لماذا تزدهر الأفكار في مكان دون آخر؟

لا الفلسفات ولا النظريات ولا المفاهيم تبقى حيث هي

هوبي بابا  -  فرانتز فانون
هوبي بابا - فرانتز فانون
TT

لماذا تزدهر الأفكار في مكان دون آخر؟

هوبي بابا  -  فرانتز فانون
هوبي بابا - فرانتز فانون

هل للفلسفات والنظريات والمفاهيم أوطان كما للبشر؟ هل ترحل كما يرحلون وتتلون كما يتلونون؟ أطروحات ومؤشرات كثيرة تقول ذلك وتضيف أن التلون هنا وهناك تحكمه ظروف كالتي تحكم الناس. ما يجتذب الأفكار إلى مكان يشبه ذلك الذي يجتذب الناس حين يقررون الرحيل والإقامة في أماكن غير التي ألفوا.
هذه ظاهرة تبينت لعدد من المفكرين والنقاد مثلما اتسمت بها أعمالهم هم قبل وعيهم بها. فلسفات ونظريات ومفاهيم تولد ضمن أطر ثقافية محددة وتزدهر لدى أفراد ينتمون إلى بيئات محددة، لكن لا الفلسفات ولا النظريات ولا المفاهيم تبقى حيث هي، تماماً كما أن الأفراد لا يبقون. ثمة هجرة تحكمها اشتراطات وتزداد صعوبة اكتشافها بقدر ما تكون تلك المعطيات النظرية مجردة تسعى إلى العالمية أو الكونية، فلا تتكشف بسهولة عن انتماء إلى أرض أو مجتمع كما تتكشف الأعمال الأدبية والفنية بشخوصها وثيماتها المستمدة من بيئة واضحة المعالم أرضية السمات. غير أن تلك النظريات أمكن اكتشاف صلتها بمواطن ولادتها ونشوئها وارتقائها، مثلما أمكن اكتشاف مدى تأثرها بموطنها الجديد. بل إن من الصعب أحياناً تخيل أن تولد نظرية أو فلسفة خارج الاشتراطات التاريخية لولادتها، أو أن يتطور مفهوم في مكان غير الذي رأى النور فيه على الرغم من انتمائه، وإن كان جزئياً، إلى تربة أخرى.
التيار الذي تنامى في بعض مناطق أفريقيا وآسيا، وازدهر في ثمانينات القرن الماضي في أميركا؛ التيار المعروف بالدراسات ما بعد الكولونيالية (أو ما بعد الاستعمارية) بما يتضمنه من نظريات ومفاهيم، أنموذج حي لما أشير إليه. يعد المفكر والمناضل المارتينيكي فرانتز فانون مؤسساً لتلك الدراسات التي تحولت إلى تيار جاء فيما بعد من نظّر له ودعمه بالبحث والتحليل المؤسس على أطروحات متنوعة وأمثلة لا حصر لها. تلك الأمثلة استمدت في الغالب من أدب ما يعرف بالعالم الثالث، أي الآداب الآسيوية والأفريقية. ومن طبيعة التيارات سواء في الفلسفة أو في الدراسات الإنسانية على اختلافها ألا تعود إلى مؤسس واحد، وإنما إلى العديد من الأشخاص الذين أسهموا في نموها على مدى سنوات، وأحياناً عقود، كما هو الحال مثلاً في التيار الماركسي الذي يصعب حصره في كتابات ماركس وإنجلز لأن إسهامات من جاؤوا بعدهم مثل لينين وتروتسكي وغيرهما امتداداً إلى القرن العشرين حين جاء فلاسفة مثل الفرنسيين التوسير وباديو، كلها أسهمت في تشكل ذلك التيار بالقدر الذي أخذه، في بعض وجوهه، بعيداً عما تخيله من يعد مؤسساً له.
فرانتز فانون وضع عدداً من الكتب منها كتابه الأشهر الذي أنهاه قبيل وفاته في الولايات المتحدة عام 1961 وهو «المعذبون في الأرض»، ومنها أيضاً كتاب شهير آخر كان سابقاً له هو «جلود سوداء، أقنعة بيضاء». والكتابان نتاج ثقافة وتفكير عميقين إلى جانب نضال شاق خاضه فانون في غمار حرب الاستقلال الجزائري مناصراً لمناضلي ذلك البلد العربي إيماناً بقضيتهم وكراهية للمستعمر الفرنسي (كما حصل مع تشي غيفارا في أميركا الجنوبية وهو ممن تأثروا بفانون). ومما يركز عليه الكتابان، إلى جانب المطالبة بحقوق الشعوب المستعمرة في التحرر، نمط العلاقة التي تنامت بين المستعمر والشعوب التي وقع عليها الاستعمار، جدلية الأبيض والأسود والأبعاد النفسية التي حكمتها وأدت إلى أن يكون كلاهما، أي الأبيض والأسود، وعلى حد سواء، ضحايا لالتباسات تلك العلاقة، كما يقول الناقد الهندي - البريطاني هومي بابا في مقالة له حول كتاب فانون الثاني «جلود سوداء، أقنعة بيضاء».
يعد هومي بابا نفسه أحد رواد التيار ما بعد الكولونيالي، لا سيما في كتابين شهيرين أحدهما «موقع الثقافة»، الذي ترجم للعربية، و«الشعب والسرد» («نيشن أند نارّيشن»، ولا أدري إن كان ترجم أم لا)، كما أن من رواد التيار الناقدة البنغالية غاياتري تشاكرافورتي سبيفاك، مترجمة كتاب دريدا الأشهر «في الغراماتولوجيا» (أو النحوية) ومدشنة مفاهيم مركزية في الدراسات ما بعد الكولونيالية. لكن الناقد الذي يعد صاحب إسهام تأسيسي سابق لهذين هو إدوارد سعيد في كتاب «الاستشراق» ثم «الثقافة والاستعمار» من حيث هما دراستان للخطاب الاستعماري في مواجهة ما سمي بالشرق وفي تأثيره على الثقافة. الاستشراق في دراسة سعيد خطاب يراه متوزعاً بين رغبة السيطرة ووهم المعرفة، السيطرة على الشرق استعمارياً وتوهم معرفته بخلق موضوعة لا وجود لها في حقيقة الأمر اسمها الشرق، حيث إنها مبنية على تصورات متوهمة. وسعيد هو أحد الذين درسوا انتقال النظرية وتلونها في مقالة شهيرة ضمن كتابه «العالم، النص، الناقد».
أحد الذين سبقوا أولئك النقاد زمنياً، وإن لم يتركوا أثرهم بقوة على تطور التيار هو الكيني نغويي وا ثيونغو في سعيه منذ ستينات القرن الماضي إلى دراسة آثار الاستعمار الثقافي وسعيه للتخلص منه. ويعد كتاب وا ثيونغو «تحرير العقل من الاستعمار» تأسيسياً في هذا الاتجاه الذي صاغه، كما يتضح من الأسماء المشار إليها، كوكبة من النقاد والمفكرين ذوي الانتماء الأفريقي والآسيوي ممن وقع على شعوبهم الاستعمار أو الاحتلال. لكن المفارقة العجيبة هنا هي أن هذا التيار على الرغم من صدوره عن تلك الكوكبة لم يجد تربة خصبة في البلاد التي ظهر فيها أولئك النقاد والمفكرون. ولعل ذلك ما يفسر أن معظم المسهمين في تطور التيار يعيشون في الغرب الذي هاجروا إليه وأصبحوا من مواطني دوله.
إننا هنا أمام ظاهرة تلوّن الفكر بموقع نشوئه والشروط التاريخية التي حكمت ذلك النشوء، أي أننا نتحدث عن موقع الفكر النقدي أو موقع النظرية، إذا استعملنا عنوان هومي بابا. لم يكن للدراسات ما بعد الكولونيالية أن تنشأ فرنسية أو بريطانية على الرغم من وجود الفكر اليساري والماركسي أيضاً هناك، وهو الأساس النظري للنقد ما بعد الكولونيالي. كان من الضروري لنقاد أو مفكرين من العالم الثالث أن ينهضوا بتلك المهمة. أما وجود معظم أولئك في الغرب نفسه، الولايات المتحدة تحديداً، وقابلية أعمالهم للانتشار في الثقافة الغربية فمرده، إلى جانب المستوى الأكاديمي والمستوى المعيشي، المعدل العالي من حرية التعبير هناك. فالنقد ما بعد الكولونيالي ليس نقداً للخطاب الاستعماري فحسب وإنما هو أيضاً لما يعرف بالاستعمار الجديد وللأنظمة التي حلت محل الاستعمار القديم ودعمها الاستعمار الجديد، سواء في شكل حضور عسكري، أو بتحويلها إلى أسواق معولمة للاقتصاد الغربي وغير الغربي (الصيني بشكل خاص). ويعني هذا أنه نقد يتوجه إلى الأدب الذي أنتج في مرحلة ما بعد الاستعمار أو مرحلة الاستعمار الجديد في البلاد التي كانت مستعمرة، والتي «استعمرت» من جديد، وهو ما قد يفسر عدم ازدهار النقد ما بعد الكولونيالي في المناطق التي نشأ فيها نقاده، كالهند وأفريقيا والعالم العربي لأنه سيعني نقداً سياسياً واجتماعياً وثقافياً صادماً.
لكن النقد ما بعد الكولونيالي ليس الوحيد الذي لم يزدهر خارج الغرب. هناك تيارات ونظريات أخرى مثل التاريخانية الجديدة ونقد الأدب المثلي وغيرهما. بعض تلك لا يحتاج غيابه إلى تفسير، لكن البعض الآخر يحتاج إلى وقفات أكثر تدقيقاً، لتظل الظاهرة أثناء ذلك ماثلة أمامنا. تيارات ونظريات ومفاهيم تزدهر هنا ولا تزدهر هناك مخالفة بذلك مقولة العالمية في الفكر التي انتشرت مع التنوير والحداثة الصلبة ولم تجد دائماً ما يؤكدها.



مصر: الكشف عن صرح معبد بطلمي في سوهاج

المعبد البطلمي تضمّن نقوشاً ورسوماً متنوّعة (وزارة السياحة والآثار)
المعبد البطلمي تضمّن نقوشاً ورسوماً متنوّعة (وزارة السياحة والآثار)
TT

مصر: الكشف عن صرح معبد بطلمي في سوهاج

المعبد البطلمي تضمّن نقوشاً ورسوماً متنوّعة (وزارة السياحة والآثار)
المعبد البطلمي تضمّن نقوشاً ورسوماً متنوّعة (وزارة السياحة والآثار)

أعلنت وزارة السياحة والآثار المصرية، السبت، عن اكتشاف صرح لمعبد بطلمي في محافظة سوهاج (جنوب مصر). وذكرت البعثة الأثرية المشتركة بين «المجلس الأعلى للآثار» في مصر وجامعة «توبنغن» الألمانية أنه جرى اكتشاف الصرح خلال العمل في الناحية الغربية لمعبد أتريبس الكبير.

وعدّ الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، الدكتور محمد إسماعيل خالد، هذا الكشف «النواة الأولى لإزاحة الستار عن باقي عناصر المعبد الجديد بالموقع»، وأوضح أنّ واجهة الصرح التي كُشف عنها بالكامل يصل اتساعها إلى 51 متراً، مقسمة إلى برجين؛ كل برج باتّساع 24 متراً، تفصل بينهما بوابة المدخل.

ولفت إسماعيل إلى أنّ الارتفاع الأصلي للصرح بلغ نحو 18 متراً، وفق زاوية ميل الأبراج، ما يضاهي أبعاد صرح معبد الأقصر، مؤكداً على استكمال أعمال البعثة في الموقع للكشف عن باقي المعبد بالكامل خلال مواسم الحفائر المقبلة، وفق بيان للوزارة.

جانب من صرح المعبد المُكتشف (وزارة السياحة والآثار)

بدوره، قال رئيس «الإدارة المركزية لآثار مصر العليا»، ورئيس البعثة من الجانب المصري، محمد عبد البديع، إنه كُشف عن النصوص الهيروغليفية التي تزيّن الواجهة الداخلية والجدران، خلال أعمال تنظيف البوابة الرئيسية التي تتوسَّط الصرح، كما وجدت البعثة نقوشاً لمناظر تصوّر الملك وهو يستقبل «ربيت» ربة أتريبس، التي تتمثّل برأس أنثى الأسد، وكذلك ابنها المعبود الطفل «كولنتس».

وأوضح أنّ هذه البوابة تعود إلى عصر الملك بطليموس الثامن الذي قد يكون هو نفسه مؤسّس المعبد، ومن المرجح أيضاً وجود خرطوش باسم زوجته الملكة كليوباترا الثالثة بين النصوص، وفق دراسة الخراطيش المكتشفة في المدخل وعلى أحد الجوانب الداخلية.

وقال رئيس البعثة من الجانب الألماني، الدكتور كريستيان ليتز، إنّ البعثة استكملت الكشف عن الغرفة الجنوبية التي كان قد كُشف عن جزء منها خلال أعمال البعثة الأثرية الإنجليزية في الموقع بين عامَي 1907 و1908، والتي زُيّن جانبا مدخلها بنصوص هيروغليفية ومناظر تمثّل المعبودة «ربيت» ورب الخصوبة «مين» وهو محوط بهيئات لمعبودات ثانوية فلكية، بمثابة نجوم سماوية لقياس ساعات الليل.

رسوم ونجوم تشير إلى ساعات الليل في المعبد البطلمي (وزارة السياحة والآثار)

وأضاف مدير موقع الحفائر من الجانب الألماني، الدكتور ماركوس مولر، أنّ البعثة كشفت عن غرفة في سلّم لم تكن معروفة سابقاً، ويمكن الوصول إليها من خلال مدخل صغير يقع في الواجهة الخارجية للصرح، وتشير درجات السلالم الأربع إلى أنها كانت تقود إلى طابق علوي تعرّض للتدمير عام 752.

يُذكر أنّ البعثة المصرية الألمانية المشتركة تعمل في منطقة أتريبس منذ أكثر من 10 سنوات؛ وأسفرت أعمالها عن الكشف الكامل لجميع أجزاء معبد أتريبس الكبير، بالإضافة إلى ما يزيد على 30 ألف أوستراكا، عليها نصوص ديموطيقية وقبطية وهيراطيقة، وعدد من اللقى الأثرية.

وعدَّ عالم الآثار المصري، الدكتور حسين عبد البصير، «الكشف عن صرح معبد بطلمي جديد في منطقة أتريبس بسوهاج إنجازاً أثرياً كبيراً، يُضيء على عمق التاريخ المصري في فترة البطالمة، الذين تركوا بصمة مميزة في الحضارة المصرية». وقال لـ«الشرق الأوسط» إنّ «هذا الاكتشاف يعكس أهمية أتريبس موقعاً أثرياً غنياً بالموروث التاريخي، ويُبرز تواصل الحضارات التي تعاقبت على أرض مصر».

ورأى استمرار أعمال البعثة الأثرية للكشف عن باقي عناصر المعبد خطوة ضرورية لفهم السياق التاريخي والمعماري الكامل لهذا الصرح، «فمن خلال التنقيب، يمكن التعرّف إلى طبيعة استخدام المعبد، والطقوس التي مورست فيه، والصلات الثقافية التي ربطته بالمجتمع المحيط به»، وفق قوله.

ووصف عبد البصير هذا الاكتشاف بأنه «إضافة نوعية للجهود الأثرية التي تُبذل في صعيد مصر، ويدعو إلى تعزيز الاهتمام بالمواقع الأثرية في سوهاج، التي لا تزال تخفي كثيراً من الكنوز».