رحيل رائد الطرب الأصيل أبو بكر سالم

نعت الأوساط الثقافية والأدبية والفنية السعودية والخليجية والعربية أمس، الفنان القدير أبو بكر سالم بلفقيه، الذي غادر عالمنا عن عمر يناهز 78 عاماً، بعدما وافته المنية في أحد المستشفيات بالعاصمة السعودية الرياض، والذي انتقل إليه في وقت مبكر صباحاً قبل أن تعلن وفاته رسمياً، بعد معاناة مع المرض امتدت طويلاً.
كلمات الحزن لم تكفِ لنعي هذا الرجل الذي عرف بطيبة قلبه، وابتسامته البيضاء، ومحبته للجميع، ودعمه للصغير والكبير، ومساعدته العديد من العوائل والفقراء، حيث كان حريصاً طوال عمره على تقديم العون والمساعدة، دون أن يعلم بما قدمه أحدٌ. ولم تكن المكانة التي وصل إليها والأوسمة والألقاب التي انهالت عليه، حيث لقب بفنان القرن من جامعة الدول العربية، كما لقب بـ«أبو الغناء الخليجي» سوى محفز له على العطاء والتميز.
رحل أبو بكر تاركاً إرثاً فنياً كبيراً ستتناقله الأجيال لعقود قادمة، فهو أحد رواد الطرب الأصيل والمغني الرائد على مر العقود للطرب والموسيقى في الوطن العربي بأسره، ومن أعظم الأصوات في العالم، حيث إنه تشرَّب الفن والأدب من أنقى ينابيعه الأصيلة، وغدا علماً من أعلام الفن الحضرمي خصوصاً، والعربي عامة، وأسس لنفسه مدرسة خاصة سميت باسمه، وتتلمذ على يده جيلٌ بأكمله. ورغم معاناته مع المرض وغيابه فترة طويلة، إلا أن الفنان القدير أبو بكر سالم كان مفاجأة الحفل الفني الضخم الذي أقيم في مدينة جدة غرب السعودية، بمناسبة الاحتفال باليوم الوطني السعودي، إذ تم تكريمه ومنحه درعاً بصفته رمزاً وطنياً فنياً.
ودخل أبو بكر سالم إلى المسرح على كرسي متحرك على أنغام أغنيته الوطنية الشهيرة «يا بلادي واصلي» التي غناها منذ 40 عاماً، وتعد من الروائع التي تغنى بها بعد أن أصرَّ أن يؤدي الأغنية بصوته، وهو على المسرح بعد تكريمه، قبل أن تجبره ظروف مرضه على عدم إكمال الأغنية، مقدماً اعتذاره للجمهور الذي قابله بحفاوة بالغة، وبعاصفة من التصفيق، كعربون تقدير ووفاء لهذا الفنان.
ولد أبو بكر بن سالم في 17 مارس (آذار) 1939، ونشأ في أسرة عريقة عرفت بالنجابة والذكاء، واشتهرت بالعلم والأدب، إذ إن غالبية أفرادها شعراء، إن لم يكونوا يحملون العلم والشعر في آن معاً.
عاش طفولته يتيماً، حيث توفي والده وهو ابن 8 أشهر، واحتضنه جده الشيخ زين بن حسن، وتلقى تعليمه على يد أكبر علماء حضرموت وأتم دراسته في علوم الفقه والدين، وحفظ ثلثي القرآن الكريم وهو في سن الثالثة عشرة، وقد أظهر تفوقاً ملحوظاً في علوم اللغة العربية والشعر، وظهرت مواهبه الفنية منذ صباه.
ظهرت مواهب أبو بكر سالم الفنية منذ صباه؛ إذ اشتهر بجمال صوته في فترة مبكرة من عمره كمنشد للأناشيد والموشحات الدينية، بالإضافة إلى أنه كان مُولعاً بالأدب والشعر، إلى جانب حبه الكبير للغناء الذي مارسه بشكل رسمي بعد الإنشاد، كما عُرف عنه آنذاك شغفه وتأثره بأخواله (آل الكاف) الذين تميّزوا بالعلم والثقافة والغناء.
أبو بكر ترك مسقط رأسه في مقتبل شبابه، وانتقل واستقر في مدينة عدن في منتصف الخمسينات، وكانت عدن آنذاك تشهد نهضة فنية كبيرة، والتحق بالوسط الفني كعازف إيقاع لعدد من الفنانين، وهناك تعرف على الكثير من شعرائها وفنانيها وإعلامييها.
وفي فترة العشرينات من عمره عمل أبو بكر في حقل التعليم لمدة ثلاث سنوات، فهو خريج معهد إعداد المعلمين، وأظهر تفوقاً في الأدب والشعر، وكان أحد المعلمين المتميزين في مادة النحو، كما أن مواهبه الشعرية بدأت منذ بلوغه السابعة عشرة من عمره، حينما كتب أول أغنية له، وهي «يا ورد محلا جمالك بين الورود» ولديه ديوان شعري، سماه ديوان «شاعر قبل الطرب» يحوي القصائد التي غناها والفنانون الآخرون أيضاً.
وكان أبو بكر سالم متميزاً بثقافة عالية انعكست وعياً فنياً واسعاً في تجربته الطويلة، كما تميز بعذوبة صوته وتعدد طبقاته بين القرار والجواب، وبالقدرة على استبطان النص وجدانياً بأبعاده المختلفة فرحاً وحزناً، كما تميز بقدرته على أداء الألوان الغنائية المختلفة. وحقق أبو بكر سالم نجاحاً كبيراً على مستوى الجزيرة العربية، والوطن العربي في بداية مشواره الفني عبر الحفلات التي يحييها في مهرجانات الأغنية العربية المتعددة. وتغنى بأغانيه عدد من أشهر فناني الوطن العربي مثل وليد توفيق وراغب علامة، بالإضافة إلى فناني الخليج العربي مثل طلال مداح وعبد الله الرويشد، بالإضافة إلى كتابته وتلحينه أغاني لكبار فناني الوطن العربي مثل الراحلة وردة الجزائرية، واشتهرت أغانيه بالحكمة والموعظة.
ونقل أبو بكر تجربته الشخصية، وترجمها إلى جمهوره من خلال أغانيه التي تحمل الطابع الأخلاقي والاجتماعي، والهموم التي يعاني منها المغترب عن وطنه، وبحكم نشأته في بيئة دينية محافظة وأسرة مثقفة، فجده أبو بكر بن شهاب هو من كبار شعراء مدينة تريم اليمنية مسقط رأس أبو بكر سالم التي تغنى بها لاحقاً في أغنية «فرصة من العمر» من كلمات المحضار، وأيضاً في أغنية «الله لطيف الله» من كلماته، و«بشراك» من كلمات جده ابن شهاب.
ويعد أبو بكر من الفنانين القلائل في الوطن العربي الذين نجحوا في الجمع بين الغناء والتلحين والتأليف، إذ كان مغنياً وشاعراً وملحناً وموزعاً موسيقياً في آن واحد، ويعتبر بذلك فناناً شاملاً في صناعة الأغنية من أركانها الثلاثة، وهي الكلمة واللحن والأداء، بالإضافة إلى التوزيع الموسيقي، كما يملك حنجرة ذهبية جعلت من صوته أندر الأصوات في العالم، بالإضافة إلى قدرته العجيبة على تغيير درجات صوته بشكل موسيقي، وكأنه آلة موسيقية.
وخرج أبو بكر سالم في أعماله الفنية عن الإطار المحلي إلى الإطار العربي، حينما سافر إلى مدينة بيروت، وقام بتسجيل عدد من أغانيه الجديدة، وأعاد تسجيل عدد من أغانيه الذي سبق تسجيلها لإذاعة عدن وتوزيعها موسيقياً، وشارك في عدد من الحفلات بدول الخليج العربي. وأشهر أغانيه التي ظهرت في هذه الفترة «24 ساعة» التي نال عليها جائزة «الكاسيت الذهبي» من إحدى شركات التوزيع الألمانية، لتوزيعها أكثر من مليون نسخة من هذه الأغنية، و«الحلاوة كلها من فين»، وعدد من أغاني الشاعرين أمان والمحضار. وظل يتنقل بين بيروت ومدينة عدن، قبل استقراره بمدينة بيروت، وغنى له في هذه الفترة عدد من المطربين اللبنانيين، ومن أشهر أغانيه في هذه الفترة: «كل شي إلا فراقك يا عدن»، و«يا طائرة طيري على بندر عدن»، ثم انتقل إلى الكويت، فعاش فيها مدة قبل انتقاله إلى مدينة الرياض، فاستقر فيها، وغنى للسعودية عدداً من الأغاني مثل: «يا مسافر على الطائف»، و«إلا معك في الرياض»، و«برج الرياض»، و«يا بلادي واصلي»، كما غنى لكل من الملكين خالد بن عبد العزيز وفهد بن عبد العزيز.
وبعد الظهور الملحوظ لنجم أبو بكر على مستوى الجزيرة العربية، بدأت رحلاته المكوكية بين جدة وبيروت، التي سجل فيها مجموعة أسطوانات، وقدم بعدها العديد من الألوان مثل اللون الحضرمي والدان الحضرمي من شاعر حضر موت حسين أبو بكر المحضار وشعراء وملحنين آخرين.
وظل اللون الحضرمي الخاص والمفضل لأبو بكر سالم، وشهدت فترة استقراره بالعاصمة الرياض بداية في حي السليمانية، ثم انتقاله في الثمانينات إلى منزله في حي الروضة، حضوراً كبيراً لمجلسه الأدبي الذي كان يعقده بوجود كبار الشخصيات السياسية والثقافية والفنية. وتبقى الرياض هي المدينة التي عشقها الراحل، وقدم فيها أجمل أغانيه، وشهدت تألقاً ملحوظاً للفنان في الساحة الخليجية، حيث ساهم أبو بكر فيما عرف بعد ذلك بالأغنية الخليجية، إذ أدخل تفاصيل اللون الحضرمي والدان الحضرمي إلى الخليج، واستفاد أيضاً من التقارب بين اللهجة الخليجية والحضرمية، لينتج بعد ذلك جوهرة الأغنية الخليجية. على مدى خمسين عاماً، شكل أبو بكر سالم ثنائياً مميزاً مع الشاعر الراحل حسين المحضار، الذي كان أعذب ما يكتبه يغنيه الفنان أبو بكر سالم الذي تألق هو الآخر وأبدع في غنائه. غنى لأبو بكر سالم العديدُ من الفنانين العرب، وعلى مدى العقود، أمثال الراحل طلال مداح وعبد الله الرويشد ونجاح سلام ووردة الجزائرية وغيرهم.
كما غنى أبو بكر سالم خلال مشواره الفني العديد من الأغاني والأناشيد الوطنية الرائجة في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية. وتميز أبو بكر سالم بالأداء الجميل والراقي في الأداء الغنائي، مما جعله متربعاً على عرش الغناء أكثر من أربعة عقود من الزمن، كانت كافية لتقييمه فنياً كأفضل شخصية غنائية في الجزيرة العربية. كما تميز أيضاً بذوق فني رفيع، فهو يختار ما يغنيه، ويؤلف ما يناسبه، ويلحن لنفسه، ولغيره، ويعطي بعضاً من الفنانين شيئاً من أغانيه متى أحس أن أحداً من هؤلاء سيتقن أداءها. فيما كان ألبوم «دروب مغلقة» هو آخر ألبومات الراحل الذي أطلقه عام 2010.