وسائل الإعلام حين تقع ضحية للإرهاب

«القاعدة» رسَّخ في أدبياته أن أكثر من نصف المعركة يجري على ساحات «الميديا»

مشهد انهيار برجي مبنى التجارة العالمية تكرر بثه مراراً من دون توقف وقابله من جهة أخرى حرص الإعلام على تلقف التسجيلات المرئية لقيادات التنظيمات الإرهابية وبثّها («الشرق الأوسط»)
مشهد انهيار برجي مبنى التجارة العالمية تكرر بثه مراراً من دون توقف وقابله من جهة أخرى حرص الإعلام على تلقف التسجيلات المرئية لقيادات التنظيمات الإرهابية وبثّها («الشرق الأوسط»)
TT

وسائل الإعلام حين تقع ضحية للإرهاب

مشهد انهيار برجي مبنى التجارة العالمية تكرر بثه مراراً من دون توقف وقابله من جهة أخرى حرص الإعلام على تلقف التسجيلات المرئية لقيادات التنظيمات الإرهابية وبثّها («الشرق الأوسط»)
مشهد انهيار برجي مبنى التجارة العالمية تكرر بثه مراراً من دون توقف وقابله من جهة أخرى حرص الإعلام على تلقف التسجيلات المرئية لقيادات التنظيمات الإرهابية وبثّها («الشرق الأوسط»)

من الصعب نسيان تصريح الرئيس الأميركي جورج بوش الابن في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، المتمثل في عبارته الشهيرة: «إما أن تكونوا معنا وإلا فأنتم مع الإرهابيين»، فهو يعكس تحولاً مفصلياً غَيّر من مفهوم الإرهاب، وعمّق من إدراك العالم لمدى خطورة التنظيمات الإرهابية بتسليط الضوء عليه. شهدت تلك الفترة التي ابتدأت بالألفية الجديدة تهافت وسائل الإعلام في تغطيتها ليس فقط الهجمات الإرهابية وإنما ما تجاوز ذلك ليُسهِم في دعم (البروباغندا) للتنظيمات الإرهابية».
فمشهد انهيار برجي مبنى التجارة العالمية تكرر بثه مراراً دون توقف، وقابله من جهة أخرى حرص الإعلام تلقف التسجيلات المرئية لقياديي التنظيمات الإرهابية وبثّها، كما حدث حين بثت قناة «الجزيرة» في 30 أكتوبر (تشرين الأول) 2004 التسجيل المرئي لزعيم «القاعدة» أسامة بن لادن وتناقلته وسائل الإعلام العالمية، مما أتاح له أن يعلل أسباب هجمات الحادي عشر من سبتمبر التي شنها تنظيم القاعدة، ويستعرض قدرات التنظيم والحيثيات التي مكَّنَته من تنفيذ الهجمات. كل ذلك عاد بالنفع على تنظيم القاعدة، إذ اكتسب عبره المزيد من المؤيدين، وتمكن من بث الرعب في نفوس المشاهدين، وهو يتوعد الولايات المتحدة وحلفاءها بالمزيد من الهجمات الإرهابية.
الأمر الذي لم يتوقف عند هذا الحد وأسهم في إرضاء الأنا المتضخمة لدى المتطرفين، إذ عززت وسائل الإعلام من الهالة الإعلامية التي أحاطت بن لادن بالتسابق من أجل إجراء لقاءات صحافية معه، تعاقبت عليها كثير من الأسماء اللامعة أمثال الصحافي البريطاني روبرت فيسك، والأميركي سكوت ماكلويد. بل وصل الأمر إلى أن يسأل الإعلامي بيتر أرنيت في لقاء صحافي أجراه مع أسامة بن لادن في مارس (آذار) عام 1997 لقناة «سي إن إن» الإخبارية باهتمام بالغ: «ما مخططاتك المستقبلية؟»، وكأنه أحد مشاهير هوليوود ممن يتوق المشاهدون لمعرفة مخططاته. ليجيبه بن لادن برصانة وثقة: «سوف تراها وتسمع عنها في وسائل الإعلام إن شاء الله»، تلك الحقبة التي افتتنت فيها وسائل الإعلام بنقل صوت المتطرفين اندحرت ليقابلها في الفترة الآنية الاكتفاء بتغطية الهجمات الإرهابية وعواقبها، بعيداً عن الوقوع في سقطة تضخيم الجماعات المتطرفة، إذ بدأ ذلك بالخفوت التدريجي إلى الحد الذي ظهرت فيه أصوات تتهم وسائل الإعلام بعدم وجود تغطية كافية للهجمات الإرهابية.
على نسق تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب في فبراير (شباط) 2017، حين اتهم وسائل الإعلام بالتقصير في تغطيته للإرهاب وعملياته. وذلك ليس بالأمر المستغرب، إذ لطالما سقطت التغطيات الإعلامية لقضايا الإرهاب ضحية الانتقاد إما بالإفراط أو التقصير، بالأخص كون الإعلام مهما كان محايداً من السهل إلصاق الكثير من التهم به، بدءاً بالترويج للتنظيمات المتطرفة، ووصولاً إلى النمطية في تغطية الهجمات الإرهابية والتركيز على تغطية الهجمات التي نفذها متطرفون باسم الإسلام مما يشعل فتيل الإسلاموفوبيا ويوسع الهوة بين الحضارات والثقافات المختلفة. من جهته وصف زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري الحرب الإعلامية التي تخوضها «القاعدة» بالمعركة وبأن أكثر من نصف هذه المعركة تجري على ساحات وسائل الإعلام بما يبدو أشبه بـ«سباق لاستمالة قلوب وعقول الأمة». مثل هذا السعي من أجل كسب «أفئدة وعقول» الآخرين عبر وسائل الإعلام ليس بالأمر الجديد، إذ سعى تنظيم القاعدة بالتحديد التكثيف من حضوره في الساحة الإعلامية التقليدية، وعبر المنابر الإعلامية للتنظيم من أجل محاولة إبهار الآخرين، وفي الوقت نفسه لتخويف الآخرين من خلال استعراض قدراتهم التي تصب في محاولات إثبات وجودهم والاستمرارية في ذلك. إذ إن الهدف الأول المتعارف عليه من الهجمات الإرهابية ليس حصد عدد قتلى كبير وإنما اللعب بالعامل النفسي من خلال إثارة الرعب والحصول على أكبر قدر من المشاهدين عبر الضجة الإعلامية التي تحدثها تلك الهجمات، وقد انتقل ذلك في الآونة الأخيرة على الساحة الإلكترونية التي ارتكز عليها إرهاب العصر الحديث، ففي حقبة ما قبل «داعش» كانت تظهر عبر شاشات التلفاز خطابات قادة «القاعدة»، فيما بزغ «داعش» لتمثل مرحلة جديدة تحمل توجهات مختلفة لا تمجد قادتها وإنما تحرص على إخفاء الهويات والانصهار تحت مسمى التنظيم. يبدو أعضاء «داعش» أشبه بشخصيات هلامية يصعب الإمساك بها بخلاف التنظيمات السابقة التي كانت تتخذ تنظيماً هرمياً ومنحى أكثر وضوحاً، وبأسماء معروفة لقادته، وشمل ذلك رموزاً لـ«القاعدة» ليس في التنظيم الأم فحسب، وإنما في المناطق المختلفة كـ«القاعدة» في جزيرة العرب والتي عرف قادتها في السعودية بالتحديد أمثال عبد العزيز المقرن ويوسف العييري. فيما يقابلها من جهة أخرى اختلاف كبير في سلوكيات تنظيم داعش، ويتجلى ذلك من خلال القبض على الداعشيين المطلوبين أمنياً في السعودية دون إعطاء أهمية للشخصيات، إذ كرّس التنظيم جلّ اهتمامه باستقطاب أكبر عدد من المنتمين لهم بعيداً عن الانتقائية التي حرصت عليها القاعدة من قبل. لم يكترث تنظيم داعش بدءاً بزعيمه أبو بكر البغدادي للظهور الإعلامي واكتفى بتصريحات معدودة وقت الحاجة لذلك، الأمر الذي سهل من التشكك بصحة مقتله من عدمه وقلل من مدى تأثير اختفائه عن التنظيم بابتعاده عن التعظيم من شأن الشخصيات أو الأهداف، وهو امتداد لما تميز به تنظيم داعش بالقدرة على تغيير استراتيجياته وتكييفها مع الظروف المحيطة به. ففي الوقت الذي حرص فيه التنظيم على الابتعاد عن أنظار الإعلام التقليدي خشية الوقوع في قبضة السلطات والجهات الأمنية الدولية بالأخص بعد أن تضافرت جهودها من أجل القبض على المتطرفين وأصبح من السهل الوصول إلى أماكن وجودهم في حال تواصلهم إلكترونياً. خلق التنظيم لنفسه عالماً إلكترونياً آخر قائم على الترويج للتنظيم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي من أجل الوصول لأكبر قدر من المتعاطفين وتكوين خلايا نائمة في بقاع بعيدة بطرق سريعة وسهلة دون الحاجة عن الكشف عن هوية الأعضاء المنتمين إليه. فأي شخص يتبنى أفكار «داعش» في أي بقعة من العالم من الممكن أن ينفذ هجمة إرهابية مباغتة وحده كذئب منفرد دون الحاجة إلى اجتماعٍ فعلي مع أعضاء آخرين. باستثناء حالات نادرة أتيحت فيها الفرصة لإعلاميين معدودين إجراء حوارات صحافية مع بعض قادة التنظيم أو التعرف على العالم الداعشي عن كثب، كما حدث مع الصحافي الألماني يورغن هورفور في عام 2014، حين سمح له بالدخول إلى معاقل «داعش» في الموصل لمدة عشرة أيام، من خلال تصريح رسمي من زعيم التنظيم البغدادي أطلق عليه «كتاب الأمان» بعدم المساس به. وقد جرى ذلك في الفترة التي كان فيها التنظيم في أوج قوته وحرص على تكثيف جهوده من أجل تجنيد الجنسيات المختلفة والتركيز على الغربية منها من أجل توسيع الرقعة الجغرافية للتنظيم والاستثمار بشخصيات بإمكانها نقل خبرتهم العسكرية والفكرية الداعشية إلى أوطانهم حال رجوعهم إليها. وقد أعرب الصحافي يورغن عقب عودته إلى وطنه عن تفاجئه من أن التنظيم «أقوى مما كنا نتوقع»، وعن العدد الضخم من المناصرين من الجنسيات المختلفة بما فيها الجنسية الألمانية. بخلاف ذلك فإن تنظيم داعش اعتمد بشكلٍ عام على أذرعه الإعلامية المتمثلة في وكالة أعماق والمنشورات الإعلامية التي يعدها أعضاء التنظيم المختصون في نشر رسائله الإعلامية كمجلة دابق والتي تموجت لغاتها وأساليبها حسب الشريحة والجنسية المستهدفة. وقد تكثفت الرسائل الإعلامية للتنظيم في فترة مد نفوذ «خلافته المزعومة» في كل من العراق وسوريا، وألزم أعضاؤه بالاقتصار على سماع وسائل إعلام التنظيم وحدها، حرصاً على إقصاء أي مؤثرات خارجية، إلا أن تلك السيطرة الإعلامية تلاشت بعد فقدان تنظيم داعش لأراضيه، ليقتصر التنظيم على تبني الهجمات الإرهابية التي يزعم بأن أحد أعضائها قد ارتكبها. وإن تبنى التنظيم في الآونة الأخيرة هجمات لم يرتكبها كما حدث مع هجوم لاس فيغاس الذي أودى بحياة 58 شخصاً وارتكبه الأميركي ستيفن بادوك قبل انتحاره، وفي الحين الذي تبنى تنظيم داعش نفت ذلك السلطات الأميركية. الأمر الذي يظهر استماتة التنظيم في محاولته الحصول على أي إثبات لاستمرار قوته وأهمية هجماته وإن كان من خلال الادعاء بارتكاب عملية إرهابية لا علاقة له به، بالأخص بعد أن كثفت وسائل الإعلام من تغطيتها لأخبار انحسار قوة «داعش»، الأمر الذي جعل التنظيم يكثف من رسائله الإعلامية التي تحذر أعضاؤه ومناصرين من التأثر والانخداع بما تذكره وسائل الإعلام، وتجنب المعلومات التي وصفها التنظيم بـ«الكاذبة» بالأخص في الآونة الأخيرة مع تجلي ضعف قدراتهم العسكرية والإلكترونية، وصعوبة التحكم في المحتوى الذي يشاهده أعضاء التنظيم ويؤكد انحسار نفوذهم بخلاف ما كان يحدث من سيطرة إعلامية على المناطق التي أرسى فيها التنظيم «خلافته المزعومة» في الرقة والموصل. لا سيما بعد أن تمكنت السلطات الأمنية الدولية من كشف هويات الإرهابيين والتوصل إلى أماكن وجودهم من خلال أنشطتهم الإلكترونية. وقد قلّص من قدرات التنظيم الإلكترونية تشديد الرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي وتصيد الحسابات التي تحرض على التطرف وإقفالها، ولم يقف الأمر عند تعطيل الصفحات الإلكترونية أو إقفال الحسابات المتطرفة فحسب وإنما، اتخذت طرق مكافحة الفكر المتطرف منحى جديداً من خلال محاولة تغيير التوجهات المتطرفة، إذ تمكنت عدة مواقع إلكترونية مثل «غوغل» و«يوتيوب» من إحالة الباحثين عن معلومات أو تسجيلات مرئية تحرّض على الإرهاب إلى أخرى تدينها. الأمر الذي يصعب على الإرهابيين القدرة على تجنيد المتعاطفين معهم كما كان يحدث من قبل ويساهم في خفض صوت خطابات الكراهية ويساهم في إعادة التوازن في المجتمعات وإرساء قيم السلام.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟