ليبيا.. صراع «النفط» و«السلاح»

المحرك الخفي لدوامة العنف في الداخل.. وأياد خارجية وراء التصعيد

ليبيا.. صراع «النفط» و«السلاح»
TT

ليبيا.. صراع «النفط» و«السلاح»

ليبيا.. صراع «النفط» و«السلاح»

في عرس بمدينة المرج في الشرق الليبي تصور أغنية شعبية الوضع في البلاد المضطربة بأنه صراع بين الضأن والراعي، والذئب الجديد. المقصود بالذئب الجديد جماعات الإسلام السياسي المتشددة التي تهيمن على البرلمان. تقول الأغنية إن الذئب الجديد حل محل الذئب القديم، وهو «نظام القذافي».
لكن الصراع الداخلي المتفجر في البلاد أصبح يحظى بزخم دولي أيضا بسبب مصالح جوهرية تتعلق بصفقات معطلة تبلغ قيمتها مليارات الدولارات في مجال السلاح والنفط، إضافة لقلق من تنامي ميليشيات التطرف وتهريب أسلحة الجيش وتنقل الجهاديين عبر حدود دول الجوار. يدرك الليبيون الأمر، فإن الاهتمام الدولي ببلادهم لا يتعلق بالديمقراطية ولا بحقوق الإنسان ولا أي شيء من هذه الأسماء التي يحلو للبعض ترديدها على شاشات التلفزيون ومواقع الإنترنت وواجهات الصحف. فالنفط والسلاح يبدو أنهما المحرك الخفي لتلك الصراعات الداخلية والخارجية. فمن الذي يتحكم في نفط ليبيا وغازها؟ وما حجم تجارة السلاح فيها؟ وما علاقة الصراعات الداخلية بين الميليشيات بالقوى الإقليمية والدولية؟ ومن حركها؟
في بعض الجلسات الخاصة في القاهرة لعدد من كبار المسؤولين السابقين (ممن عملوا مع القذافي وممن انشقوا عنه أيضا)، يمكن أن يتحدث إليك البعض عما يجري خلف الستار. مثلا.. أرادت شركات سلاح أميركية أن تعقد صفقة قيمتها مليارا دولار من حيث المبدأ من أجل توريد أسلحة وتدريب طيارين ليبيين. لكن هذه الصفقة تعطلت بسبب قانون أميركي قديم يحظر منح التأشيرة لليبيين الذين يريدون تعلم الطيران والعلوم النووية. وعليه بدأت شركات السلاح الأميركية في البكاء بين يدي الكونغرس.
وعلى أي حال.. تزيد الرواية قائلة إن شركات السلاح ومعها وزارة الدفاع الأميركية طلبت من الرئيس باراك أوباما التدخل لإلغاء قانون التأشيرة لليبيين الذي يعود لثمانينات القرن الماضي. وتأثر أوباما بالدفوع التي قدمها صناع السلاح ووزارة الدفاع، ومن أهمها أنه إذا تأخر عقد صفقات عسكرية أميركية مع الجانب الليبي، فإن سماسرة ودولا أخرى ستقوم بالأمر وتستفيد من حاجة السوق الليبية لأسلحة جديدة وتدريب عسكريين وبناء مطارات ودشم عسكرية بعد أن قصف حلف الناتو في 2011 معسكرات الجيش.
لكن أوباما حين بدأ يدرس موضوع إلغاء قانون التأشيرة الخاص بالليبيين، اصطدم بمنظمات أهلية وشبه رسمية قدمت تقارير للكونغرس بينت فيها أن ليبيا ما زالت دولة خطرة على السلام العالمي بسبب تزايد أعداد الجهاديين فيها، ومن بينهم قيادات في المؤتمر الوطني (البرلمان) والحكومة، وبعضهم له صلات بعمليات إرهابية أو أنه يتستر على مطلوبين نفذوا عمليات إرهابية وقعت في الماضي، بما فيها عملية تفجير القنصلية الأميركية في بنغازي في 2012.
أو كما قال أحد المشرفين الأميركيين على تحقيقات تجري بشأن تفجير القنصلية، في إفادة حصلت «الشرق الأوسط» على تفاصيل منها، وهو يوجه حديثه إلى مسؤولين عسكريين وآخرين من البيت الأبيض: هل توصلتم إلى الفاعل في الهجوم على القنصلية قبل أن تتحدثوا عن فتح باب التأشيرات لليبيين الساعين لتعلم الطيران؟ هل تعلمون أن الجيش الليبي (الرسمي) فيه جهاديون؟ هل تريدون أن ندرب هؤلاء لكي يقودوا طائرات يمكن أن يفجروها في ناطحات السحاب الأميركية؟ هل تريدون تكرار ما حدث في 11 سبتمبر (أيلول) 2001؟
جرى هذا اللغط في الأشهر الأولى من هذا العام. وأعقب ذلك إرسال موفدين أميركيين بشكل غير رسمي للتحقق من طبيعة ما يجري على الأرض الليبية، خاصة بشأن تغلغل الجهاديين في الجيش الرسمي الذي تديره وزارة الدفاع ورئاسة الأركان، وهما جهتان تقول المصادر إن كثيرا من القيادات فيهما من الموالين للجماعات المتشددة، وإن كثيرا منهم تدخل في السابق لإرساء مبادئ خطيرة تتعلق بالسماح للكتائب والميليشيات بالعمل كأذرع للبرلمان المؤقت والحكومة، وتخصيص رواتب لقادتها وعناصرها من ميزانية الدولة، وهو أمر أسهم في عرقلة بناء الجيش والشرطة.
ليس بالضرورة أن يكون للمقدمة السابقة علاقة مباشرة بـ«عملية الكرامة» التي بدأ تنفيذها اللواء خليفة حفتر، القائد السابق في الجيش الليبي، ضد المتشددين الإسلاميين والكتائب والميليشيات المحمية من قيادات رسمية، وفقا لأحد المصادر الليبية المطلعة، الذي يشير إلى أن عملية حفتر التي انطلقت منذ الشهر الماضي ليست إلا محصلة لمطالب محلية ودولية تريد تحقيق الاستقرار في ليبيا، لكن الاستحسان الذي تلقاه هذه العملية يزيد الزخم حول إمكانية أن يتحول القائد العسكري السابق إلى محور لدولة متماسكة، رغم أن أيا من الأطراف صاحبة المصلحة لم تعلن صراحة الوقوف مع أو ضد حفتر.
يقول المحلل السياسي الليبي حسين قدورة: «هذا ليس هدف الغالبية العظمى من المواطنين الليبيين فقط، ولا شركات السلاح الكبرى فقط، ولكنه أيضا هدف أصيل لشركات النفط العالمية التي لها مصالح منذ عقود في هذا البلد الغني بالنفط، إضافة إلى أنه هدف أصيل لدول الجوار الليبي التي تعاني ضعف الرقابة على الحدود وتهريب السلاح وتنقل الجهاديين عبرها، خاصة الجزائر ومصر وتشاد».
والخلاصة أن كل التقارير التي أعدتها مجموعة من الدول الغربية بشكل منفرد، على ما يبدو، من جانب كل منها، انتهت إلى أن الوضع الليبي لا يمكن أن يستمر بالطريقة التي يريدها الأعضاء الفاعلون في المؤتمر الوطني وفي الحكومة التي تساندها جماعة الإخوان المسلمين. ووفقا لدبلوماسيين غربيين، فإن هذه التحركات الدولية جاءت تحت ضغط من شركات السلاح والنفط التي أصيبت بخسائر ضخمة بسبب عدم القدرة على تفعيل أي صفقات، بما فيها الصفقات الموقعة سلفا مع دولة تعاني الفوضى.
ويلاحظ أن عددا من الدبلوماسيين الغربيين وحتى المسؤولين قاموا خلال الشهور الماضية، ومنذ أواخر العام الماضي، بزيارات أو اتصالات أو لقاءات في الداخل والخارج، مع أطراف ليبية مهمة، في محاولة لإيصال رسالة تقول إنه إما إرساء مبادئ دولة ديمقراطية آمنة بجيش وشرطة قويين، أو أن الأمور قد تتطور إلى ما لا تحمد عقباه. وتعد المحاولة الفاشلة لتهريب النفط من ميناء السدرة في الشرق الليبي، واحدة من الوقائع التي أعادت الزخم الدولي حول هذا البلد.
هناك الكثير من الصفقات التي كان ينبغي الانتهاء منها خلال الأشهر الماضية، إلا أنها تعطلت بفعل الانفلات الأمني والخوف من تنامي نشاط تنظيم القاعدة، وخلافات الفرقاء السياسيين. أو كما يقول البعض فإن أهم عنصرين حركا المياه الراكدة على الصعيد الدولي بشأن ليبيا أخيرا، هما «السلاح والنفط».. أي تعطل صفقات تبلغ قيمتها مليارات الدولارات.
قبل بداية عملية «الكرامة» مارست الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا ودول غربية أخرى، ضغوطا على أطراف النزاع الليبي من أجل التهدئة والسيطرة على الفوضى الأمنية والدخول في المسار الديمقراطي. وتشير المصادر إلى أن دولا إقليمية أخرى عملت منذ وقت مبكر في هذا الاتجاه، من بينها مصر وبلدان أفريقية مجاورة، لكن استقالة الدكتور علي زيدان من رئاسة الحكومة وفشل المؤتمر الوطني في لم شمل الخلافات، وتصلب مواقف الميليشيات المسلحة والكتائب التي يقودها متطرفون، أدت على ما يبدو إلى حالة من الإحباط على المستويين المحلي الليبي والإقليمي والدولي.
وبينما كان الليبيون في الداخل ينظمون خلال الشهرين الماضيين فعاليات للعصيان المدني احتجاجا على سياسات المؤتمر الوطني والميليشيات ومظاهر التسلح، زار عدد من المستشارين والمسؤولين الغربيين ليبيا، في محاولة على ما يبدو لفهم ما يجري في هذه البلاد النفطية شاسعة المساحة، وكان من بينهم نائب وزير الخارجية الأميركي ويليام بيرنز. وقال مصدر قبلي ليبي إن زيارة بيرنز سبقتها زيارات أخرى لأميركيين من بينهم مستشار يعمل لصالح وزارة الدفاع الأميركية قام بجولة في الزنتان وطرابلس ومصراتة والمنطقة الشرقية، مشيرا إلى أن الأميركيين لديهم قلق من تصاعد نفوذ المتشددين في ليبيا.
وتتلاقى أهداف عملية «الكرامة» مع أطراف أخرى داخلية وخارجية لأنها «ربما ستكون طريقا جديدا لبناء دولة متماسكة، في حال تمكن قائدها حفتر من جمع الأطراف الرئيسة والفاعلة في البلاد حول مشروع وطني يؤيده الشارع، لاستعادة سلطة الدولة المركزية»، كما يقول أحد القيادات الليبية السابقة المقيمة في العاصمة المصرية القاهرة. ويضيف أن أمام حفتر عدة تحديات من بينها إيجاد خطاب متوازن يرضي ثورة 17 فبراير (شباط) ويرضي القبائل التي جرى تهميشها وإقصاؤها تحت زعم مساندتها لحكم القذافي، بالإضافة إلى إقناع القيادات التي خرجت بفعل قانون العزل السياسي من الحياة العامة منذ صيف العام الماضي، بالتفاهم وتصويب الوضع القانوني الذي تضرر منه الألوف من الليبيين ممن عملوا في الإدارات الحكومية في العهد السابق.
ومنذ سقوط نظام العقيد الراحل معمر القذافي في خريف عام 2011، كانت خيوط الدولة المركزية تفلت يوما بعد يوم من بين أصابع قيادات الحكم الجديدة. وجرى إقصاء أي إمكانية لتكوين جيش وسلطات أمنية قوية، لصالح استفحال الميليشيات والكتائب وسيطرتها على مخازن سلاح جيش القذافي وكتائبه، وإحلال نفسها محله ليتحول قادة هذه الميليشيات وأمراؤها إلى المئات مما أصبح يسميه البعض «القذافيين الصغار». ويمارس قادة الميليشيات سياسات القذافي في الإقصاء والتهميش والاحتجاز والمحاكمة خارج نطاق القانون. أو كما يقول أحد الأساتذة في جامعة بنغازي: «من السهل الإطاحة بديكتاتور، ومن الصعب بناء دولة».
وحصلت «الشرق الأوسط» على وثائق جديدة تخص التحقيق في مقتل اللواء عبد الفتاح يونس، الذي كان يسعى لتفعيل الجيش الوطني الليبي، ليكون ركيزة للدولة الجديدة في صيف 2011، وتبين هذه الوثائق إدراك قادة الميليشيات الإسلامية منذ وقت مبكر لخطورة وجود جيش أو سلطة مركزية قوية على مستقبلها. كما تشير هذه الوثائق إلى وجود تململ من جانب اللواء حفتر بسبب عدم حسم اللواء يونس لعدة أمور ظلت معلقة وربما تسببت في مقتله في نهاية المطاف، ومن بينها العلاقة المركبة والغامضة بين يونس ومراكز حلف الناتو التي كانت تدير عمليات القصف ضد قوات القذافي، وعلاقته بقادة الميليشيات، خاصة تلك التي يقودها إسلاميون ليبيون متشددون قادمون من أفغانستان وغيرها، وكانوا يدبرون المكائد ضده دون أن يتخذ الاحتياطات اللازمة.
ويقول أحد العسكريين الليبيين إن حفتر بدأ في ذلك الوقت في التراجع خطوات للخلف، لأنه لم يكن راضيا عن طريقة عمل يونس على الجبهة. وحين تعرض يونس للقتل على أيدي من يعتقد أنهم إسلاميون متشددون، ابتعد حفتر عن القيادة، وظل يعمل بقدر استطاعته للإسهام في القضاء على القذافي دون أن يكون موجودا في الصفوف الأولى التي حرص أمراء الحرب من الجماعات الإسلامية مثل «الجماعة المقاتلة» و«الإخوان» وغيرهما، على تصدر مشهدها طيلة الوقت. وحين انتهى نظام القذافي، أخذت الميليشيات والكتائب الإسلامية تعمل على سد أبواب العمل أمام حفتر رغم أهميته كرجل عسكري مخضرم.
ويعتقد البعض أن «الجيش الوطني الليبي» الذي بدأ عملية «الكرامة» أخيرا بقيادة حفتر مجرد اسم جديد لمجموعة من العسكريين. وهذا غالبا غير صحيح. وكلمة «الجيش الوطني» ارتبطت أساسا بحفتر حين انضم إلى المعارضة الليبية ضد القذافي في الخارج في ثمانينات القرن الماضي. كان حفتر من رجال الجيش في عهد النظام السابق، وحقق انتصارات في قيادته للحرب الليبية في تشاد، مما تسبب في خوف القذافي منه، فتخلى عنه، ليقع في أسر التشاديين مع مئات من الجنود الليبيين في معركة وادي الدوم الشهيرة عام 1987.
وبعد هذه الواقعة انشق حفتر عن القذافي وتدخلت عدة دول مع ظروف سياسية أخرى، لتحريره من الأسر، وانتقل مع رفاقه إلى الخارج، وبدأ في تأسيس الجيش الوطني عام 1988 ليكون الذراع العسكرية للجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا، وهي جبهة معارضة كانت تتكون من معظم القيادات التي عادت من المنفى وأسهمت في الإطاحة بنظام القذافي في 2011، لكن المؤتمر الوطني المنحاز للميليشيات الإسلامية تخلص من غالبية قيادات المعارضة هذه، وتسببت حالة الفوضى في طرد الكثير من السياسيين الكبار إلى خارج البلاد مرة أخرى، واستخدم قادة إسلاميون عدة وسائل مثل إصدار قانون العزل السياسي، والخطف والاغتيالات ووصم قادة المعارضة التاريخية بـ«الليبراليين والعلمانيين» الذين يعارضون إقامة دولة إسلامية في ليبيا، وغيرها من وسائل الترهيب.
وقبل الوصول إلى مطلع تسعينات القرن الماضي كان الزخم حول الجيش الوطني الليبي قد بدأ في التراجع، ولم يظهر مجددا بشكل قوي إلا مع عودة حفتر من الخارج مع بدء الانتفاضة المسلحة ضد القذافي في 2011، لكن مقتل يونس أدى إلى تبخر حلم إحياء الجيش الوطني.
وبدأ الحكام الجدد في المجلس الانتقالي وعدة دول أجنبية في التعامل مع قادة الميليشيات والكتائب كجيوش مستقلة عن بعضها البعض، لا يجمعها غير الرغبة في التخلص من القذافي. انتهت المهمة، لكن هذه المجموعات المسلحة ما زالت تعمل كجيوش صغيرة داخل الدولة التي تركها القذافي وهي تعاني تناقضات معقدة.
مثلا في منطقة جنوب ليبيا، أو ما يعرف بـ«إقليم فزان»، كانت التربة صالحة لإنبات وضع مختل، وفقا لما أشار إليه تقرير للباحث الألماني ولفرام لاخر، الذي قال لـ«الشرق الأوسط» إن تقريره اعتمد على «مقابلات أجريت مع شخصيات سياسية وعسكرية في سبها وأوباري ومرزق في شهر سبتمبر من عام 2013 ومع ممثلين عن فصائل المجتمع في الجنوب الليبي في كل من طرابلس وبنغازي ونيامي وأغادز في عامي 2012 و2013 وشهر يناير (كانون الثاني) من عام 2014».
«لقد انقسمت فزان، كما هو حال سائر مناطق ليبيا، إلى مناطق نفوذ محلية متعددة، فمنها ما يرزح تحت سيطرة مجموعة مسلحة واحدة، ومنها ما تتصارع عليه مجموعات كثيرة، كما في بعض أجزاء من سبها». هكذا يشير تقرير «ولفرام لاخر». لكنه يتحدث أيضا عن اشتباه في قدرة المجموعات المتطرفة على عبور فزان بالاعتماد على حلفائهم المحليين «فقد أرسلت مجموعة أنصار الشريعة على الأقل رتلا من المقاتلين والأسلحة إلى شمال مالي في أواخر عام 2012، ونقل أن هذا الرتل استخدم أذونات رسمية لعبور نقاط التفتيش في (منطقتي) هون وتمنهنت. وكذلك نقل أن المجموعة المسؤولة عن هجمات يناير من عام 2013 على المرافق النفطية في عين أميناس في الجزائر كانت قد اجتمعت في العوينات شمال غات في ليبيا».
ويزيد التقرير قائلا إن أكثر المناطق الجغرافية قيمة تتمثل في «الحدود والطرق ونقاط التفتيش وحقول النفط والقواعد العسكرية ومستودعات السلاح.. وقد أدت الأرباح التي تجنى من هذه الموجودات إلى إغراء المجموعات المسلحة لتوسيع نطاق سيطرتها أو مضاعفة أرباحها.. ففي يونيو (حزيران) من عام 2013. على سبيل المثال، قام الحرس المنتمون إلى قبائل التبو بإيقاف الإنتاج في حقل الفيل (النفطي) للمطالبة بفرص عمل إضافية لأفراد المجتمع المحلي في مجال حماية هذا الحقل. وعندما أراد الحرس القادمون من الزنتان والمسؤولون عن حماية الحقل فك الحصار عنه، قوبلوا بتعزيزات من التبو اضطرتهم إلى التقهقر، وانتهت الأزمة بتعزيز حرس التبو لمواقعهم في الحقل». ويقول «ولفرام لاخر» إن المصالح التي رسختها المجموعات المسلحة ستشكل عائقا كبيرا أمام محاولات إعادة تأسيس سلطة الدولة.
ويطلق البعض على ما يجري في ليبيا تعبير «الصراع بين السلاح القبلي والسلاح الإسلامي»، في إشارة إلى المجموعات القبلية التي تمكنت من الاستحواذ على الألوف من قطع السلاح الخفيف والمتوسط والثقيل عقب سقوط نظام القذافي، والتحصن وراء ما تملكه من ترسانة أسلحة لحماية نفسها من الميليشيات والكتائب الإسلامية المدججة بالأسلحة بما فيها الدبابات والصواريخ.. لكن المشكلة الرئيسة، كما يراها البعض، أن الميليشيات والكتائب لها نصيب الأسد في الدولة الجديدة بسبب الاعتماد عليها من جانب المؤتمر الوطني والحكومة، على حساب القبائل، خاصة تلك التي كانت منخرطة في الأجهزة الأمنية التابعة للقذافي.
وتبرز التفاصيل الصغيرة للصراع اليومي بين السلاح القبلي والإسلامي، في كل المناطق النفطية، خاصة تلك التي جرى فيها استجلاب عمالة من خارج المدن القريبة منها، وتسبب هذا النزاع في إغلاق موانئ نفطية في عدة مناطق في هذا البلد العضو في منظمة أوبك، خاصة في منطقة الشرق، مما كبد البلاد خسائر بمليارات الدولارات، وتوقفت الغالبية العظمى من صادرات البلاد، وتأخر تنفيذ عقود تخص عشرات الشركات النفطية الأجنبية.. فبعد أن كان الإنتاج اليومي قبيل فبراير 2011 يصل إلى نحو 1.4 مليون برميل يوميا، تراجع إلى نحو 200 ألف برميل يوميا.
وتبرز تفاصيل الصراع اليومي أيضا في كل الأراضي المتنازع عليها.. والمقصود هنا تلك الأراضي الشاسعة التي أقام عليها القذافي مشروعات ومساكن بينما هي تخص قبائل، بينما من يستفيد من هذه المشروعات والمساكن قبائل أخرى. وكل هذا يحتاج لدولة مركزية قوية قادرة على صياغة قوانين وإصلاح ما أعطبه القذافي، ومعالجة إقصاء الحكام الجدد لقبائل مهمة مثل ورفلة وورشفانة وترهونة والمقارحة وغيرها.
وتصور أغان شعبية ليبية البرلمان الذي يهيمن عليها الإسلاميون وجماعة الإخوان على أنه «ذئب»، وتصور ليبيا على أنها «ضأن»، بينما الراعي هو «الشعب». وتقول كلمات الأغنية إن الراعي عليه أن يواجه الذئب الجديد لحماية أغنامه، بعد أن تخلص من الذئب السابق.
وتتجسد مأساة التعامل بناء على الانتماء للميليشيات والهوية القبلية، في حكايات أخرى لليبيين. مثلا تقول هذه القصة إن أحد المصريين انطلق في سيارة أجرة من مدينة طرابلس الليبية، متوجها إلى بلاده بصحبة ستة من أصدقائه الليبيين، وفي كل نقطة تفتيش من تلك النقاط التي تسيطر عليها الميليشيات المسلحة على الطرق البرية من طرابلس إلى حدود مصر، مرورا بمدينتي سرت وبنغازي، كان يجري سؤال الركاب الليبيين عن هويتهم القبلية ودرجة ولائهم للميليشيات. ويقول المصري إنه في نهاية المطاف وصل إلى حدود بلاده وحده، بعد أن قام المسؤولون عن تلك البوابات بتوقيف أصدقائه واحدا تلو الآخر لأسباب قبلية وميليشياوية إسلامية.
وتوجد الكثير من الحالات المماثلة للنزاع ليس في الجنوب الليبي فقط كما ورد في تقرير السيد «لاخر»، بل في شرق البلاد وغربها أيضا.. أي في إقليمي برقة وطرابلس، حول مواقع النفوذ، خاصة فيما يتعلق بحراسة حقول النفط التي تعمل فيها شركات تابعة للكثير من الدول، والسيطرة على المطارات الجوية، ومخازن السلاح، وغيرها. وتوجد نحو 40 شركة نفط دولية لها تعاقدت مع الدولة الليبية منذ عهد القذافي، أصيبت بأضرار بالغة منذ ثورة 2011، بسبب تراجع القدرة على التصدير أو الالتزام بالتعاقدات، من بينها شركات أميركية تعمل في المنطقة التي يسيطر عليها دعاة الحكم الفيدرالي في الشرق، وأخرى إيطالية في جنوب غربي طرابلس، إضافة لشركات فرنسية لها حصص في آبار نفطية في الجنوب.
وحول ما إذا كان يعتقد بوجود ضغوط تمارس من جانب جهات دولية من أجل تحقيق الاستقرار في ليبيا بشكل عاجل لتنفيذ صفقات معطلة منذ أشهر، خاصة بالسلاح والبترول، قال مصدر قبلي كان من ضمن وفود ليبية رسمية زارت القاهرة في أبريل (نيسان) الماضي: بطبيعة الحال الدول تسعى لمصالحها، سواء الغرب؛ أوروبا، أو أميركا.. توجد شركات تابعة لهذه الدول أصبحت متضررة بشكل كبير.. والأطراف الرئيسة، وعلى رأسها واشنطن، يمكن أن تقول إنها أصبحت تدرك أن الوضع في ليبيا يحتاج إلى جهود دولية حقيقية لمساندتها.
وتقول المصادر الليبية إن حفتر حاول بالتعاون مع عدة «أطراف وطنية» داخل البلاد وخارجها، البدء بعملية الكرامة في فبراير الماضي، لكن العملية تعرضت للإجهاض حين تعجل بعض القادة على الأرض في تنفيذ مهام دون تنسيق، خاصة في الجنوب وفي طرابلس. وتزامن ذلك مع زيادة دول ذات مصلحة في ليبيا، للضغط من أجل التوصل لحلول دون اللجوء لنزاع طويل الأمد بين الفرقاء الليبيين، ومن بين هذه الدول فرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة.
وتشير المصادر إلى أن الدول الغربية ضغطت على أطراف إقليمية لها علاقات وثيقة بقادة قبائل وميليشيات وكتائب مسلحة، من أجل الانخراط في عملية بناء الدولة الليبية، وتشكيل جيش وشرطة ومؤسسات وحكومة مركزية قوية، إلا أن هذه المحاولات لم تأت بأي نتائج ذات شأن، مما فتح الباب لكل الاحتمالات، بما فيها مصير عملية الكرامة التي بدأت أخيرا بشكل أكثر تنسيقا واحترافية من المحاولة السابقة التي جرت في فبراير، وكانت «مجرد دعوة للم الشمل السياسي»، قبل أن تتحول إلى عملية عسكرية، عقب اتهام المؤتمر الوطني لحفتر ومن معه بمحاولة الانقلاب على ما يسميه الإسلاميون وقادة الإخوان الليبيين «الشرعية»، ليستمر الصراع بين الضأن والراعي والذئب الجديد.



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».