يصدر قريباً عن دار «المدى» العراقية، كتاب «بسام فرج: سيرة الاحتجاج» وهو من تأليف الراسم والناقد التشكيلي العراقي موسى الخميسي.
هنا مقتطفات وافية من مقدمة الكتاب
يحظى الفن الكاريكاتيري بمزيد من الاهتمام في العالم، ذلك لأن هذا الفن الذي بدأ يأخذ حيزا كبيرا في واقع الحياة اليومية للناس، يعد أكثر التعبيرات قدرة على استخراج الكثير من أشكال الديمقراطية من جيوب الرقابة التي تفرضها مؤسسات أي نظام من أنظمة العالم التي بنت استمراريتها على الرقابة والمصادرة والمنع. فن الكاريكاتير، يضع في اعتباره، إعطاء المشاهد أفكارا جدية وذات معنى عميق لما يدور في مجتمعه وفي العالم من أحداث، ورسام الكاريكاتير السياسي، يستفيد من السخرية لإيقاظ سخط الناس واستيائهم على مسببي الحروب والكوارث والمآسي والمظالم، لأنه مقتنع بأن ما يفعله، يعدّ وسيلة وحيدة للخروج من دائرة التخلف التي يعيد إنتاجها النظام السياسي فيشكل دورة مغلقة، حتى ولو كان ذلك بتغييب العقل.
ولا نبالغ إذا قلنا بأن الفن الكاريكاتيري هو فن مفردات ومجازات خاصة، تكون لغته الوسيط الشعبي الساخر. والصورة الكاريكاتيرية بما تحمله من نبض خفي للحياة يقدمها رسام الكاريكاتير وكأنها تبدو بعض الأحيان بديهيات إلا أنها تحمل دلالاتها الرمزية المبنية على الأساليب الفكهة والقادرة على تأسيس الكثير من القناعات التي تمتد جذورها في الواقع.
إن الحديث عن الكاريكاتير السياسي النقدي في أي بلد بالعالم هو في بعض الأحيان كالحديث عن زجاجات معبأة بالبارود، لها شكلها وإيقاعها وزمنها الذي تنفجر فيه. فبعض الأحيان ترتكز على قاعدة لغوية لتكّمل الشوط في نقل أحاسيس مشاهدها إلى عوالم تحول بين ظهورها حراب الرقابة، وبعض الأحيان تنطلق من دون قيود اللغة. جنرالان يجلس كل منهما أمام الآخر وصدر كل منهما تحول إلى جدار يحمل عشرات الأوسمة والنياشين الحربية، وهالة غموض معقدة تغطي سحنتيهما، يمسك كل منهما بسيجار، وينفث الدخان من فمه، فيلتقي دخان بعضهما بدخان الآخر ليشكل دخان قنبلة ذرية. صورة أخرى مرسومة بالألوان تشكل صواريخ نووية في دائرة حول الكرة الأرضية، وهي تلعب لعبة الأطفال الصغار، صورة أخرى تمثل صاروخا ينطلق وكأنه حكاية من حكايات الزمان السالف «افتح يا سمسم» حيث تتحول تلك الكلمة العراقية السحرية القديمة إلى كلمة معاصرة لتكون «افتح يا سام». موضوع السياسة والحب هو الطاغي في كل فعالية فنية جماهيرية هنا في العراق أو سوريا أو اليمن، أو الولايات المتحدة، فالحروب والأزمات الاقتصادية واللعب السياسية التي تقودها الطوائف والعشائر والأحزاب الدينية، تشكل الخوف الفعلي في حياة الناس، وما يقال وما يرسم يمثل صرخات الاحتجاج والخلاص تنطلق من كل مكان ضد الترسانات العسكرية، والمحافل السياسية.
العراق ينفرط ويتحلل في مدارات مظلمة وزاويا معتمة، وكأن هذا الجميع منتش بما أصاب الجسد العراقي الذي أنهكته الديكتاتورية الفاشية والأحزاب التي لبست لباس الدين الحنيف بوجوهها الطائفية والمذهبية، لتجهز عليه الخلافات التي ستحول هذا البلد الذي هو مهد الحضارات الإنسانية إلى لا شيء في الحسابات الدولية أكثر مما هو عليه حاليا.
الأزمات في بلادنا، وأيضا في كل بلدان العالم، لا تنتهي عند حد معين، كيما لا يغضب ذالك العراب المتربص لإسدال ستائره المظلمة على حلم النهار الديمقراطي.
و«الكاريكاتير» العراقي ليس له تاريخ طويل، إلا أنه وفي سنوات ما بعد سقوط النظام الديكتاتوري ولحد اليوم أخذ حيزا كبيرا في واقع الحياة الثقافية اليومية للمواطن العراقي، فهو موجود في أغلب الصحف اليومية العراقية، إذ أصبحت ظاهرة عامة في الحياة اليومية للشعب العراقي، أسوة بشقيقيه المصري واللبناني، لقد أصبح السفر ممتعا، ومريحا مع «دخانه» المتطاير الذي تحمله بعض التعليقات، التي توخز الفكر المحافظ، الغارق في يقينه، والخائف من الآخر ومن ثقافته، ومن حداثته وتقدمه، والمنتمي للآخرة أكثر من انتمائه للحياة، في واقع زاد زحاما، وأشدت غبارات أجوائه فأصبحت المنافذ «الدخانية» سهلة الاختراق لكل الحواجز التي يرفعها هذا الواقع، وذلك من خلال نصب الأفخاخ الذكية، وإجراء المقالب الماكرة، ابتدأت من معطف الفنان البغدادي غازي عبد الله الذي كان فنانا قديرا، وجاء من بعده تلميذ نجيب، هو بسام فرج، ليكون رافعا ماهرا للأقنعة، عن وجوه وعورات الكثير من السياسيين. ومهارته هذه قائمة على الملاحظات الثاقبة للحياة والواقع، وذلك في أخذ الكثير من جوانب هذا الواقع الأكثر تعقيدا من غيره، وصلنا من خلاله إلى زمن اللاعقلانية بامتياز، في كل مجالاتنا الحياتية... وأصبحنا ننظر إلى المستقبل يزدحم بعلامات الانهيار والتكلس القاتل في أفقه، فهو يعيد إنتاج الموت البطيء للثقافة والفكر والإنسان.
فقدم الفنان بسام للرمز صورة الفكاهة، لحمل الناس إلى رؤية الأشياء التي تسير على رؤوسها بالمقلوب، في واقع يمشي الجميع على قدميه.
واتسمت رسومه بالتبسيط في الفكرة والخط، لموضوعات هي بالأساس غير مبسطة للحد الذي تنتزع هذه الرسوم لتعكس الأشياء والظواهر المحيطة بسهولة وكأنها جزء من موجودات التعامل اليومي في الحياة الاجتماعية والسياسية العراقية، أنها تعتمد اعتمادا كبيرا على نقل الوعي بشرارات ذكية تخرج من الصورة وتلامس ذهن المشاهد، من دون تعليمية، ومن دون مخادعة، وإنما في سعي، يحمل وعيا واضحا يلامس، وينحاز إلى محبة الشعب العامل ليصل إلى العمق ليجعله يطفح على سطح واقع أي مجتمع، غني أو فقير، ديمقراطي أو ديكتاتوري.
معارك الأحزاب السياسية المستمرة، وفضائحها المدمرة، تمشي في طابور من أجل أن تدخل إحدى الغسلات الكبيرة والتي كتب عليها «غسل الضمير». إنها تبدو حقائق، وليست نكات خارج هموم العيش، لها القدرة في إيقاظ المخيلات، وفضح الواقع السياسي وبلاغته. أنه يدرك بأن المشكلة الكبرى، تتمثل الآن بانتصار التخلف الذي جعل من الحق باطلا، ومن الباطل حقا. فلا حداثة حقيقية من دون استعادة العقل السجين الذي يحتاج إلى تحريره من اليقينيات القاتلة والمتكررة.
معظم النتاجات الإبداعية التي حققها بسام فرج، كانت تحفر في أرض الوطن، وما تثيره من أسئلة حارقة ومارقة، لا تستسلم لكوابح العنف والتسلط وقمع الرأي، وإنما استطاعت تخطى العوائق والموانع؛ لتوقد جِذوة البحث الأبدي عن عشبة خلود الحياة والإبداع. لذلك اعتبر أن الرحلة في أهوال تيه الأنظمة السياسية ومكابداتها، من أبرز المحدّدات المهمة لعملية نقد لاذع وخلاق يمتلك صفة التخفي، يمجّد قيم الإنسان العراقي دون سواه، وهنا مطمح الإبداع القح والجدير بالديمومة. وقد تمكّنت عبْر رحلتي المتواضعة مع صديق العمر بسام فرج، أن أقف عند تخوم هذه التجربة منذ بداياتها الأولى الذاتية، في تشابك وتوالج وتواشج وإعجاب. رحلة اتسمت معالمها على الدوام، بالتنقيب عن وسيلة أسلوبية ناجعة.