جان دورميسون ... رحيل الارستقراطي المترف صديق الرؤساء والقادة

ربما كان آخر كاتب سعيد بعد فولتير

دورميسون على غلاف مجلة «لوبوان»  -  جان دورميسون
دورميسون على غلاف مجلة «لوبوان» - جان دورميسون
TT

جان دورميسون ... رحيل الارستقراطي المترف صديق الرؤساء والقادة

دورميسون على غلاف مجلة «لوبوان»  -  جان دورميسون
دورميسون على غلاف مجلة «لوبوان» - جان دورميسون

أخيرا مات جان دورميسون! وكنا نعتقد أنه لن يموت قبل بلوغ المائة عام. وهذا ما صرح به هو شخصيا عندما قال بكل ثقة واطمئنان: لا أعرف كيف يمكن أن أتحاشى ذلك. ولكن الإرادة الإلهية شاءت له أن يموت شابا صغيرا في الثانية والتسعين فقط! وقد عاش حياة رائعة من أسعد ما يكون. وربما كان آخر كاتب سعيد بعد فولتير. ولهذا السبب كان يتحسر بحرقة عندما اقترب منه الأجل. فالغني المترف الذي يعيش حياة القصور في أرقى الضواحي الباريسية غير الفقير المعذب الذي قد يقول: والله ارتحنا من هذه الحياة، اللهم عجل وبارك! نعم كان صاحبنا من الأثرياء جدا وينتمي إلى الطبقة الأرستقراطية العليا في المجتمع الفرنسي. وكان صديقا للرؤساء والزعماء من جورج بومبيدو إلى جيسكار ديستان إلى ساركوزي بل وحتى ميتران... وكان يتحدث معهم أحيانا من موقع الند للند. وكان رئيسا لتحرير أعرق جريدة فرنسية «الفيغارو». وكان موظفا كبيرا في اليونيسكو ومشرفا على تحرير مجلة «ديوجين» الرصينة التي كتبت فيها خيرة علماء أوروبا ومثقفيها. وكان عضوا في الأكاديمية الفرنسية منذ عام1973. وكان يكره جان بول سارتر كرها شديدا لأنه يميني والآخر يساري. وكان، وكان... هذا وقد خلف وراءه مؤلفات كثيرة لا يستهان بها. وقد قرأت بعضها أو الكثير منها في السنوات الأخيرة واستمتعت بها كل الاستمتاع. وتحدثت عن بعضها هنا أو هناك. ولكن ما لم أتحدث عنه هو كتابه عن السيرة العاطفية لشاتوبريان بعنوان: «آخر أحلامي سيكون لأجلك يا حبيبتي». وفيه يتحدث عن سلسلة قصص الحب التي عاشها كاتب فرنسا الأعظم بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ومعلوم أن شاتوبريان كان قدوة جان دورميسون ولا يحلف إلا باسمه. وكان يعتبره قمة الآداب الفرنسية. وكان ينحني أمامه صاغرا متصاغرا. وكان يعتبر كتابه: «مذكرات ما وراء القبر» روعة الروائع الأدبية. ولكن سارتر كان يحتقره إلى درجة أنه بصق على قبره الواقع على جزيرة صخرية صغيرة مقابل مدينة سان مالو. وبإمكانكم أن تصلوا إليها سيرا على الأقدام عندما ينحسر البحر. وقد أدهشتني جدا بموقعها وجمالها الساحر عندما رأيتها لأول مرة. فسألتهم متعجبا: ما هذا المكان؟ ما هذه الجزيرة الصغيرة؟ فأجابوني: ألا تعرفها؟ هنا يرقد شاتوبريان.هذا قبره تحت ظلال الأشجار ومياه البحر تحيط به من كل جانب. منظر ولا أروع! يا له من قبر جميل. إنه أجمل قبر رأيته في حياتي. وقد أوصى بذلك شخصيا قبيل وفاته ورفض قطعيا أن يدفن في العاصمة باريس حيث توفي. أراد العودة إلى مسقط رأسه. ما الحب إلا للحبيب الأول... شكرا لأبي تمام. على أي حال لقد دنس سارتر قبره عن قصد لأنه كان يعتبره كاتبا رجعيا عميلا للملك لويس الثامن عشر المضاد لنابليون. ولكن المشكلة يا مسيو سارتر هي أن الكاتب الرجعي الحقيقي أفضل من الكاتب التقدمي الهزيل.كان سارتر يعيش آنذاك مرحلته اليسارية المتطرفة. وكان يقول بأن كل مضاد للشيوعية فهو كلب! هذا الهجوم اللائق أو غير اللائق لا يعني أبدا أني أضع جان دورميسون في مستوى سارتر. عيب!
نكتشف من هذه السيرة العاطفية لشاتوبريان أنه كان زير نساء. فالعشيقات يرتمين عليه من كل حدب وصوب. وذلك لأن الشهرة تجذب النساء كثيرا مثل السلطة... فكل شخص مشهور هنا له عشيقات كثيرات ما عدا ديغول الذي لم يخن زوجته أبدا قط. في غرناطة، وفي ظل الأمجاد العربية الأندلسية التقى شاتوبريان بإحدى حبيبات قلبه «ناتالي» عن طريق الصدفة المحضة حتى لكأنه نزار قباني:
في الساحة الحمراء كان لقاؤنا
ما أطيب اللقيا بلا ميعاد...
كان محظوظا شاتوبريان. كان محبوبا جدا من قبل النساء. وكان يستغلهن أحيانا أو يضحك عليهن أو يتهرب منهن بعد أن يكل ويمل.كان يتنقل من واحدة إلى أخرى كالفراشات. وكان يوهم كل واحدة بأنها حبيبة قلبه الوحيدة من دون الأخريات.كان لعوبا طروبا. هذا وقد تركت إحداهن زوجها من أجله، وأما الأخرى فقد جُنت، وأما الثالثة فقد انتحرت أو كادت... وأما نحن فلم تُذرف علينا دمعة واحدة حتى الآن. ولا يُتوقع أن يحصل ذلك في المدى المنظور. وهذا شيء غير جيد من طرفه. ألا يعذبه ضميره؟ وكان يقول أحيانا عن أصدقائه بعد أن شاخ وكبر وأصبح مسحوقا تحت وطأة الذكريات: كلهم ماتوا، كلهم رحلوا... لم يبق إلا أنا... متى سأرحل عن هذا العالم وأرتاح؟... ثم يضيف أحيانا: لو كنت حرا لعشت في العزلة والوحدة المطلقة. تلزمني صحراء ومكتبة وعشيقة واحدة فقط. ولكني أبالغ هنا وأشوه صورة شاتوبريان فيما يخص النساء. فالواقع أنه كان حساسا إلى أقصى الحدود وكان يبكي الحب المنصرم بدموع حرى. وعندما نقرأ الكتاب ندرك أنه كان إنسانا حقيقيا لوعه الحب. اقرأوا الفصل الثاني المخصص لقصة حبه مع واحدة تدعى باولين. فقد رافقها حتى اللحظة الأخيرة. ولم يتخل عنها أبدا عندما سقطت مريضة بل وفعل كل شيء من أجلها. وعندما كانت تحتضر كان ينتحب بحرقة في الغرفة المجاورة. وبالتالي فأعتذر عن الكلمات السابقة التي وصفته فيها بأنه رجل لعوب يتلاعب بقلوب النساء. فهذا نصف الحقيقة فقط.
ولكن ليس عن شاتوبريان سوف أتحدث لكم اليوم وإنما عن تلميذه النجيب جان دورميسون الذي فارقنا الأسبوع الماضي في إحدى ضواحي باريس الفاخرة. وقد شيعته فرنسا في جنازة وطنية مهيبة كما حصل لفيكتور هيغو من قبل. وكان على رأس المشيعين رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون وكبار الشخصيات. وهذه هي حال الدنيا كما قال شاعرنا العربي:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
يوماً على آلة حدباء محمول
هذا وقد ألقى الرئيس ماكرون خطابا فلسفيا مهما استشهد فيه حتى بنيتشه! ولا أعرف من أين جاء بكل هذه الثقافة وكل هذا العمق. فهل الخطاب من تدبيجه يا ترى أم من تدبيج مستشاريه ومساعديه؟ ولكن الأرجح أنه هو صاحبه. ينبغي ألا ننسى أن ماكرون كان تلميذا للفيلسوف الكبير بول ريكور وربما سكرتيره أيضا. وهذا يعني أنه تلقى ثقافة فلسفية واسعة على يديه. وبالتالي فإذا عرف السبب بطل العجب. تقول عبارة نيتشه الرائعة: من شدة عمقهم كان الإغريق يبدون سطحيين! وطبقها ماكرون على دورميسون الذي كان يُتهم بالخفة والسطحية من قبل منافسيه وحساده في الساحة الباريسية.
- ما هي مؤلفات جان دورميسون التي أمتعتني فعلا واستفدت منها؟
إنها كثيرة ولا أستطيع أن أذكرها كلها. ولكن بالإضافة إلى الكتاب الجميل السابق الذي ذكرته عن الحياة العاطفية لشاتوبريان هناك كتاب أساسي يسترعي الانتباه. وهو يحمل العنوان التالي: تاريخ آخر للأدب الفرنسي، في جزأين. كم هو ممتع هذا الكتاب! كم هو مفيد لمن يريد أن يأخذ فكرة عن الأدب الفرنسي عبر تاريخه الطويل! إنه يثبت لك أن جان دورميسون كان يحب الأدب، يعبد الأدب عبادة. وربما لهذا السبب فإني أحترمه. إنه يذوب ذوبانا عندما يقرأ قصيدة لفيرلين أو لرامبو أو حتى لأراغون الشيوعي المضاد له طبقيا وآيديولوجيا. فالأدب يخترق كل الحدود والسدود. الأدب يعلو على كل الانقسامات والحزازات المتحزبة أو الحزبية. يقول في مقدمته للجزء الأول من الكتاب ما معناه: «أحب الكتب. كل ما يخص الأدب أحبه ويخفق له قلبي. أحب مؤلفيه، وأبطاله، وأنصاره، وخصومه، وخصوماته، واشتعالاته...».
ثم يضيف قائلا: «في هذا العصر الذي أصبحت فيه الكتب مهددة بالانقراض من قبل شيء بربري غامض فإن هذا التاريخ الجديد للأدب الفرنسي الذي أقدمه لكم حاليا لا يهدف إلا لشيء واحد: إغراء القراء بالتعرف على شخصيات الأدب الفرنسي. وهي شخصيات استعرضها هنا تباعا الواحدة بعد الأخرى. وإذا ما نجح كتابي هذا بدفع بعض القراء إلى فتح كتاب واحد لستندال أو لريمون كينو أو لأراغون إلخ... فإني أكون قد بلغت هدفي».
وأما في مقدمة الجزء الثاني من الكتاب فيقول جان دورميسون ما معناه: إن المنهج الذي استخدمته هنا في هذا الجزء الثاني هو ذاته الذي استخدمته في الجزء الأول. وهو يتمثل فيما يلي: التعريف بالكاتب وأعماله بشكل مختصر أولا. ثم الكشف عن شباب هذا الأدب وطابعه التجديدي المبتكر بعد أن مرت عليه القرون ثانيا. إني أتحدث لكم عن الموتى كما لو أنهم أحياء. فراسين لم يمت بالنسبة لي ولا كذلك كورني أو فولتير وبودلير وفلوبير... كلهم أحياء. يبلى الزمن ولا تبلى روائعهم الخالدة. وتجاعيد الزمن عاجزة عن أن تعلو على جبين وجوههم...
وعلى هذا النحو راح يستعرض جان دورميسون كبار شخصيات الأدب الفرنسي منذ أقدم العصور وحتى اليوم. على هذا النحو راح يتحدث لنا بأسلوبه الممتع الشيق عن فيكتور هيغو ولامارتين وبلزاك ورامبو ورينيه شار وعشرات الآخرين. وفائدة هذا الكتاب هي أنه لا يعطيك فكرة عن كبار العباقرة فقط وإنما يبين لك معناهم في الوقت الحاضر. ومن أقدر على ذلك من جاك دورميسون؟ بمعنى آخر فإنه يموضعهم في عصرهم ويموضعهم في عصرنا أيضا: أي ماذا تبقى منهم وماذا مات أو أصبح قديما باليا. ولكني لن أغفر له أنه أخطأ في تقييم جان جاك روسو.
- كلماته الأخيرة
أخيرا بالأمس القريب ظهرت ابنته الوحيدة هيلويز دورميسون على شاشات التلفزيون وأعطت للجمهور أخباره وآخر لحظاته قبل أن يموت. ونفهم منها أنه استطاع إكمال كتابه الأخير قبيل موته بوقت قصير جدا. وهذا خبر سعيد ومفرح. فعادة ما يترك الكتاب الكبار مخطوطاتهم ناقصة قبل رحيلهم. إنهم يموتون فجأة قبل أن تكتمل. بل ووجدت على مكتبه مخطوطة كتابه الجديد لأنه كان يكتب بخط اليد على الطريقة القديمة. تقول الصفحة الأخيرة من كتابه القادم الذي سيظهر بعد موته والتي خطها قبل ثلاثة أيام من رحيله:
«مجال لانهائي. كل شيء عابر. كل شيء ينتهي يوما ما. كل شيء يختفي ويزول. وأنا الذي كان يتخيل أنه سيعيش إلى الأبد ماذا سيحصل لي؟ ليس مستحيلا... ولكن يكفي أني عشت في هذا العالم الذي عشتم فيه أنتم أيضا. هذه حقيقة وجمال خالدان إلى الأبد. وحتى الموت لا يستطيع أن يفعل شيئا ضدي بعد الآن».
لم تكن عبارة ليس مستحيلا مكتملة وإنما ترك وراءها عدة نقاط فارغة... والمقصود بها أنه ليس مستحيلا أن يكون هناك شيء آخر بعد الموت. وهكذا ينتقل جان دورميسون من جنة الأرض الباريسية إلى جنان السماء العُلوية. هذا ما يطمح إليه ويأمله بكل تعطش وحرقة دون أن يكون متأكدا من وجود شيء آخر بعد الموت. وهذا ما كان يعذبه ويشغله على مدار الساعة في السنوات القليلة الماضية. كل كتبه الأخيرة تدور حول هذه النقطة.


مقالات ذات صلة

كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.