الروهينغا... عقود من المعاناة والتهميش

نجلاء حبريري صحافية من أسرة «الشرق الأوسط»
نجلاء حبريري صحافية من أسرة «الشرق الأوسط»
TT

الروهينغا... عقود من المعاناة والتهميش

نجلاء حبريري صحافية من أسرة «الشرق الأوسط»
نجلاء حبريري صحافية من أسرة «الشرق الأوسط»

طغت أزمة الروهينغا على عناوين الصحافة الدولية وجلسات جمعية الأمم المتحدة في الشهور الأخيرة من عام 2017، وتزايدت الضغوط على حكومة أونغ سان سو تشي لوقف حملة عنف غير مسبوقة أدّت إلى لجوء أكثر من 600 ألف مسلم إلى بنغلاديش خلال 4 أشهر.
ورغم حجم المعاناة الإنسانية والضغوط العربية والإسلامية والدولية على حكومة ميانمار المدنية، لم تتخذ رانغون أي إجراءات ملموسة لضمان أمن المقيمين في إقليم راخين، وما زالت متمسكة برفضها دخول مراقبين أمميين وصحافيين دوليين. فمن هم الروهينغا، وما سبب اضطهادهم، ولماذا عجزت حكومة ميانمار المدنية التي تقودها سو تشي الحائزة على نوبل للسلام عن وقف معاناتهم؟
يعيش نحو مليون من الروهينغا في إقليم راخين، حيث يمثلون ثلث السكان، ويختلفون عن الغالبية البورمية البوذية لغويا وإتنيا ودينيا. وتعود أصول أقلية الروهينغا إلى القرن الـ15، وفق مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، عندما قدم آلاف الروهينغا إلى مملكة أراكان، فيما انتقل آخرون إلى ولاية راخين في القرنين الـ19 والـ20 عندما كانت لا تزال تحت سيطرة المستعمر كجزء من الهند البريطانية.
ومنذ إعلان الاستقلال في عام 1948، رفضت الحكومات المتعاقبة على بورما التي أصبحت في عام 1989 تعرف بميانمار، الاعتراف بالروهينغا كإحدى المجموعات الإتنية الـ135 الموجودة في البلاد. ليس ذلك فحسب، بل إن المنتمين لهذه الأقلية محرومون من الجنسية والحقوق المدنية التي ترافقها إذ تعتبرهم الغالبية البوذية مهاجرين غير شرعيين من بنغلاديش المجاورة.
فقد الروهينغا حقوقهم المدنية بالتدريج على مدى العقود الماضية. ففي عام 1951، أصدرت الحكومة البورمية نظام «بطاقات التسجيل الوطنية» للأفراد الذين لم يحصلوا على الجنسية البورمية، قبل أن تستبدل بها «البطاقات البيضاء» أو شهادات التسجيل المؤقتة، وفق دراسة نشرها «مركز الأزمات». حصل عدد من مسلمي ميانمار، بمن فيهم الروهينغا، على هذه البطاقات التي كان يفترض أن تشكل أساسا للحصول على جنسية في السنوات التي تلت. وفي عام 1982 راجعت الحكومة نظام المواطنة، وعرّفت المجموعات الإتنية التي تعترف بها كمكونات للنسيج الاجتماعي للبلاد، كما استبدلت البطاقات البيضاء بـ«بطاقات مراجعة الجنسية». إلا أن مسلمي الروهينغا لم يشملهم التصنيف الإتني لنحو 135 مجموعة، كما لم يستلموا البطاقات الجديدة بعد تسليمهم وثائقهم القديمة.
وفي موجة أخرى من التعديلات القانونية في منتصف تسعينات القرن الماضي، وزّعت الحكومة العسكرية بطاقات لمسلمي ميانمار، سواء كانوا من الروهينغا أو من إتنيات أخرى، إلا أنها تحرمهم من معظم حقوقهم باستثناء حق التصويت، كما لا تعتبر بديلا عن الجنسية.
وفي عام 2014، نظمت الحكومة أول إحصاء رسمي للسكان منذ 30 عاما ولم تسمح لمسلمي راخين بالتعريف عن أنفسهم كروهينغا، تحت ضغوط البوذيين القوميين، بل كـ«بنغال». كما سحبت من أصحاب البطاقات البيضاء حق التصويت في استفتاء دستوري في عام 2015، ليفقدوا بذلك آخر حقوقهم في ميانمار.
لم يقتصر تمييز السلطات البورمية ضد المسلمين الروهينغا على حقوق المواطنة، بل تجاوزها إلى الزواج والتخطيط الأسري والتعليم والتوظيف وحرية الحركة. ووفق تقرير لمنظمة «هيومن رايتس ووتش» الحقوقية، فإن الحكومة تفرض على مسلمي إقليم راخين طلب إذن قبل الزواج أو التنقل إلى بيت جديد أو السفر، ما يشمل في الكثير من الأحيان تقديم رشاوى للمسؤولين، كما تحدد عدد الأطفال المسموح بهم في الأسرة الواحدة باثنين فقط.
وشجعت هذه السياسات القمعية من طرف الحكومة حالة الاضطهاد التي يمارسها بعض القوميين ضد مسلمي إقليم راخين، حيث بلغ مستوى الفقر 78 في المائة، وأدت البطالة والبنى التحتية المتردية إلى تأجيج الخلافات بين البوذيين والمسلمين.
فر مئات آلاف الروهينغا إلى بنغلاديش على مر العقود. إلا أن هذه الأقلية المضطهدة شهدت أكبر موجة لجوء خلال الأشهر الماضية، بعد أن شنّ الجيش عمليات وصفتها الأمم المتحدة بحملة ترقى إلى «التطهير العرقي». وأكد تقرير أممي أن الجيش قام بحرق قرى وقتل الرجال واغتصاب النساء بشكل ممنهج، بناء على شهادات لاجئين نجحوا في اللجوء إلى مخيمات كوكس بازار عند الحدود البنغلاديشية والبورمية.
ويبرّر الجيش البورمي حملته العنيفة ضد الروهينغا بالقول إنه رد فعل «متوازن» على هجمات شنها ما يصفهم بمتمردي «جيش إنقاذ الروهينغا» ضد مراكز شرطة، وهو التبرير نفسه الذي أعطاه لشن حملة دموية أخرى في عام 2012.
إلا أن تقرير الأمم المتحدة شكك في هذه الرواية، مؤكدا أن التدمير الممنهج لمنازل الروهينغا وحرق قراهم لم يهدف طرد الروهينغا من ميانمار فحسب، بل منعهم من العودة إلى ديارهم. كما أشار التقرير إلى أن السلطات البورمية استبقت حملتها الأخيرة، التي انطلقت في 25 أغسطس (آب)، بسلسلة اعتقالات وتوقيف مسلمي الروهينغا الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و40 عاما بشكل عشوائي، فضلا عن رموز دينية وثقافية ومنع الروهينغا من الحصول على الغذاء، وممارسة الإهانة والعنف بحقهم، وترهيبهم عن طريق القتل والتعذيب والاغتصاب.
وقالت متحدثة باسم مفوضية الأمم المتحدة في شهادة أدلت بها في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي إن «الروهينغا أقلية مسلمة من دون دولة تعيش في ميانمار، وهم يواجهون التمييز والفقر المدقع منذ عقود». وتابعت أن هذه الفئة حرمت من حقوق إنسانية أساسية مختلفة تتعلق بحرية الحركة والتعليم والعمل والسياسة.
علّق المجتمع الدولي ومسلمي ميانمار آمالهم في أونغ سان سو تشي، الحائزة على نوبل للسلام، عند تسلمها السلطة في 2016 وترؤسها أول حكومة مدنية منذ عقود، لحل أزمة إقليم راخين ووقف الأعمال العدائية ضد الروهينغا. وسرعان ما تبددت هذه الآمال، إذ إن سو تشي لم تتدخل في سياسات الجيش، بل إنها رفضت وصف الحملة ضد الروهينغا بتطهير عرقي، وأرجعت الانتقادات الدولية إلى تغطيات إعلامية مضللة.
ويقول فرانسيس ويد، مؤلف كتاب: «العدو الداخلي في ميانمار: العنف البوذي والمسلم الآخر»، إن الجيش البورمي لا يزال يحظى بسلطة كبيرة على الاقتصاد والسياسة، بفضل اتفاق تقاسم السلطة بينه والحكومة المدنية التي ترأسها سو تشي. وتابع ويد بالقول إنه «رغم ذلك، فإن تكرار سو تشي لخطاب الجيش ضد الأقلية المسلمة ساهم في تأجيج العنف الطائفي».
واعتبرت منظمة العفو الدولية أن زعيمة ميانمار تمارس «سياسة النعامة» تجاه التطهير العرقي والفظائع التي ترتكب في ولاية راخين في بلادها ضد الأقلية المسلمة «الروهينغا»، وأشارت المنظمة إلى أن «هناك أدلة دامغة تثبت أن قوات الأمن تورطت في حملة تطهير إتني»، مضيفة أنها تأسف جداً لعدم تنديد الزعيمة البورمية بدور الجيش في هذه الاضطرابات، كما نقلت عنها وكالة الصحافة الفرنسية.



الملا عثمان جوهري يستذكر العمليات ضد الأميركيين

الملا عثمان جوهري في جولة بين التلال بولاية نورستان قال: «لم تكن هنا طالبان هنا عندما بدأت الحرب» (نيويورك تايمز)
الملا عثمان جوهري في جولة بين التلال بولاية نورستان قال: «لم تكن هنا طالبان هنا عندما بدأت الحرب» (نيويورك تايمز)
TT

الملا عثمان جوهري يستذكر العمليات ضد الأميركيين

الملا عثمان جوهري في جولة بين التلال بولاية نورستان قال: «لم تكن هنا طالبان هنا عندما بدأت الحرب» (نيويورك تايمز)
الملا عثمان جوهري في جولة بين التلال بولاية نورستان قال: «لم تكن هنا طالبان هنا عندما بدأت الحرب» (نيويورك تايمز)

قاد الملا عثمان جوهري واحدة من أعنف الهجمات على القوات الأميركية في أفغانستان، وهي معركة «ونت» التي باتت رمزاً للحرب ذاتها.

كان جوهري، قيادي «طالبان» السابق يرتدي نظارات شمسية ومعطفاً من الصوف الثقيل، كما لو أنه قد يترك المكان في أي لحظة. على طاولة مغطاة بالبلاستيك تفصل بيننا تحت ضوء الفلورسنت، كان هناك تل من اللحم والأرز الذي لم يُمس. كانت هذه هي المرة الأولى التي نلتقي فيها، تحديداً في شتاء عام 2022، وقد اختار للقاء مكاناً يقع في نُزل وسط شارع مزدحم.

كانت أصوات التجار وهدير حركة المرور تتسلل عبر نافذة مفتوحة فيما كنت أشرح له لماذا تعقبتُ أثره. منذ أكثر من عقد من الزمان، حاصر 150 مقاتلاً من «طالبان» قاعدة أميركية في سفوح جبال «هندوكوش»، وقُتل تسعة جنود وأُصيب أكثر من عشرين فيما باتت تُعرف بمعركة «ونت»، التي تعد واحدة من أعنف الهجمات على القوات الأميركية خلال الحرب بأكملها.

وايغال هي قرية كبيرة في عمق وادٍ باسمها لم تتمكن القوات الأمريكية من الوصول إليها مطلقاً خلال حملتها بنورستان (نيويورك تايمز)

هذا الرجل، الملا عثمان جوهري، كان قائد ذلك الهجوم، وهي معجزة أنه لا يزال على قيد الحياة. فخلال الحرب، كان القادة المتوسطون في «طالبان» يلقون حتفهم بانتظام. لكن ها هو حيٌّ يُرزَق. على مدار أكثر من عشرين عاماً، كانت الصحافة الأميركية تغطي نصف الحرب فقط. وأنا، بصفتي صحافياً سابقاً في أفغانستان ورئيس مكتب كابل، كنت جزءاً من ذلك أيضاً. كانت أجزاء كبيرة من البلاد محظورة، وكان تصوُّر «طالبان» غالباً ما يقتصر على دعاية الحركة، وكانت القصة الحقيقية غير معروفة. قرأتُ بصفتي صحافياً كل التقارير المتعلقة بمعركة «ونت»، وكل درس مستفاد. لكن الآن وقد انتهت المعارك، أصبحت أتساءل عما فاتنا. قد أتمكن من الحصول على بعض الرؤى حول كيفية انتهاء الحرب بشكل سيئ بالنسبة إلى الولايات المتحدة (وكذلك بالنسبة إلى كثير من الأفغان، لا سيما النساء).

أردت رؤية الحرب من الجانب الآخر لتقديم منظور قد لا يراه القارئ مطلقاً، ودروس مستفادة من الجماعة الوحيدة التي لم يُطلب منها ذلك، جماعة «طالبان». فبعد حرب فيتنام، التي تتشابه إلى حد كبير مع الحرب في أفغانستان لدرجة أنها أصبحت أشبه بالإكليشيه، مرّت عقود قبل أن تتعامل الولايات المتحدة مع عدوها السابق.

وبحلول ذلك الوقت، كان كثير من قادتها العسكريين قد ماتوا، وضاعت فصول من التاريخ ربما إلى الأبد، حسب المؤرخين.

الملا عثمان جوهري بمنزله في وايغال بولاية نورستان بأفغانستان (نيويورك تايمز)

قدمتُ هذا العرض للملا عثمان جوهري مرتين من قبل: الأولى كانت عبر حارسه الشخصي، الذي كان يرتدي زياً يشبه زي قوات العمليات الخاصة؛ والأخرى كانت عبر مساعده، الذي كان بمثابة قنبلة موقوتة في الانتظار، ولم يعد مطلوباً. أخيراً، جلستُ أمام الملا عثمان نفسه، وعندما انتهيت من حديثي، لم يقل شيئاً، ولم يحرّك حتى رأسه. نظرنا إلى الطعام الذي بدأ يبرد أمامنا حتى أشار إلى حارسه ليتهيأ، فقد كنا متجهين إلى موقع «ونت» بسفوح جبال «هندوكوش».

اليوم في «ونت»، ما زالت بقايا القاعدة الأميركية السابقة قائمة، مهدمة وممزقة كذكرى باهتة، أطرافها التي كانت قائمة في السابق ذابت في الأرض مثل لوحة لسلفادور دالي. أراني الملا عثمان خطوط إمداد «طالبان» ومواقع إطلاق النار، وأعاد تمثيل الحصار. لكن بينما كنا نتحدث على مدار الأيام التالية، ثم الأشهر والسنة التالية، أقنعني الملا عثمان بأن معركة «ونت» بدأت فعلاً قبل سنوات -لكنّ الأميركيين لم يكونوا يدركون ذلك. قال لنا إنه لكم يكن عضواً في «طالبان» عندما بدأت الحرب. وبعد انضمامه، أصبح موضع سخرية في قريته. كان السكان المحليون في الوادي يؤمنون بمستقبل وَعَدَتْهم به الولايات المتحدة. لكن بعد ذلك، بدأت الغارات الجوية الأميركية، التي استهدفت مسلحين مشتبه بهم، في قتل الأبرياء. هذه القصة مألوفة بشكل محبط، ولكن كان ما هو أغرب، فالأمريكيون قتلوا وجرحوا أولئك الذين دعموا وجودهم أكثر من غيرهم.

بدأت عمليات تجنيد «طالبان» في الازدياد، حسب الملا عثمان، مع تحول الأميركيين من حلفاء إلى أعداء.

يقول : «لم يكن هناك أي عنصر لـ(طالبان) هنا عندما بدأت الحرب»، عبارة قالها لي الملا عثمان جوهري في تلك الرحلة الأولى إلى قريته الأصلية في ويغال، التي تقع في عمق الوادي تحت الجبال الشاهقة المغطاة بالثلوج. «لكن بعد أن دخل الأميركيون وبنوا قواعدهم وقتلوا الأبرياء، نهض الناس وقرروا القتال».

دروس مستفادة

نورستان، منطقة جبلية في شمال أفغانستان، لم تكن تهدف مطلقاً لتكون نقطة محورية في الحرب على الإرهاب. لم تكن معقلاً طبيعياً لـ«القاعدة» أو «طالبان». في الواقع، خلال فترة حكمهم الأولى في التسعينات، كانت «طالبان» قد دخلت المنطقة بالكاد. ومع ذلك، اعتقد الأميركيون أنها طريق لتهريب الأسلحة والمقاتلين وملاذ آمن لتنظيم «القاعدة»، لذا بنوا قواعد وبدأوا في تنفيذ دوريات عدوانية في أماكن كانت معتادة على الاستقلال.

في رحلاتي عبر الوادي، قابلت حلفاء للولايات المتحدة تعرضوا للتشويه جراء الغارات الجوية، والذين فقدوا عائلاتهم أيضاً. هؤلاء الأشخاص كانوا بمثابة تذكير بقلة إدراك الولايات المتحدة للحرب التي كانت تخوضها. اتضح أن الأميركيين كانوا مخطئين بشأن كون نورستان معقلاً للإرهابيين. لكن قواعدهم أصبحت بمثابة مغناطيس يجذب المسلحين، مثل «حقل الأحلام» للمتمردين: الأميركيون بنوها، ثم جاءت «طالبان». وبحلول الوقت الذي قاد فيه الملا عثمان فريقه عبر الجبال لشن الهجوم على القاعدة الأميركية في «ونت»، كان الوادي قد تحوَّل ضد الأميركيين، وكانت النتيجة مأساوية.

*خدمة «نيويورك تايمز»