ليبيا.. صراع «النفط» و«السلاح»

المحرك الخفي لدوامة العنف في الداخل.. وأياد خارجية وراء التصعيد

ليبيا.. صراع «النفط» و«السلاح»
TT

ليبيا.. صراع «النفط» و«السلاح»

ليبيا.. صراع «النفط» و«السلاح»

في عرس بمدينة المرج في الشرق الليبي تصور أغنية شعبية الوضع في البلاد المضطربة بأنه صراع بين الضأن والراعي، والذئب الجديد. المقصود بالذئب الجديد جماعات الإسلام السياسي المتشددة التي تهيمن على البرلمان. تقول الأغنية إن الذئب الجديد حل محل الذئب القديم، وهو «نظام القذافي».
لكن الصراع الداخلي المتفجر في البلاد أصبح يحظى بزخم دولي أيضا بسبب مصالح جوهرية تتعلق بصفقات معطلة تبلغ قيمتها مليارات الدولارات في مجال السلاح والنفط، إضافة لقلق من تنامي ميليشيات التطرف وتهريب أسلحة الجيش وتنقل الجهاديين عبر حدود دول الجوار. يدرك الليبيون الأمر، فإن الاهتمام الدولي ببلادهم لا يتعلق بالديمقراطية ولا بحقوق الإنسان ولا أي شيء من هذه الأسماء التي يحلو للبعض ترديدها على شاشات التلفزيون ومواقع الإنترنت وواجهات الصحف. فالنفط والسلاح يبدو أنهما المحرك الخفي لتلك الصراعات الداخلية والخارجية. فمن الذي يتحكم في نفط ليبيا وغازها؟ وما حجم تجارة السلاح فيها؟ وما علاقة الصراعات الداخلية بين الميليشيات بالقوى الإقليمية والدولية؟ ومن حركها؟
في بعض الجلسات الخاصة في القاهرة لعدد من كبار المسؤولين السابقين (ممن عملوا مع القذافي وممن انشقوا عنه أيضا)، يمكن أن يتحدث إليك البعض عما يجري خلف الستار. مثلا.. أرادت شركات سلاح أميركية أن تعقد صفقة قيمتها مليارا دولار من حيث المبدأ من أجل توريد أسلحة وتدريب طيارين ليبيين. لكن هذه الصفقة تعطلت بسبب قانون أميركي قديم يحظر منح التأشيرة لليبيين الذين يريدون تعلم الطيران والعلوم النووية. وعليه بدأت شركات السلاح الأميركية في البكاء بين يدي الكونغرس.
وعلى أي حال.. تزيد الرواية قائلة إن شركات السلاح ومعها وزارة الدفاع الأميركية طلبت من الرئيس باراك أوباما التدخل لإلغاء قانون التأشيرة لليبيين الذي يعود لثمانينات القرن الماضي. وتأثر أوباما بالدفوع التي قدمها صناع السلاح ووزارة الدفاع، ومن أهمها أنه إذا تأخر عقد صفقات عسكرية أميركية مع الجانب الليبي، فإن سماسرة ودولا أخرى ستقوم بالأمر وتستفيد من حاجة السوق الليبية لأسلحة جديدة وتدريب عسكريين وبناء مطارات ودشم عسكرية بعد أن قصف حلف الناتو في 2011 معسكرات الجيش.
لكن أوباما حين بدأ يدرس موضوع إلغاء قانون التأشيرة الخاص بالليبيين، اصطدم بمنظمات أهلية وشبه رسمية قدمت تقارير للكونغرس بينت فيها أن ليبيا ما زالت دولة خطرة على السلام العالمي بسبب تزايد أعداد الجهاديين فيها، ومن بينهم قيادات في المؤتمر الوطني (البرلمان) والحكومة، وبعضهم له صلات بعمليات إرهابية أو أنه يتستر على مطلوبين نفذوا عمليات إرهابية وقعت في الماضي، بما فيها عملية تفجير القنصلية الأميركية في بنغازي في 2012.
أو كما قال أحد المشرفين الأميركيين على تحقيقات تجري بشأن تفجير القنصلية، في إفادة حصلت «الشرق الأوسط» على تفاصيل منها، وهو يوجه حديثه إلى مسؤولين عسكريين وآخرين من البيت الأبيض: هل توصلتم إلى الفاعل في الهجوم على القنصلية قبل أن تتحدثوا عن فتح باب التأشيرات لليبيين الساعين لتعلم الطيران؟ هل تعلمون أن الجيش الليبي (الرسمي) فيه جهاديون؟ هل تريدون أن ندرب هؤلاء لكي يقودوا طائرات يمكن أن يفجروها في ناطحات السحاب الأميركية؟ هل تريدون تكرار ما حدث في 11 سبتمبر (أيلول) 2001؟
جرى هذا اللغط في الأشهر الأولى من هذا العام. وأعقب ذلك إرسال موفدين أميركيين بشكل غير رسمي للتحقق من طبيعة ما يجري على الأرض الليبية، خاصة بشأن تغلغل الجهاديين في الجيش الرسمي الذي تديره وزارة الدفاع ورئاسة الأركان، وهما جهتان تقول المصادر إن كثيرا من القيادات فيهما من الموالين للجماعات المتشددة، وإن كثيرا منهم تدخل في السابق لإرساء مبادئ خطيرة تتعلق بالسماح للكتائب والميليشيات بالعمل كأذرع للبرلمان المؤقت والحكومة، وتخصيص رواتب لقادتها وعناصرها من ميزانية الدولة، وهو أمر أسهم في عرقلة بناء الجيش والشرطة.
ليس بالضرورة أن يكون للمقدمة السابقة علاقة مباشرة بـ«عملية الكرامة» التي بدأ تنفيذها اللواء خليفة حفتر، القائد السابق في الجيش الليبي، ضد المتشددين الإسلاميين والكتائب والميليشيات المحمية من قيادات رسمية، وفقا لأحد المصادر الليبية المطلعة، الذي يشير إلى أن عملية حفتر التي انطلقت منذ الشهر الماضي ليست إلا محصلة لمطالب محلية ودولية تريد تحقيق الاستقرار في ليبيا، لكن الاستحسان الذي تلقاه هذه العملية يزيد الزخم حول إمكانية أن يتحول القائد العسكري السابق إلى محور لدولة متماسكة، رغم أن أيا من الأطراف صاحبة المصلحة لم تعلن صراحة الوقوف مع أو ضد حفتر.
يقول المحلل السياسي الليبي حسين قدورة: «هذا ليس هدف الغالبية العظمى من المواطنين الليبيين فقط، ولا شركات السلاح الكبرى فقط، ولكنه أيضا هدف أصيل لشركات النفط العالمية التي لها مصالح منذ عقود في هذا البلد الغني بالنفط، إضافة إلى أنه هدف أصيل لدول الجوار الليبي التي تعاني ضعف الرقابة على الحدود وتهريب السلاح وتنقل الجهاديين عبرها، خاصة الجزائر ومصر وتشاد».
والخلاصة أن كل التقارير التي أعدتها مجموعة من الدول الغربية بشكل منفرد، على ما يبدو، من جانب كل منها، انتهت إلى أن الوضع الليبي لا يمكن أن يستمر بالطريقة التي يريدها الأعضاء الفاعلون في المؤتمر الوطني وفي الحكومة التي تساندها جماعة الإخوان المسلمين. ووفقا لدبلوماسيين غربيين، فإن هذه التحركات الدولية جاءت تحت ضغط من شركات السلاح والنفط التي أصيبت بخسائر ضخمة بسبب عدم القدرة على تفعيل أي صفقات، بما فيها الصفقات الموقعة سلفا مع دولة تعاني الفوضى.
ويلاحظ أن عددا من الدبلوماسيين الغربيين وحتى المسؤولين قاموا خلال الشهور الماضية، ومنذ أواخر العام الماضي، بزيارات أو اتصالات أو لقاءات في الداخل والخارج، مع أطراف ليبية مهمة، في محاولة لإيصال رسالة تقول إنه إما إرساء مبادئ دولة ديمقراطية آمنة بجيش وشرطة قويين، أو أن الأمور قد تتطور إلى ما لا تحمد عقباه. وتعد المحاولة الفاشلة لتهريب النفط من ميناء السدرة في الشرق الليبي، واحدة من الوقائع التي أعادت الزخم الدولي حول هذا البلد.
هناك الكثير من الصفقات التي كان ينبغي الانتهاء منها خلال الأشهر الماضية، إلا أنها تعطلت بفعل الانفلات الأمني والخوف من تنامي نشاط تنظيم القاعدة، وخلافات الفرقاء السياسيين. أو كما يقول البعض فإن أهم عنصرين حركا المياه الراكدة على الصعيد الدولي بشأن ليبيا أخيرا، هما «السلاح والنفط».. أي تعطل صفقات تبلغ قيمتها مليارات الدولارات.
قبل بداية عملية «الكرامة» مارست الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا ودول غربية أخرى، ضغوطا على أطراف النزاع الليبي من أجل التهدئة والسيطرة على الفوضى الأمنية والدخول في المسار الديمقراطي. وتشير المصادر إلى أن دولا إقليمية أخرى عملت منذ وقت مبكر في هذا الاتجاه، من بينها مصر وبلدان أفريقية مجاورة، لكن استقالة الدكتور علي زيدان من رئاسة الحكومة وفشل المؤتمر الوطني في لم شمل الخلافات، وتصلب مواقف الميليشيات المسلحة والكتائب التي يقودها متطرفون، أدت على ما يبدو إلى حالة من الإحباط على المستويين المحلي الليبي والإقليمي والدولي.
وبينما كان الليبيون في الداخل ينظمون خلال الشهرين الماضيين فعاليات للعصيان المدني احتجاجا على سياسات المؤتمر الوطني والميليشيات ومظاهر التسلح، زار عدد من المستشارين والمسؤولين الغربيين ليبيا، في محاولة على ما يبدو لفهم ما يجري في هذه البلاد النفطية شاسعة المساحة، وكان من بينهم نائب وزير الخارجية الأميركي ويليام بيرنز. وقال مصدر قبلي ليبي إن زيارة بيرنز سبقتها زيارات أخرى لأميركيين من بينهم مستشار يعمل لصالح وزارة الدفاع الأميركية قام بجولة في الزنتان وطرابلس ومصراتة والمنطقة الشرقية، مشيرا إلى أن الأميركيين لديهم قلق من تصاعد نفوذ المتشددين في ليبيا.
وتتلاقى أهداف عملية «الكرامة» مع أطراف أخرى داخلية وخارجية لأنها «ربما ستكون طريقا جديدا لبناء دولة متماسكة، في حال تمكن قائدها حفتر من جمع الأطراف الرئيسة والفاعلة في البلاد حول مشروع وطني يؤيده الشارع، لاستعادة سلطة الدولة المركزية»، كما يقول أحد القيادات الليبية السابقة المقيمة في العاصمة المصرية القاهرة. ويضيف أن أمام حفتر عدة تحديات من بينها إيجاد خطاب متوازن يرضي ثورة 17 فبراير (شباط) ويرضي القبائل التي جرى تهميشها وإقصاؤها تحت زعم مساندتها لحكم القذافي، بالإضافة إلى إقناع القيادات التي خرجت بفعل قانون العزل السياسي من الحياة العامة منذ صيف العام الماضي، بالتفاهم وتصويب الوضع القانوني الذي تضرر منه الألوف من الليبيين ممن عملوا في الإدارات الحكومية في العهد السابق.
ومنذ سقوط نظام العقيد الراحل معمر القذافي في خريف عام 2011، كانت خيوط الدولة المركزية تفلت يوما بعد يوم من بين أصابع قيادات الحكم الجديدة. وجرى إقصاء أي إمكانية لتكوين جيش وسلطات أمنية قوية، لصالح استفحال الميليشيات والكتائب وسيطرتها على مخازن سلاح جيش القذافي وكتائبه، وإحلال نفسها محله ليتحول قادة هذه الميليشيات وأمراؤها إلى المئات مما أصبح يسميه البعض «القذافيين الصغار». ويمارس قادة الميليشيات سياسات القذافي في الإقصاء والتهميش والاحتجاز والمحاكمة خارج نطاق القانون. أو كما يقول أحد الأساتذة في جامعة بنغازي: «من السهل الإطاحة بديكتاتور، ومن الصعب بناء دولة».
وحصلت «الشرق الأوسط» على وثائق جديدة تخص التحقيق في مقتل اللواء عبد الفتاح يونس، الذي كان يسعى لتفعيل الجيش الوطني الليبي، ليكون ركيزة للدولة الجديدة في صيف 2011، وتبين هذه الوثائق إدراك قادة الميليشيات الإسلامية منذ وقت مبكر لخطورة وجود جيش أو سلطة مركزية قوية على مستقبلها. كما تشير هذه الوثائق إلى وجود تململ من جانب اللواء حفتر بسبب عدم حسم اللواء يونس لعدة أمور ظلت معلقة وربما تسببت في مقتله في نهاية المطاف، ومن بينها العلاقة المركبة والغامضة بين يونس ومراكز حلف الناتو التي كانت تدير عمليات القصف ضد قوات القذافي، وعلاقته بقادة الميليشيات، خاصة تلك التي يقودها إسلاميون ليبيون متشددون قادمون من أفغانستان وغيرها، وكانوا يدبرون المكائد ضده دون أن يتخذ الاحتياطات اللازمة.
ويقول أحد العسكريين الليبيين إن حفتر بدأ في ذلك الوقت في التراجع خطوات للخلف، لأنه لم يكن راضيا عن طريقة عمل يونس على الجبهة. وحين تعرض يونس للقتل على أيدي من يعتقد أنهم إسلاميون متشددون، ابتعد حفتر عن القيادة، وظل يعمل بقدر استطاعته للإسهام في القضاء على القذافي دون أن يكون موجودا في الصفوف الأولى التي حرص أمراء الحرب من الجماعات الإسلامية مثل «الجماعة المقاتلة» و«الإخوان» وغيرهما، على تصدر مشهدها طيلة الوقت. وحين انتهى نظام القذافي، أخذت الميليشيات والكتائب الإسلامية تعمل على سد أبواب العمل أمام حفتر رغم أهميته كرجل عسكري مخضرم.
ويعتقد البعض أن «الجيش الوطني الليبي» الذي بدأ عملية «الكرامة» أخيرا بقيادة حفتر مجرد اسم جديد لمجموعة من العسكريين. وهذا غالبا غير صحيح. وكلمة «الجيش الوطني» ارتبطت أساسا بحفتر حين انضم إلى المعارضة الليبية ضد القذافي في الخارج في ثمانينات القرن الماضي. كان حفتر من رجال الجيش في عهد النظام السابق، وحقق انتصارات في قيادته للحرب الليبية في تشاد، مما تسبب في خوف القذافي منه، فتخلى عنه، ليقع في أسر التشاديين مع مئات من الجنود الليبيين في معركة وادي الدوم الشهيرة عام 1987.
وبعد هذه الواقعة انشق حفتر عن القذافي وتدخلت عدة دول مع ظروف سياسية أخرى، لتحريره من الأسر، وانتقل مع رفاقه إلى الخارج، وبدأ في تأسيس الجيش الوطني عام 1988 ليكون الذراع العسكرية للجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا، وهي جبهة معارضة كانت تتكون من معظم القيادات التي عادت من المنفى وأسهمت في الإطاحة بنظام القذافي في 2011، لكن المؤتمر الوطني المنحاز للميليشيات الإسلامية تخلص من غالبية قيادات المعارضة هذه، وتسببت حالة الفوضى في طرد الكثير من السياسيين الكبار إلى خارج البلاد مرة أخرى، واستخدم قادة إسلاميون عدة وسائل مثل إصدار قانون العزل السياسي، والخطف والاغتيالات ووصم قادة المعارضة التاريخية بـ«الليبراليين والعلمانيين» الذين يعارضون إقامة دولة إسلامية في ليبيا، وغيرها من وسائل الترهيب.
وقبل الوصول إلى مطلع تسعينات القرن الماضي كان الزخم حول الجيش الوطني الليبي قد بدأ في التراجع، ولم يظهر مجددا بشكل قوي إلا مع عودة حفتر من الخارج مع بدء الانتفاضة المسلحة ضد القذافي في 2011، لكن مقتل يونس أدى إلى تبخر حلم إحياء الجيش الوطني.
وبدأ الحكام الجدد في المجلس الانتقالي وعدة دول أجنبية في التعامل مع قادة الميليشيات والكتائب كجيوش مستقلة عن بعضها البعض، لا يجمعها غير الرغبة في التخلص من القذافي. انتهت المهمة، لكن هذه المجموعات المسلحة ما زالت تعمل كجيوش صغيرة داخل الدولة التي تركها القذافي وهي تعاني تناقضات معقدة.
مثلا في منطقة جنوب ليبيا، أو ما يعرف بـ«إقليم فزان»، كانت التربة صالحة لإنبات وضع مختل، وفقا لما أشار إليه تقرير للباحث الألماني ولفرام لاخر، الذي قال لـ«الشرق الأوسط» إن تقريره اعتمد على «مقابلات أجريت مع شخصيات سياسية وعسكرية في سبها وأوباري ومرزق في شهر سبتمبر من عام 2013 ومع ممثلين عن فصائل المجتمع في الجنوب الليبي في كل من طرابلس وبنغازي ونيامي وأغادز في عامي 2012 و2013 وشهر يناير (كانون الثاني) من عام 2014».
«لقد انقسمت فزان، كما هو حال سائر مناطق ليبيا، إلى مناطق نفوذ محلية متعددة، فمنها ما يرزح تحت سيطرة مجموعة مسلحة واحدة، ومنها ما تتصارع عليه مجموعات كثيرة، كما في بعض أجزاء من سبها». هكذا يشير تقرير «ولفرام لاخر». لكنه يتحدث أيضا عن اشتباه في قدرة المجموعات المتطرفة على عبور فزان بالاعتماد على حلفائهم المحليين «فقد أرسلت مجموعة أنصار الشريعة على الأقل رتلا من المقاتلين والأسلحة إلى شمال مالي في أواخر عام 2012، ونقل أن هذا الرتل استخدم أذونات رسمية لعبور نقاط التفتيش في (منطقتي) هون وتمنهنت. وكذلك نقل أن المجموعة المسؤولة عن هجمات يناير من عام 2013 على المرافق النفطية في عين أميناس في الجزائر كانت قد اجتمعت في العوينات شمال غات في ليبيا».
ويزيد التقرير قائلا إن أكثر المناطق الجغرافية قيمة تتمثل في «الحدود والطرق ونقاط التفتيش وحقول النفط والقواعد العسكرية ومستودعات السلاح.. وقد أدت الأرباح التي تجنى من هذه الموجودات إلى إغراء المجموعات المسلحة لتوسيع نطاق سيطرتها أو مضاعفة أرباحها.. ففي يونيو (حزيران) من عام 2013. على سبيل المثال، قام الحرس المنتمون إلى قبائل التبو بإيقاف الإنتاج في حقل الفيل (النفطي) للمطالبة بفرص عمل إضافية لأفراد المجتمع المحلي في مجال حماية هذا الحقل. وعندما أراد الحرس القادمون من الزنتان والمسؤولون عن حماية الحقل فك الحصار عنه، قوبلوا بتعزيزات من التبو اضطرتهم إلى التقهقر، وانتهت الأزمة بتعزيز حرس التبو لمواقعهم في الحقل». ويقول «ولفرام لاخر» إن المصالح التي رسختها المجموعات المسلحة ستشكل عائقا كبيرا أمام محاولات إعادة تأسيس سلطة الدولة.
ويطلق البعض على ما يجري في ليبيا تعبير «الصراع بين السلاح القبلي والسلاح الإسلامي»، في إشارة إلى المجموعات القبلية التي تمكنت من الاستحواذ على الألوف من قطع السلاح الخفيف والمتوسط والثقيل عقب سقوط نظام القذافي، والتحصن وراء ما تملكه من ترسانة أسلحة لحماية نفسها من الميليشيات والكتائب الإسلامية المدججة بالأسلحة بما فيها الدبابات والصواريخ.. لكن المشكلة الرئيسة، كما يراها البعض، أن الميليشيات والكتائب لها نصيب الأسد في الدولة الجديدة بسبب الاعتماد عليها من جانب المؤتمر الوطني والحكومة، على حساب القبائل، خاصة تلك التي كانت منخرطة في الأجهزة الأمنية التابعة للقذافي.
وتبرز التفاصيل الصغيرة للصراع اليومي بين السلاح القبلي والإسلامي، في كل المناطق النفطية، خاصة تلك التي جرى فيها استجلاب عمالة من خارج المدن القريبة منها، وتسبب هذا النزاع في إغلاق موانئ نفطية في عدة مناطق في هذا البلد العضو في منظمة أوبك، خاصة في منطقة الشرق، مما كبد البلاد خسائر بمليارات الدولارات، وتوقفت الغالبية العظمى من صادرات البلاد، وتأخر تنفيذ عقود تخص عشرات الشركات النفطية الأجنبية.. فبعد أن كان الإنتاج اليومي قبيل فبراير 2011 يصل إلى نحو 1.4 مليون برميل يوميا، تراجع إلى نحو 200 ألف برميل يوميا.
وتبرز تفاصيل الصراع اليومي أيضا في كل الأراضي المتنازع عليها.. والمقصود هنا تلك الأراضي الشاسعة التي أقام عليها القذافي مشروعات ومساكن بينما هي تخص قبائل، بينما من يستفيد من هذه المشروعات والمساكن قبائل أخرى. وكل هذا يحتاج لدولة مركزية قوية قادرة على صياغة قوانين وإصلاح ما أعطبه القذافي، ومعالجة إقصاء الحكام الجدد لقبائل مهمة مثل ورفلة وورشفانة وترهونة والمقارحة وغيرها.
وتصور أغان شعبية ليبية البرلمان الذي يهيمن عليها الإسلاميون وجماعة الإخوان على أنه «ذئب»، وتصور ليبيا على أنها «ضأن»، بينما الراعي هو «الشعب». وتقول كلمات الأغنية إن الراعي عليه أن يواجه الذئب الجديد لحماية أغنامه، بعد أن تخلص من الذئب السابق.
وتتجسد مأساة التعامل بناء على الانتماء للميليشيات والهوية القبلية، في حكايات أخرى لليبيين. مثلا تقول هذه القصة إن أحد المصريين انطلق في سيارة أجرة من مدينة طرابلس الليبية، متوجها إلى بلاده بصحبة ستة من أصدقائه الليبيين، وفي كل نقطة تفتيش من تلك النقاط التي تسيطر عليها الميليشيات المسلحة على الطرق البرية من طرابلس إلى حدود مصر، مرورا بمدينتي سرت وبنغازي، كان يجري سؤال الركاب الليبيين عن هويتهم القبلية ودرجة ولائهم للميليشيات. ويقول المصري إنه في نهاية المطاف وصل إلى حدود بلاده وحده، بعد أن قام المسؤولون عن تلك البوابات بتوقيف أصدقائه واحدا تلو الآخر لأسباب قبلية وميليشياوية إسلامية.
وتوجد الكثير من الحالات المماثلة للنزاع ليس في الجنوب الليبي فقط كما ورد في تقرير السيد «لاخر»، بل في شرق البلاد وغربها أيضا.. أي في إقليمي برقة وطرابلس، حول مواقع النفوذ، خاصة فيما يتعلق بحراسة حقول النفط التي تعمل فيها شركات تابعة للكثير من الدول، والسيطرة على المطارات الجوية، ومخازن السلاح، وغيرها. وتوجد نحو 40 شركة نفط دولية لها تعاقدت مع الدولة الليبية منذ عهد القذافي، أصيبت بأضرار بالغة منذ ثورة 2011، بسبب تراجع القدرة على التصدير أو الالتزام بالتعاقدات، من بينها شركات أميركية تعمل في المنطقة التي يسيطر عليها دعاة الحكم الفيدرالي في الشرق، وأخرى إيطالية في جنوب غربي طرابلس، إضافة لشركات فرنسية لها حصص في آبار نفطية في الجنوب.
وحول ما إذا كان يعتقد بوجود ضغوط تمارس من جانب جهات دولية من أجل تحقيق الاستقرار في ليبيا بشكل عاجل لتنفيذ صفقات معطلة منذ أشهر، خاصة بالسلاح والبترول، قال مصدر قبلي كان من ضمن وفود ليبية رسمية زارت القاهرة في أبريل (نيسان) الماضي: بطبيعة الحال الدول تسعى لمصالحها، سواء الغرب؛ أوروبا، أو أميركا.. توجد شركات تابعة لهذه الدول أصبحت متضررة بشكل كبير.. والأطراف الرئيسة، وعلى رأسها واشنطن، يمكن أن تقول إنها أصبحت تدرك أن الوضع في ليبيا يحتاج إلى جهود دولية حقيقية لمساندتها.
وتقول المصادر الليبية إن حفتر حاول بالتعاون مع عدة «أطراف وطنية» داخل البلاد وخارجها، البدء بعملية الكرامة في فبراير الماضي، لكن العملية تعرضت للإجهاض حين تعجل بعض القادة على الأرض في تنفيذ مهام دون تنسيق، خاصة في الجنوب وفي طرابلس. وتزامن ذلك مع زيادة دول ذات مصلحة في ليبيا، للضغط من أجل التوصل لحلول دون اللجوء لنزاع طويل الأمد بين الفرقاء الليبيين، ومن بين هذه الدول فرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة.
وتشير المصادر إلى أن الدول الغربية ضغطت على أطراف إقليمية لها علاقات وثيقة بقادة قبائل وميليشيات وكتائب مسلحة، من أجل الانخراط في عملية بناء الدولة الليبية، وتشكيل جيش وشرطة ومؤسسات وحكومة مركزية قوية، إلا أن هذه المحاولات لم تأت بأي نتائج ذات شأن، مما فتح الباب لكل الاحتمالات، بما فيها مصير عملية الكرامة التي بدأت أخيرا بشكل أكثر تنسيقا واحترافية من المحاولة السابقة التي جرت في فبراير، وكانت «مجرد دعوة للم الشمل السياسي»، قبل أن تتحول إلى عملية عسكرية، عقب اتهام المؤتمر الوطني لحفتر ومن معه بمحاولة الانقلاب على ما يسميه الإسلاميون وقادة الإخوان الليبيين «الشرعية»، ليستمر الصراع بين الضأن والراعي والذئب الجديد.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.