مجلة «فلسفة» الفرنسية: لماذا يصعب أن نغير؟

مجلة «فلسفة» الفرنسية: لماذا يصعب أن نغير؟
TT

مجلة «فلسفة» الفرنسية: لماذا يصعب أن نغير؟

مجلة «فلسفة» الفرنسية: لماذا يصعب أن نغير؟

خصصت مجلة «فلسفة» الفرنسية لهذا الشهر ملفاً خاصاً حول قضية «التغير» بطرحها السؤال الآتي: لماذا يصعب أن نغير؟ فإذا كنا نريد دوماً أن نغير: المكان، الحب، العمل؛ بل حتى طريقة نظرتنا للعالم... فلماذا يكون الخمول والعجز في غالب الأحيان حليفنا قبل المرور إلى الفعل؟ فما الميكانيزمات الخفية والمعتمة التي تقف حائلاً دون إنجاز التغيير المنشود؟ وما الدوافع التي تسمح بالعبور نحو الخطوة الأولى؟
قدمت المجلة لمعالجة هذا الموضوع مواقف مجموعة من الباحثين نذكر منهم: ««ميشال إلتشانينوف»، و«كاترين مالابو»، و«بيير زاوي»، و«لوسي ديسوبليو»، كما وضعت في متناول القارئ كتيباً يضم مقتطفات من كتاب الفيلسوف «بيتر سلوتردايك» بعنوان: «عليك أن تغير حياتك». وقصد إلقاء نظرة على مضمون ملف المجلة، سنكتفي بما قدمه «ميشال إلتشانينوف»؛ لأنه هو من تكلف بالتقديم للملف.
يبرز «ميشال إلتشانينوف» أن المرء حينما يسعى إلى إحداث تغيير في حياته يحس دوماً بشيء يقاوم في دواخله، يجعله أحياناً متحجراً ومتشنجاً، إذ إن هناك سهولة في طلب التغيير؛ لكن في مقابل ذلك نجد صعوبة في تحقيق ذلك، وهنا يقف عند مجموعة من العراقيل التي تثبط عزائمنا، نذكر منها العادة والخوف. فهما عقبتان تكبلان الدخول في دروب جديدة للحياة، وتعوقان سيرنا نحو التغير المنشود.
فمثلاً إذا كنا نعلم جيداً أن إنقاذ أرضنا من الانحدار الإيكولوجي وإيقاف الهدر البيئي، يلزم فيه تغيير بعض من عاداتنا، فإن التطبيق يكون ثقيلاً، فكيف لا أستخدم سيارتي للذهاب نحو العمل، وأكتفي بالنقل العمومي؟ وبالمثل: كيف لنا أن نحرم أنفسنا من قطعة لحم لذيذة حفاظاً على الحيوانات؟ إن إرادتنا أحياناً تقف مكتوفة اليد تجاه المعتاد من السلوك.
إن الرتابة والتكرار عبارة عن آلية ميكانيكية تثقل كاهلنا، وتجعل وجودنا مملاً، فالسلوكات الاعتيادية هي بمثابة اشتراطات قوية تمارس تحكماً جباراً في الإنسان، وفي أحيان كثيرة دون انتباه منه، فالعادة من خصائصها أنها تحسن الاشتغال في صمت، فهي بارعة في الاختفاء، إنها غير مرئية، ولها القدرة الرهيبة على النطق باسمنا واتخاذ القرارات عوضاً عنا، مما يجعل مقاومتها صعبة المنال، والأنكى أن العادة تزداد صلابة وشراسة كلما تقدمنا في العمر، ألم يقل الفيلسوف هنري برغسون إن العادة هي: «البقايا المتحجرة من النشاط الإنساني»، إلى درجة كونها تقتل الإحساس، وتجمد كل دهشتنا تجاه الأشياء؟ أفليس المرء وهو يشاهد منظراً جديداً يبدي كل الانبهار الذي لديه، ليفتر الأمر مع تكرار المشاهدة لتصبح العادة مع مرور الوقت تكراراً عقيماً، إذ تنتقل من مستوى الوعي إلى اللاوعي، ومن مستوى الإرادة إلى الآلية؟
فكيف يمكن هزيمة قوة العادة؟ وما السبيل إلى كسر سلاسل التكرار الناجمة عن الإثارة والاستجابة التلقائية التي تحولنا إلى مجرد عبيد؟ قد يبدو أن الحل السحري والبطولي يكمن في القطع مع اليومي؛ لكن الأمر في الحقيقة شاق جداً، فكيف يمكن غلبة سلوك قد تكرر ألف مرة في يوم واحد؟ يقترح هنا «ميشال إلتشانينوف» حلاً للفيلسوف الألماني «بيتر سلوتردايك» الذي ألف كتابا عام 2009 خصيصاً لهذه القضية، وهو بعنوان «عليك أن تغير حياتك»، الذي يقدم فيه افتراضاً مفاده أنه يمكن تسجيل ضربات قاسية للعادة، وذلك بتعويضها بطريقة تشتغل بطريقة العادة نفسها، أي علينا مجابهة التكرار بتكرار مشابه، فالإكثار من التمارين والامتثال الصارم للنظام كفيل بتعويض العادة القديمة بأخرى نريدها نحن. فالسهر على تكرار التمارين الرياضية مثلاً يمكن أن يحقق تغييراً هائلاً في قوام جسدنا، وينقذنا من كثير من مشكلاتنا الصحية، كما يمكن التدرب على بعض التطبيقات التشكيلية، أو الحرص على بعض الممارسات الروحية، أو العمل على تخصيص وقت يومي للتأمل، فالمهم هو أنه ينبغي مجابهة العادة بعادة أخرى، والعمل بهدوء وبمنهجية محكمة وفق برنامج نشاط تدريجي وهادئ؛ لكن بالتزام فيه صرامة مع الذات، فالشخص الراغب في التخلص من عادة سيئة عليه أن يلتزم بمسار ما يسميه «التكرار المفيد» بقصد محو الآلية النفسية المضمرة التي سببتها العادة المضرة.
ليقف «ميشال إلتشانينوف» عند الحاجز الثاني الذي يبدو سهلاً؛ لكن هو مثبط لعزيمة التغيير، إنه الخوف، فالفرد منا قد يتملكه إحساس بالقلق تجاه نظرة الغير له وحكمه عليه، إذ ماذا سيقول عنه الأقارب والجيران ومعارفه، إذا ما قرر التغير؟ الأمر الذي سيجعله يبقى في مكانه ويتراجع عن رغبته في التغير. كما قد يخشى الشخص الراغب في التغير من العقاب؛ لأن فعله ممنوع سياسياً مثلاً، ففي نظام شمولي يصبح مجرد البوح بنية التغيير وبالاً على صاحبه، وقد يجره إلى ما لا يحمد عقباه، فيتأذى جسدياً ونفسياً، وهو الأمر نفسه يحدث في المجتمعات المحافظة التي تراقب أفرادها في كل تفاصيل حياتهم حد الاختناق، وتمارس رقابة شرسة على كل من سولت له نفسه أن يخرج عن المسطر من النظم والقيم... طبعاً يؤكد «ميشال إلتشانينوف» أن في مثل هذه الظروف، يتكبل المرء ويحس أنه مغلوب على أمره، فيفقد جرأته في التغير، ويكتفي بالإذعان للسائد، ويعمل على السير في الظل، طلباً للسلامة.
إن الخوف مما سيحدث للذات مستقبلاً جراء أخذ مبادرة التغير، يجعل الإنسان يحس وكأنه مقذوف إلى المجهول؛ الأمر الذي يحد من الحماسة والانطلاق والاكتفاء بالأفعال الرتيبة التي خبرناها وتدربنا عليها، فحساب النتائج في مثل هذه الأمور ليس علماً حقاً ومنضبطاً، فالمنتظرات مفتوحة على كل الاحتمالات التي قد تنسف الذات، وتزج بها في الأسوأ. وهو ما يدفع إلى إيثار عدم التحرك ولو قيد أنملة.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
TT

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة بأنّك حصلت لتوّك على سِفر ثمين من الحكمة السياسيّة وخبرة الإدارة في المنصب التنفيذي الأهم في إحدى دول العالم العظمى، لا سيما أن الرجل جاء إلى فضاء السلطة من الصحافة كاتباً ورئيس تحرير لمجلّة سبيكتاتور الأسبوعيّة العريقة، ومؤرخاً نشر عدّة كتب مهمة - بما فيها سيرة لملهمه وينستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية - قبل أن يُنتخب عمدة للعاصمة لندن ثم رئيساً للوزراء وزعيماً لحزب المحافظين. ولعل مما يرفع وتيرة التوقعات أيضاً أنّه كان في موقع التأثير واتخاذ القرار في مراحل مفصليّة في تاريخ بلاده المعاصر، سواء الأشهر الأخيرة من عصر الملكة الراحلة إليزابيث الثانية، أو خروج المملكة المتحدة من عضويّة الاتحاد الأوروبي، أو وباء «كوفيد 19». أو الحرب في أوكرانيا، ناهيك عن شهرته عبر العالم كنسخة من دونالد ترمب على الجهة الأخرى من المحيط الأطلسي، حتى أنّه ربما يكون السياسي البريطاني الوحيد الذي يعرفه سكان هذا العالم باسمه الأول (بوريس). لكن الحقيقة أن المذكرات ورغم تضمنها مقاطع مهمة هنا وهناك ولحظات صاعقة من الصراحة، فإنها في المحصلة أقرب إلى موجة جارفة من التبرير المقعّر، والإعجاب النرجسي بالذات، وتصفية الحسابات السياسيّة ولوم للجميع لأنهم أضاعوه، ويا ويلهم أي فتى أضاعوا؟

ومع ذلك، فإن «مطلق العنان» قراءة سهلة، يتم سردها بلغة قريبة من لغة الحوار اليومي أكثر منها لغة متعجرفة كما يتوقع من خريجي المدرسة النخبوية في إيتون وجامعة أكسفورد، مع كثير من علامات التعجب، والأصوات الشارعيّة المكتوبة بحروف كبيرة، والصفات المرصوفة كجمل طويلة، والإهانات الشخصيّة لمنافسيه، والأسئلة البلاغيّة عديمة الفائدة، فيما غلب عليها مزاج من السخريّة والهزل حتى في التعاطي مع القضايا التي يفترض أنّه جاد بشأنها.

هذا النّفس الذي اختاره جونسون لسرد مذكراته (والتي قد تدر عليه دخلاً سيتجاوز الثلاثة ملايين جنيه إسترليني وفق تقديرات صناعة النشر) أفقد الكتاب كثيراً من قيمته المتوقعة كوثيقة تاريخيّة، وبدت أجزاء كبيرة منه روايات ربما يتمنى كاتبها لو كانت الحقيقة، أو ربما أعتقد بالفعل أنها كانت الحقيقة كجزء مما يسميه جونسون نفسه التنافر المعرفي الذي يصيب الساسة المغمسين في وظيفتهم القياديّة لدرجة أنهم يصابون بالعمى عن المشاكل السياسية الهائلة التي تتراكم خارج مكاتبهم. هذا سوى بعض الأخطاء التفصيليّة في تسجيل الأحداث أيضاً والتي لا يفترض أن تمرّ على مؤرخ معتّق أو على ناشره المرموق (يقول مثلاً إن حكومة حزب العمال في أسكوتلندا أطلقت سراح الليبي المتهم بتفجيرات لوكربي، فيما الواقع أنها كانت حكومة الحزب القومي الأسكوتلندي).

من الناحية الإيجابيّة فإن جونسون يضمِّن كتابه تعليقات ذكيّة حول مسائل استراتيجيّة تبدو في ميزان اليوم أفضل من أدائه الفعلي رئيساً للوزراء كما مثلاً في رؤيته لأسباب اللامساواة الاقتصاديّة بين الأجيال، وتفسيره للانقسام الاقتصادي العميق بين العاصمة لندن الكبرى وبقيّة المملكة المتحدة، وتصوّراته حول رفع سويّة الأجزاء الأقل حظاً منها من خلال برامج تحديث البنية التحتية وتكنولوجيا الاتصال والاستفادة من أموال الخزينة العامّة لجذب استثمارات القطاع الخاص، وكذلك تحوّله من منكر لتحولات المناخ إلى منذر من مخاطرها ومفسّر للحجج الأخلاقيّة والاقتصاديّة الدّاعية إلى التصدي لجذورها من أجل مصلحة الأجيال المقبلة.

أثناء زيارة لمكتبه في عام 2017 طلب منه نتنياهو استخدام المرحاض بعد ذلك، وجدت أجهزة الأمن جهاز تنصت تم زرعه هناك

يفشل بوريس في تقديم مرافعة كانت متوقعة منه بشأن دوره فيما يعرف بـ«بريكست»، أو القرار بتخلي بريطانيا عن عضوية الاتحاد الأوروبيّ. وهو يعترف بأنّه كان مشتتاً وقتها بين اعتقاده بضرورة أن تتخلص بلاده من سلطة بروكسل عليها (مقر الاتحاد الأوروبي) من ناحية، وتفهمه لمشاعر كثيرين من عائلته وأصدقائه الذين أرادوا منه دعم حملة البقاء في النادي الأوروبيّ، ويقرّ بأنه في المساء الذي أعلن فيه قراره بدعم التوجه إلى الخروج من الاتحاد، كتب نسختين من المقال نفسه، واحدة (مع) وواحدة (ضد) كي يمكنه اختبار حنكة حججه، ليجد في النهاية أن حملة تأييد البقاء افتقدت إلى الحماس، ولم تمتلك أي رسالة إيجابيّة واضحة لتقولها. في المقابل، فإن جونسون يبدو في هذه المذكرات ليس مفتقراً فحسب لأي شعور بالمسؤولية عن الفوضى التي أعقبت التصويت على المغادرة، والإدارة السيئة للمفاوضات التي قادتها حكومات المحافظين وهو فيها مع الاتحاد الأوروبي، بل يبدو غاضباً حتى على مجرد اقتراح مساءلته من حيث المبدأ متسائلاً: «وماذا بحق الجحيم كان من المفترض علينا أن نفعل؟»، بينما يقفز للعب دور البطولة منفرداً فيما يتعلق برد حكومة المملكة المتحدة على حالات التسمم النووي التي نسبت لروسيا في سالزبوري عام 2018. في وقت صار فيه من المعلوم أن تيريزا ماي، رئيسة الوزراء حينها، هي من كانت وراء ذلك الموقف الحازم. ويخلص جونسون للقول إن حزب المحافظين كان سيفوز في انتخابات هذا العام لو بقي على رأس السلطة ولم يتعرّض للخيانة من رفاقه، وهي مسألة يكاد معظم المراقبين يتفقون على استحالتها بالنظر إلى تراكم سلسلة الفضائح وسوء الإدارة وهزالة الطرح الآيديولوجي لحكومات حزب المحافظين خلال الخمسة عشر عاماً الماضية على نحو تسبب للحزب النخبوي بأقسى هزيمة له في مجمل تاريخه العريق. في المذكرات يكتب جونسون عن زيارة قام بها بنيامين نتنياهو إلى مكتبه في عام 2017، طلب خلالها رئيس الوزراء الإسرائيلي استخدام المرحاض. بعد ذلك، وجدت أجهزة الأمن جهاز تنصت قد تم زرعه هناك. وقال جونسون إنه على وفاق مع نتنياهو وإن القراء يجب ألا يستخلصوا استنتاجات أوسع حول الزعيم الإسرائيلي من تلك الحكاية!