قرار القدس يرضي أصوليين... ويثير غضب معتدلين

قبلة الحياة للتنظيمات الإرهابية على اختلاف مسمياتها

تواصل الغضب والاشتباكات في رام الله للأسبوع الثالث على التوالي رداً على القرار الأميركي اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل (إ.ب.أ)
تواصل الغضب والاشتباكات في رام الله للأسبوع الثالث على التوالي رداً على القرار الأميركي اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل (إ.ب.أ)
TT

قرار القدس يرضي أصوليين... ويثير غضب معتدلين

تواصل الغضب والاشتباكات في رام الله للأسبوع الثالث على التوالي رداً على القرار الأميركي اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل (إ.ب.أ)
تواصل الغضب والاشتباكات في رام الله للأسبوع الثالث على التوالي رداً على القرار الأميركي اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل (إ.ب.أ)

في فبراير (شباط) من عام 2017 أكد الرئيس الأميركي دونالد ترمب على أن الولايات المتحدة وحلفاءها سيلحقون الهزيمة بإرهاب الجماعات المتطرفة و«قوى الموت» حسب تعبيره. تصريحات ترمب جاءت في قاعدة ماكديل في تامبا بولاية فلوريدا، مقر القيادة العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط، ويومها أضاف: «لقوى الموت والدمار، اعلموا أن أميركا وحلفاءها سيلحقون بكم الهزيمة»، مضيفاً مرة أخرى: «سنتغلب على الإرهاب، ولن ندعه يتجذر في بلادنا».
هل جاءت وتجيء قرارات ترمب الأخيرة لتخدم فكرة القضاء على الإرهاب أم أنها باتت بمثابة قبلة الحياة لتلك التنظيمات الإرهابية على اختلاف مسمياتها؟
خلال حملته الانتخابية الرئاسية تحدث دونالد ترمب. عن أحلامه في أن يكون الرئيس القادر على جلب السلام للشرق الأوسط، وإنهاء حالة النزاع الذي طال بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ويومها قال المراقبون للمشهد هناك إن الرجل يحلم بأن يضحى واحداً من القياصرة الذين يكتبون أسماءهم في سجلات التاريخ الأميركي، غير أن قراره الأخير بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل من جهة، ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس من جهة أخرى، أكد أن ما تحدث به ترمب، ضرب من ضروب الأوهام، وفاته أن القدس هي أكبر كثيراً من كونها مدينة جغرافية عادية. لقد فات ترمب أنها مدينة ذات صبغة مطلقة، ولهذا فإن اسمها يرتبط لغوياً وفعلياً بـ«القداسة»، إنها القدس أو بيت المقدس، وإن مكانتها في قلوب المسلمين والمسيحيين، لا يمكن أن تقل أبداً عن أهميتها بالنسبة لليهود، ومعنى تخصيصها لفريق بعينه وتمكينه منها، وبمساندة أميركية لا تعرف سوى القوة كمعيار وحيد لها، هو بمثابة إثارة الأحقاد والكراهية لدى الفريقين الآخرين، مما يدفعهما في طريق المقاومة، وبخاصة إذا كانت القوة هي السند الوحيد الذي تعرفه إسرائيل وأميركا من ورائها، ومن هنا ينبغي طرح علامة الاستفهام، هل جاء قرار الأميركي ليقدم خدمة ذهبية للتيارات الإرهابية التي تؤمن بالعنف والقتل كلغة حوار؟
الشاهد أنه قبل الجواب على السؤال المتقدم قد يعن لنا أن نتساءل: «أليس قرار القدس نابعاً من قلب أصولية مسيحية أميركية ويخدمها ويبث فيها مشاعر سلبية لا تعرف إلا لغة الغطرسة والكبرياء وبعيداً عن ما هو مسيحي من قيم وأخلاق حقيقية؟

الأصولية المسيحية والقرار الأميركي
ظهرت الازدواجية الأميركية في شخص ترمب خلال الحملة الرئاسية الانتخابية عينها، ففي الوقت الذي كان فيه يتشدق بتصريحات عن السلام بين الجانبين، كان يعد تيار اليمين الأصولي المسيحي الأميركي، بما لا يملك أي إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها. هذا التيار وبخلاف ما يذهب كثير من الباحثين ليس تياراً يهودياً وحسب، ذلك أن غالبيته من أنصار الرؤى الإيمانية المسيحية المغلوطة عمداً، والتي ترى أن دولة إسرائيل هي المعنى والمرادف لتمام وكمال النبوءات، وأنها العلامة الأخيرة المؤكدة لنهاية العالم، ومن ثم حدوث ما يسمى بـ«المجيء الثاني»، الذي لا بد له، وأن يمر عبر معركة نهائية على الأرض بين قوى الخير وقوى الشر، ما يطلق عليها معركة هرمجدون.
ولعل الناظر للمشهد يدرك أن ترمب كان لا يسعى لمصلحة السلام، أو حتى صالح اليهود الأميركيين حتى، ذلك أن نصب عينيه أن يحصل في الدورة الثانية على أصوات الأميركيين الذين صوتوا له في المرة الأولى، باعتباره رئيساً يفي بما يعد به، وهل يهود أميركا يدعمون هذا القرار؟
مثير جداً الجواب، سيما وأن عدداً من استطلاعات الرأي التي أجرتها منظمة «جي ستريت» الجناح المنشق عن الإيباك، جماعة الضغط الداعمة لإسرائيل في أميركا، أكدت أن ثمانين في المائة من الأميركيين اليهود يؤيدون حل الدولتين، في حين عبر اثنان وسبعون في المائة عن تأييدهم لجعل القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطينية مستقلة إلى جانب دولة إسرائيلية مستقلة.
«جي ستريت» عينها وفي استطلاع رأى لها العام الجاري (2017) أظهرت أن ستة عشر في المائة فقط من يهود أميركا يؤيدون نقل السفارة الأميركية إلى القدس، فيما أربعة وأربعون في المائة يرفضون نقل السفارة إلى القدس رفضاً تاماً، وستة وثلاثون في المائة لن يقبلوا النقل إلا في وقت لاحق، عندما يسود السلام بالفعل في إسرائيل وفلسطين. القضية إذن هي غزل براغماتي من ترمب على أوتار الأصولية الأميركية المسيحية الداخلية التي دعمته وتدعمه سيما داخل الكونغرس، وبصفة خاصة بين الأعضاء الديمقراطيين الذين وقفوا وبكل قوة وراء قرارات ترمب الأخيرة، باختصار غير مخل فإن «التيار المسيحي الأصولي في الولايات المتحدة الأميركية، بات اليوم يمثل أكبر كتلة دينية لها تأثير فاعل على صعيد الحياة السياسية، بعد أن بلغ نحو 25 في المائة من مجموع السكان في البلاد»، وعليه فإن أفضل من وصف حقيقة قرار ترمب كان «مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية (صاحب النفوذ الكبير في كل الإدارات الأميركية)، حينما أشار إلى أنه «لم يكن هناك أي سبب دنيوي لاستفزاز العالم العربي بهذا القرار».
لعل الذين قدر لهم الدخول بعمق في قراءة أدبيات الجماعات الأصولية الإسلاموية على اختلاف أشكالها وألوانها، يدرك كيف أن «مدينة القدس»، تمثل ركيزة من ركائز مغازلة العوام والدهماء، بمعنى اتخاذها مبرراً وذريعة من أجل تبرير أفعالهم وحماقاتهم المرتبطة بالدم والقتل، بالتنكيل وإثارة الفوضى والذعر حول العالم.
هذا التيار الأصولي على الجانب الإسلامي لا يزال يتحدث عن تحرير بيت المقدس من الاحتلال الإسرائيلي، وإن كان الجميع يدرك إدراكاً جيداً أنه أكبر القوى المتحالفة سراً مع الصهيونية العالمية، وخير دليل على ذلك، أنه لم تطلق رصاصة واحدة من قبل تلك التنظيمات داخل إسرائيل، ولم تقم بعملية واحدة على الأرض الخاضعة للاحتلال.
في هذا السياق يتوقف المرء مع تصريحات المفتي العام للقدس والديار الفلسطينية، الشيخ محمد أحمد حسين، والتي أشار فيها إلى أن أكثر من 90 في المائة من «منابع وموارد وصحيح الإرهاب ستزول»، إذا ما تم حل القضية الفلسطينية، الأمر الذي سيوفر على العالم الكثير من المشكلات، وقد بين في تصريحاته كيف أن الإرهابيين يدعون أنهم يحاربون من أجل إعادة القدس، موضحاً أن كل من يلبس عباءة القضية الفلسطينية باسم الإرهاب، ومن يلبس الإسلام باسم الإرهاب، فإنه يروج لمزاعم باطلة وحجج واهية.

أصولية تنتعش وإرهاب يتصاعد
لم يكن الأسوأ القادم ليغيب عن أعين العلماء المسلمين الثقات، فعلى سبيل المثال وجدنا مفتي الديار المصرية الدكتور «شوقي علام» ينبه لخطورة القرار الذي اتخذه الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وكيف أنه سوف يؤجج مشاعر الكراهية، ويثير المسلمين ويعطي مبرراً أكيداً للمجموعات الإرهابية أن تنتعش من جديد. ولعل المثير في المشهد هنا هو أن أصوات أميركية ارتفعت عالياً للتحذير من تبعات هذا القرار على تصاعد وانتعاش الموجات الأصولية والإرهابية في العالمين العربي والإسلامي.
خذ إليك على سبيل المثال ما كتبته صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية ذائعة الصيت الأيام القليلة الماضية، فقد أشارت إلى أن «الجماعات (الجهادية)، وعلى رأسها تنظيم داعش، سوف تستغل قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل» مؤكدة أن «هذه الجماعات كانت كثيراً ما تعتبر قضية فلسطين والاحتلال الإسرائيلي محركاً لها وسبباً لوجودها».
أما «ريتا كاتز» مديرة مجموعة «سايت» الاستخباراتية التي تعمل من على الأراضي الأميركية، فقد حذرت بدورها من هجمات إرهابية محتملة لتنظيمي القاعدة وداعش، تزامناً مع الإعلان المرتقب - في وقت تصريحها - بشأن نقل السفارة الأميركية إلى القدس، ومضيفة: «ينبغي أن نتوقع حملة طويلة ومستمرة يقودها (الجهاديون)، على خلفية نقل العاصمة الأميركية إلى القدس، تنطوي على تحذيرات وتهديدات من قبل قادتهم، بالنظر إلى أن هذه المسألة تمثل نقطة حاسمة داخل الحركة (الجهادية) العالمية عبر خطوط (داعش) و(القاعدة)».

«داعش» والفرصة الذهبية المنتظرة
جاء قرار ترمب كهدية على طبق من ذهب للدواعش، بعد أن كره العالم العربي والإسلامي إرهابهم، وصباح الجمعة الثامن من ديسمبر (كانون الأول) نشرت الدورية الناطقة باسمهم «صحيفة النبأ» بياناً لهم عنوانه «بيت المقدس إنْ أولياؤه إلا المتقون». البيان وكما توقع الجميع كان دعوة مفتوحة لإعادة التأكيد على العنف وخياراته كطريق وحيد وفريد لاستعادة مقدسات المسلمين، وتبيان أن السلام والتعايش ما هو إلا أداة لموالاة الكفار والمشركين.
نص البيان مدعاة للتنبؤ بما هو آت إذ يقول: «بل وصل الأمر بالضالين أن ينكروا على كل مجاهد في الأرض، ويطعنوا في جهاده للمشركين»، وكأن قتال التنظيم الإرهابي هو طعن في الجهاد وقتال للمجاهدين، وهم أبعد ما يكونون عن فهم معنى الجهاد وشروطه ومقاصده»، ما يعني أن «داعش» يسعى لاستغلال اللحظة الآنية من أجل تسييس القضية الفلسطينية، ووضع مدينة القدس، لصالح أجنداتهم. ولعل من قرأ بيان «داعش» وفيه أنه: «كانت القدس في أيدي اليهود منذ 60 عاماً، والآن فقط يبكي الناس حين أعلن الصليبيون اليوم أنها عاصمتهم»، يدرك نيات التلاعب على الأوتار الأصولية لدى العوام في العالمين العربي والإسلامي، رغم زيف الادعاءات في الأصل، والدليل أن «داعش» يحاول أن يدرأ عن ذاته تهمة التخاذل في مواجهة إسرائيل في الداخل، بالقول إنه حين تهاجم الدول العربية المحيطة بها، فيفقد الإسرائيليون من يحرسونهم من العرب المحيطين بهم وهي دعوة غير صادقة، ومسلك للفرار من القول بوجود رابط بين الجانبين.
وعلى الرغم من المشهد المرتبك والمرائي لـ«داعش»، فإن غرف الحديث الخلفية، في تطبيق «تيليغرام» والتابعة لأنصار «داعش» نشرت صوراً انتقامية، ومن بين هذه الصور حرق الأعلام الأميركية والإسرائيلية ورسائل من نوعية «سنقتلكم ونقطع رقابكم»... هل غابت «القاعدة» بدورها عن المشهد؟
لم يكن لـ«القاعدة» أن تغيب أو تتوارى عن المشهد بحال من الأحوال، و«القاعدة» التي نشأت في جبال وكهوف أفغانستان، وعلى أيدي رجالات من الشرق الأوسط بعضهم من فلسطين مثل «عبد الله عزام» للقدس في سلوكياتها ومنهجها الجهادي مكانة كبيرة، فقد كان المجاهدون هناك ضد السوفيات يصرخون بالأصوات الزاعقة: «اللهم أنصرنا هنا في كابل، ولا تمتنا إلا في بيت المقدس»، مما يعني أن قضيتهم الأولى هي قضية القدس، وأن أفغانستان ممر وليست مستقراً.
كان طبيعي أن تسارع «القاعدة» في جزيرة العرب إلى إصدار بيان، نقله موقع «سايت» SITE السابق الإشارة إليه، قال فيه: «إن قرار ترمب يمثل تحدياً صريحاً للشارع المسلم الذي يعتقد بمركزية القضية الفلسطينية»، وأضاف البيان: «أمام هذا الخطب الجلل فإننا نقف إلى جانب أهلنا في فلسطين، وسننصرهم بكل ما نملك ولو حبواً على الركب، فعليكم بزاد الصبر، والجهاد في سبيل الله».
بيان «القاعدة» دعا أصحاب الاختصاص في متابعة شؤون الأصوليات والأصوليين مثل موقع «لونغ وور جورنال» إلى التساؤل: «أين سيأتي رد (القاعدة) على قرار القدس؟».
الموقع ذكر قائمة من الأهداف التي اختارها التنظيم للرد على إجراءات سابقة مماثلة، وقد ذكر القراء بـ«القسم الكبير» الذي أقسمه زعيم التنظيم السابق «أسامة بن لادن»، وفيه هدد الأميركيين بأنهم لن يهنأوا بالأمن قبل أن يعاش واقعاً في فلسطين، كما استحضر الموقع عدة حالات مماثلة وقعت فيها عمليات إرهابية رداً على مواقف أو تصرفات إعلامية وسياسية، مشيراً إلى احتمال أن تأخذ أية عملية قادمة للتنظيم سياقاً مماثلاً من ناحية اختيار الأهداف.
ثم ماذا؟: بالقطع سيكون للقرار الأميركي تداعيات سلبية كثيرة، تعزز من أحلام الأصوليين المسيحيين في الغرب، وتثير ثائرة الإسلاميين في الشرق، وبينهما يضيع السلام في العالم عامة، وفي القدس مدينة السلام بصفة خاصة.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.