«شون بن».. أصالة البرية وزيف المدينة

قدم في فيلمه «إلى البرية» أسئلة وجودية كبرى

شون بن  -  ملصق الفيلم
شون بن - ملصق الفيلم
TT

«شون بن».. أصالة البرية وزيف المدينة

شون بن  -  ملصق الفيلم
شون بن - ملصق الفيلم

شكلت حياة المدينة بصخبها وضجيجها، بنظامها الصارم وتعقيدات أهلها، والتوجس المستمر بين الأفراد.. شكلت تلك القيود كلها همّا لدى كثير من الفلاسفة الذين عاصروا الثورات العلمية، والتقدم التقني، وغليان الابتكار وتضاؤل حجم العالم، وتقارب العالم، وسيلان المعلومة. لقد ساهمت المدن بمعنى ما في صياغة «الهم» أو «الجموع» أو «الوجود الزائف» بحسب تعبير هيدغر، لهذا نرى «زرادشت» نيتشه قد يمم وجهه نحو الجبال؛ حيث الأفاعي والنسور، حيث «الحكمة» يلزمها الصمت، والإنصات للوجود يمنح الإنسان قدرة على الحدس ورؤية الوميض ومراقبة شهب الحقيقة الغامضة. وقد رأيت من خلال التتبع أن «هيراقليطس، وفيلوكتات، وبرموثيوس، وإمبيدوكل، ونيتشه، وهيدغر» مع اختلاف أزمانهم، كلهم لجأوا إلى الجبال للتفكير والتأمل، وكل دروب أولئك كانت صادمة، ذلك أن الوجود في الجبال هو «وجود الأعالي» بتعبير نيتشه.
حين تحاول أن ترى «مشهديا» تلك الرحلة من المدينة إلى الريف، من الضجيج إلى الحقل، من السهل إلى الجبل، تنبعث لك الصورة التي يطرحها الفلاسفة من خلال مشاهدة فيلم «إلى البرية» Into the Wildالمنتج في 2007، وأصله مستوحى من كتاب يحمل الاسم نفسه، من تأليف جون كراكور، الذي يحكي مغامرة كريستوفر مكندلز. أخرج الفيلم الممثل والمخرج شون بن، وهو الذي كتب السيناريو. الفيلم من بطولة إميل هيرش، وويليام هورت، ومارسيا غاي هاردن، وجينا مالون، وهال هولبروك، وكاثرين كينر، وكريستين ستيوارت.
وعلاوة على إخراج رائع، وسيناريو ممتع، فقد كان للصور والنقلات بين المشاهد، وتتبع البطل سراب الحقيقة، والبحث عما يسميه هيدغر «براءة الصيرورة» أو «بكارة الطبيعة»، كان لذلك أكبر التأثير في مفاصل الفيلم وسيلانه البصري الهائل. يتحدث البطل الحائر، الهارب من المدينة بحفلاتها وصخبها، عن البحر والبر، عن المسير والوميض، عن النهر والماء. وبينما يجهز قاربه ليهزم به موج البحر، يصرخ: «ما يعطينا إياه البحر، هي هذه الضربات من الموج». ومن ثم يبحر وفي منتصف مشواره يرنم حول الحقيقة: «إن اعترافنا بأن الحياة البشرية يمكن أن يديرها المنطق يدمر احتمال الحياة»، ثم تدخل موسيقى «إيدي فيدر» التي تعد من أفضل القطع الموسيقية للأفلام، وحاز الفيلم عنها جائزة «غرامي».
على وقع الموج يغني البطل: «أيها المجتمع أنت مريض». تذكرت النص الفلسفي الرائع لمارتن هيدغر: «وحدها الغابة السوداء تلهمني» الذي كتبه ردا على اتهامه بـ«النازية»، وردا على المناصب التي رفضها، وهو في كوخه أعلى الجبل حين كتب: «المدنيون يندهشون أحيانا لعزلتي الطويلة والرتيبة بالجبال وبين المزارعين، غير أن ما أعيشه ليس العزلة، وإنما الوحدة. في المدن الكبيرة بإمكان الإنسان أن يكون منعزلا أكثر من أي مكان آخر، وبسهولة متناهية، غير أنه لا يستطيع أن يكون وحيدا ألبتة، ذلك أن الوحدة لها نفوذ متميز تماما في ألا تعزلنا، ولكن بالعكس، في أن تلقي بحياتنا كلها بجوار جوهر كل الأشياء. في ليل الشتاء العميق تنفجر عاصفة ثلجية حول البيت، وتأخذ في تغطية ومواراة كل شيء، عندئذ يبدأ زمن الفلسفة، والعمل الفلسفي لا يجري بعيدا كما لو أنه فريد من نوعه، إن مكانه يوجد وسط عمل الفلاحين».
وبينما البطل في رحلته إلى البرية يفكر ويتأمل أن أيامه الأكثر إثارة تلك التي كان فيها مفلسا، وقرر أن يعيش الحياة فقط بـ«بعض الوقت» مستعينا بالحرية والجمال البسيط، تحفه الموسيقى وحالة الحب، وبيده الكتاب.
قدم الفيلم صورا صادمة ذات معنى وجودي عميق، فيه مساءلة لواقع المدنية الذي يشوبه الزيف، هذا فضلا عن «التكاذب الجماعي» و«التواطؤ» على تتفيه كل ما هو قيم، ونحر جوهر الأشياء من فنون وموسيقى وجماليات وروحانيات، لتكون سلعا ضمن شركات، وصيغ متاجرة، وأوراقا للعمولات، بدلا من أن تبقى ضمن كيانها الأصلي. هذا الزيف هو نقطة الهروب في تفاصيل الفيلم ونقلاته. وحين أدركه الجوع في الغابة وجد فريسته «الموظ» بجثتها الضخمة، حينها أطلق النار عليها، ليعثر في جوفها على جنينها، ومن ثم يفشل في تناولها لينثر لحمها للحيوانات، ولتمر الذئاب عليها لتنهش، وهو ينظر إلى الذئاب يسأل: من الوحش هنا؛ الإنسان أم الذئب؟! وهل يلام الذئب على افتراس الإنسان؟!
يبقى الفيلم صيغة وجودية بداخلها صورة دقيقة ومدهشة، وسيناريو شاعريا ومتسائلا. هذا ما جعل الفيلم يستحق أن يكون ذا بعد فلسفي حقيقي بنقلاته وأسئلته وحيويته.
وبينما البطل يلفظ أنفاسه الأخيرة في الحقل يرسل إلى حبيبته التي تنتظره: «السعادة أن نكون معا»، رحل وهو يؤمن بشيء أساسي: «إن الله هو المحبة».



الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي
TT

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

تصدر قريباً الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي كمال سبتي (1955 - 2006)، أحد أهم شعراء ما عُرف بجيل السبعينات في العراق. متضمنة ثمانية دواوين، مستهلةً بديوان «وردة البحر ـ 1980»، ومختتمةً بـ«صبراً قالت الطبائع الأربع ـ 2006». هنا نص مقدمة هذه الأعمال التي ستصدر عن «دار جبرا للنشر والتوزيع ـ الأردن»، وبالتعاون مع «دار النخبة للتأليف والترجمة والنشر - لبنان».

وقد كتب مقدمة المجموعة الكاملة الشاعر العراقي باسم المرعبي، التي جاءت بعنوان «كمال سبتي... المرافعة عن الشعر» ويقول فيها:

«يحتاج شعر كمال سبتي، بالمجمل، إلى جَلَد عند قراءته، فهو على نقيض الكثير مما هو شائع من تقنيات شعرية تعتمد البساطة والعفوية والمباشرة، مع عدم تسفيه هذه النزعات الأسلوبية، طالما أن الشعر كقيمة وجوهر يبقى مُصاناً، غير منتهَك به. على أنّ إشاحة الشاعر عن مثل هذا الاتجاه ومخالفته، لم يجعل شعره غامضاً أو عصيّاً.

شعر مثقل بالمعنى ومزدحم به، لأنه ذو مهمة توصيلية، وهو يتطلب إصغاءً وإعمال فكر. والقصيدة لدى كمال معمار ذهني - فكري ونفسي، في الآن ذاته، يستمدّ فيها الشاعر مادته من مغاور النفس والسيرة الشخصية، فضلاً عن استثمار راهن التجربة الحياتية، مشظّياً كلّ ذلك في النص، صراحةً أو رمزاً. دون أن يستثني مادة الحلم من استثماره الفني والموضوعي، وهو ما يُتبيَّن أثره في نصوصه، لا سيّما النصوص النثرية الطويلة، المتأخرة، ليتصادى ذلك مع قراءات الشاعر في الرواية أو اعتماده السينما مصدراً مفعّلاً في كتابته الشعرية. وعن هذه الأخيرة قد أشار إلى ذلك الشاعر نفسه في واحد من الحوارات التي أُجريت معه، ليرقى كلّ ذلك إلى أن يكون جزءاً عضوياً من تجربته الحياتية، الذهنية هذه المرة، مُسقَطة بالمحصلة على القصيدة، لتنعكس خلالها حركةً وتوتراً درامياً. وهو ما ينسحب بالقدر ذاته على نزوع الشاعر في سنواته الأخيرة إلى قراءات في التصوف والقرآن والتراث، ما نجمَ أثره بشكل جلي، في مجموعته الأخيرة «صبراً قالت الطبائع الأربع»، وإلى حد ما في المجموعة السابقة لها. وهو فارق يلمسه القارئ، إجمالاً، بين المنحى الذي اتخذه شعر كمال سبتي في السبعينات أو الثمانينات وما صار إليه في التسعينات وما بعدها. وعلى الرغم مما ذهب إليه الشاعر من مدى أقصى في التجريب الكتابي مسنوداً برؤية يميزها قلق إبداعي، شأن كلّ شاعر مجدّد، إلا أنه وبدافع من القلق ذاته عاد إلى القصيدة الموزونة، كما تجسد في كتابيه الأخيرين. وكان لقراءاته المذكورة آنفاً، دورها في بسط المناخ الملائم لانتعاش هذه القصيدة، ثانيةً، وقد بدت محافظة في شكلها، لكن بالاحتفاظ بقدر عال ورفيع من الشعرية المتينة، المعهودة في شعر كمال سبتي، وبدافع من روح المعنى الذي بقي مهيمناً حتى السطر الأخير، لأن الشعر لديه مأخوذ بجدية حدّ القداسة، وهو قضية في ذاتها، قضية رافع عنها الشاعر طوال حياته بدم القلب.

تصدر هذه الأعمال في غياب شاعرها، وهو ما يجعل من حدث كهذا مثلوماً، إذ عُرف عن كمال اهتمامه المفرط بنتاجه وتدقيقه ومتابعته، واحتفائه به قبل النشر وبعده، لأن الشعر كان كل حياته، هذه الحياة التي عاشها شعراً. فكم كان مبهجاً، لو أن مجموع أعماله هذا قد صدر تحت ناظريه.

ولأهمية هذه الأعمال وضروة أن لا تبقى رهينة التفرّق والغياب، أي في طبعاتها الأولى المتباعدة، غير المتاحة للتداول إلّا فيما ندر، ولأهمية أن تأخذ مكانها في مكتبة الشعر، عراقياً وعربياً، كانت هذه الخطوة في جمعها ومراجعتها وتقديمها للنشر. وقد كان لوفاء الصديق، الفنان المسرحي رياض سبتي، لشقيقه وتراثه الشعري، دوره الحاسم في حفظ مجموعات الشاعر، ومن ثمّ إتاحتها لكاتب سطور هذه المقدمة، حين تم طرح فكرة طباعتها ونشرها، إسهاماً في صون هذا الشعر وجعله قابلاً للانتشار من جديد، بما يجدر به».

من المجموعة الكاملة:

«الشاعر في التاريخ»

الرجل الجالسُ في المكتبة

مورّخٌ يكتبُ عن شاعرٍ

الرجل الهاربُ في سيرةٍ

مشرّدٌ في الليل كالليلِ

رغيفهُ باردْ

رغيفهُ واحدْ

عنوانه مصطبة

محطّةٌ مغلقةُ البابِ

الرجلُ الخائفُ في سيرةٍ

يغيّر الشكلَ تباعاً، فمرّةً

بلحية كثةٍ

ومرّةً بشاربٍ، ثمّ مرّةْ

بنصفِ قلبٍ حائرٍ في الطريقْ

يسيرُ فوقَ جمرةٍ، ثمّ جمرةْ

تلقيه فوقَ جمرةٍ، في الطريقْ.