لإسرائيل في أميركا، أكدت أن ثمانين في المائة من الأميركيين اليهود يؤيدون حل الدولتين، في حين عبر اثنان وسبعون في المائة عن تأييدهم لجعل القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطينية مستقلة إلى جانب دولة إسرائيلية مستقلة.
«جي ستريت» عينها وفي استطلاع رأى لها العام الجاري (2017) أظهرت أن ستة عشر في المائة فقط من يهود أميركا يؤيدون نقل السفارة الأميركية إلى القدس، فيما أربعة وأربعون في المائة يرفضون نقل السفارة إلى القدس رفضاً تاماً، وستة وثلاثون في المائة لن يقبلوا النقل إلا في وقت لاحق، عندما يسود السلام بالفعل في إسرائيل وفلسطين. القضية إذن هي غزل براغماتي من ترمب على أوتار الأصولية الأميركية المسيحية الداخلية التي دعمته وتدعمه سيما داخل الكونغرس، وبصفة خاصة بين الأعضاء الديمقراطيين الذين وقفوا وبكل قوة وراء قرارات ترمب الأخيرة، باختصار غير مخل فإن «التيار المسيحي الأصولي في الولايات المتحدة الأميركية، بات اليوم يمثل أكبر كتلة دينية لها تأثير فاعل على صعيد الحياة السياسية، بعد أن بلغ نحو 25 في المائة من مجموع السكان في البلاد»، وعليه فإن أفضل من وصف حقيقة قرار ترمب كان «مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية (صاحب النفوذ الكبير في كل الإدارات الأميركية)، حينما أشار إلى أنه «لم يكن هناك أي سبب دنيوي لاستفزاز العالم العربي بهذا القرار».
لعل الذين قدر لهم الدخول بعمق في قراءة أدبيات الجماعات الأصولية الإسلاموية على اختلاف أشكالها وألوانها، يدرك كيف أن «مدينة القدس»، تمثل ركيزة من ركائز مغازلة العوام والدهماء، بمعنى اتخاذها مبرراً وذريعة من أجل تبرير أفعالهم وحماقاتهم المرتبطة بالدم والقتل، بالتنكيل وإثارة الفوضى والذعر حول العالم.
هذا التيار الأصولي على الجانب الإسلامي لا يزال يتحدث عن تحرير بيت المقدس من الاحتلال الإسرائيلي، وإن كان الجميع يدرك إدراكاً جيداً أنه أكبر القوى المتحالفة سراً مع الصهيونية العالمية، وخير دليل على ذلك، أنه لم تطلق رصاصة واحدة من قبل تلك التنظيمات داخل إسرائيل، ولم تقم بعملية واحدة على الأرض الخاضعة للاحتلال.
في هذا السياق يتوقف المرء مع تصريحات المفتي العام للقدس والديار الفلسطينية، الشيخ محمد أحمد حسين، والتي أشار فيها إلى أن أكثر من 90 في المائة من «منابع وموارد وصحيح الإرهاب ستزول»، إذا ما تم حل القضية الفلسطينية، الأمر الذي سيوفر على العالم الكثير من المشكلات، وقد بين في تصريحاته كيف أن الإرهابيين يدعون أنهم يحاربون من أجل إعادة القدس، موضحاً أن كل من يلبس عباءة القضية الفلسطينية باسم الإرهاب، ومن يلبس الإسلام باسم الإرهاب، فإنه يروج لمزاعم باطلة وحجج واهية.

أصولية تنتعش وإرهاب يتصاعد
لم يكن الأسوأ القادم ليغيب عن أعين العلماء المسلمين الثقات، فعلى سبيل المثال وجدنا مفتي الديار المصرية الدكتور «شوقي علام» ينبه لخطورة القرار الذي اتخذه الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وكيف أنه سوف يؤجج مشاعر الكراهية، ويثير المسلمين ويعطي مبرراً أكيداً للمجموعات الإرهابية أن تنتعش من جديد. ولعل المثير في المشهد هنا هو أن أصوات أميركية ارتفعت عالياً للتحذير من تبعات هذا القرار على تصاعد وانتعاش الموجات الأصولية والإرهابية في العالمين العربي والإسلامي.
خذ إليك على سبيل المثال ما كتبته صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية ذائعة الصيت الأيام القليلة الماضية، فقد أشارت إلى أن «الجماعات (الجهادية)، وعلى رأسها تنظيم داعش، سوف تستغل قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل» مؤكدة أن «هذه الجماعات كانت كثيراً ما تعتبر قضية فلسطين والاحتلال الإسرائيلي محركاً لها وسبباً لوجودها».
أما «ريتا كاتز» مديرة مجموعة «سايت» الاستخباراتية التي تعمل من على الأراضي الأميركية، فقد حذرت بدورها من هجمات إرهابية محتملة لتنظيمي القاعدة وداعش، تزامناً مع الإعلان المرتقب - في وقت تصريحها - بشأن نقل السفارة الأميركية إلى القدس، ومضيفة: «ينبغي أن نتوقع حملة طويلة ومستمرة يقودها (الجهاديون)، على خلفية نقل العاصمة الأميركية إلى القدس، تنطوي على تحذيرات وتهديدات من قبل قادتهم، بالنظر إلى أن هذه المسألة تمثل نقطة حاسمة داخل الحركة (الجهادية) العالمية عبر خطوط (داعش) و(القاعدة)».

«داعش» والفرصة الذهبية المنتظرة
جاء قرار ترمب كهدية على طبق من ذهب للدواعش، بعد أن كره العالم العربي والإسلامي إرهابهم، وصباح الجمعة الثامن من ديسمبر (كانون الأول) نشرت الدورية الناطقة باسمهم «صحيفة النبأ» بياناً لهم عنوانه «بيت المقدس إنْ أولياؤه إلا المتقون». البيان وكما توقع الجميع كان دعوة مفتوحة لإعادة التأكيد على العنف وخياراته كطريق وحيد وفريد لاستعادة مقدسات المسلمين، وتبيان أن السلام والتعايش ما هو إلا أداة لموالاة الكفار والمشركين.
نص البيان مدعاة للتنبؤ بما هو آت إذ يقول: «بل وصل الأمر بالضالين أن ينكروا على كل مجاهد في الأرض، ويطعنوا في جهاده للمشركين»، وكأن قتال التنظيم الإرهابي هو طعن في الجهاد وقتال للمجاهدين، وهم أبعد ما يكونون عن فهم معنى الجهاد وشروطه ومقاصده»، ما يعني أن «داعش» يسعى لاستغلال اللحظة الآنية من أجل تسييس القضية الفلسطينية، ووضع مدينة القدس، لصالح أجنداتهم. ولعل من قرأ بيان «داعش» وفيه أنه: «كانت القدس في أيدي اليهود منذ 60 عاماً، والآن فقط يبكي الناس حين أعلن الصليبيون اليوم أنها عاصمتهم»، يدرك نيات التلاعب على الأوتار الأصولية لدى العوام في العالمين العربي والإسلامي، رغم زيف الادعاءات في الأصل، والدليل أن «داعش» يحاول أن يدرأ عن ذاته تهمة التخاذل في مواجهة إسرائيل في الداخل، بالقول إنه حين تهاجم الدول العربية المحيطة بها، فيفقد الإسرائيليون من يحرسونهم من العرب المحيطين بهم وهي دعوة غير صادقة، ومسلك للفرار من القول بوجود رابط بين الجانبين.
وعلى الرغم من المشهد المرتبك والمرائي لـ«داعش»، فإن غرف الحديث الخلفية، في تطبيق «تيليغرام» والتابعة لأنصار «داعش» نشرت صوراً انتقامية، ومن بين هذه الصور حرق الأعلام الأميركية والإسرائيلية ورسائل من نوعية «سنقتلكم ونقطع رقابكم»... هل غابت «القاعدة» بدورها عن المشهد؟
لم يكن لـ«القاعدة» أن تغيب أو تتوارى عن المشهد بحال من الأحوال، و«القاعدة» التي نشأت في جبال وكهوف أفغانستان، وعلى أيدي رجالات من الشرق الأوسط بعضهم من فلسطين مثل «عبد الله عزام» للقدس في سلوكياتها ومنهجها الجهادي مكانة كبيرة، فقد كان المجاهدون هناك ضد السوفيات يصرخون بالأصوات الزاعقة: «اللهم أنصرنا هنا في كابل، ولا تمتنا إلا في بيت المقدس»، مما يعني أن قضيتهم الأولى هي قضية القدس، وأن أفغانستان ممر وليست مستقراً.
كان طبيعي أن تسارع «القاعدة» في جزيرة العرب إلى إصدار بيان، نقله موقع «سايت» SITE السابق الإشارة إليه، قال فيه: «إن قرار ترمب يمثل تحدياً صريحاً للشارع المسلم الذي يعتقد بمركزية القضية الفلسطينية»، وأضاف البيان: «أمام هذا الخطب الجلل فإننا نقف إلى جانب أهلنا في فلسطين، وسننصرهم بكل ما نملك ولو حبواً على الركب، فعليكم بزاد الصبر، والجهاد في سبيل الله».
بيان «القاعدة» دعا أصحاب الاختصاص في متابعة شؤون الأصوليات والأصوليين مثل موقع «لونغ وور جورنال» إلى التساؤل: «أين سيأتي رد (القاعدة) على قرار القدس؟».
الموقع ذكر قائمة من الأهداف التي اختارها التنظيم للرد على إجراءات سابقة مماثلة، وقد ذكر القراء بـ«القسم الكبير» الذي أقسمه زعيم التنظيم السابق «أسامة بن لادن»، وفيه هدد الأميركيين بأنهم لن يهنأوا بالأمن قبل أن يعاش واقعاً في فلسطين، كما استحضر الموقع عدة حالات مماثلة وقعت فيها عمليات إرهابية رداً على مواقف أو تصرفات إعلامية وسياسية، مشيراً إلى احتمال أن تأخذ أية عملية قادمة للتنظيم سياقاً مماثلاً من ناحية اختيار الأهداف.
ثم ماذا؟: بالقطع سيكون للقرار الأميركي تداعيات سلبية كثيرة، تعزز من أحلام الأصوليين المسيحيين في الغرب، وتثير ثائرة الإسلاميين في الشرق، وبينهما يضيع السلام في العالم عامة، وفي القدس مدينة السلام بصفة خاصة.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.