الإسلام المعتدل الوسطي في مواجهة التطرف

قراءة في التوجه السعودي

الدعوة والتمكين لـ«الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح» جزء من استراتيجية الأزهر في مكافحة التطرف («الشرق الأوسط»)
الدعوة والتمكين لـ«الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح» جزء من استراتيجية الأزهر في مكافحة التطرف («الشرق الأوسط»)
TT

الإسلام المعتدل الوسطي في مواجهة التطرف

الدعوة والتمكين لـ«الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح» جزء من استراتيجية الأزهر في مكافحة التطرف («الشرق الأوسط»)
الدعوة والتمكين لـ«الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح» جزء من استراتيجية الأزهر في مكافحة التطرف («الشرق الأوسط»)

إن الدعوة والتمكين لـ«الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح»، التي أطلقها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، جاءت بحسم لا يحتمل الشك أو التردد، إذ أكد ولي العهد السعودي في 24 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي 2017: «سنعود إلى الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح على جميع الأديان»، وأضاف: «لن نضيع 30 سنة من حياتنا في التعامل مع أي أفكار متطرفة، اتخذنا خطوات واضحة في الفترة الماضية بهذا الشأن، وسنقضي على بقايا التطرف في القريب العاجل، ولا أعتقد أن هذا يشكل تحدياً، فنحن نمثل القيم السمحة المعتدلة الصحيحة، والحق معنا في كل ما نواجه، وسندمرهم اليوم وفوراً».
بهذه الكلمات القليلة، اختصر ولي العهد السعودي رفض إعاقة التطرف والتشدد للتنمية، وضرورة رفع غباره وتشوهاته عن حقيقة المبادئ والقيم السمحة المعتدلة للإسلام المعتدل الوسطي المنفتح.
وجاءت تصريحات الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي هذه في أثناء افتتاح مشروع «نيوم» الاقتصادي التنموي الضخم المزمع إقامته، وهي تؤكد بوضوح على أن التمكين للاعتدال ضرورة حتمية لا تردد فيها، واتساق مع اعتبار التطرف إعاقة كبيرة للنهضة والتنمية والاستقرار.
- السعودية وريادة جهود مكافحة التطرف
واقع الحال أن السعودية خلال السنوات الثلاث الماضية، حققت قفزة هائلة في جهود التمكين للاعتدال، كجزء من سياسة مكافحة التطرف، عبر كثير من المؤسسات والمراكز البحثية الجديدة، وكذلك تدشين كثير من السياسات والمؤسسات التنموية الضخمة وفق «رؤية 2030»، والحرب على الفساد، ورفض التشدد وجموده العائق لحركة التقدم والوطن. ومن شأن مكافحة التطرف والإرهاب، دفع الوطن نحو مرحلة جديدة، تتكامل فيه مع ما سبق من جهود كبيرة كذلك، لا تزال مستمرة مثمرة، مثل لجان المناصحة وحملة السكينة ونقد الخطاب المتطرف وتفكيك أصوله، شرعياً وفكرياً.
ويذكر أن السعودية تشكل المفردة الأكثر تكراراً في كل خطابات أسامة بن لادن، وتكشف وثائقه التي كشف عنها أخيراً في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي أن أمنيته وهاجسه الأكبر كان وصول زلزال الانتفاضات والتظاهرات سنة 2011 الذي نشط عربياً إليها، كما تمثل السعودية العدو الأول في أدبيات جماعات الإرهاب عموماً، من «القاعدة» حتى «داعش»، ونذكر أن أول عمليات «القاعدة» كانت موجهة للمملكة في تسعينات القرن الماضي، كما أصر زعيم القاعدة الراحل أسامة بن لادن على تأسيس أول فرع للقاعدة خارج أفغانستان على أراضيها عام 2003، ودفعه دون استعداد عناصره - كما يعترف بعضهم - لتنفيذ أول عملياته بها في مايو (أيار) سنة 2003، حتى قتل مؤسسه حينها (يوسف العييري).
وقد شهدت السعودية تحديداً عشرات العمليات والمحاولات الإرهابية التي استهدفت أراضيها ومواطنيها واستقرارها، فما بين مارس (آذار) عام 2003 و2011، بلغت عمليات الإرهاب ضد المملكة 98 عملية إرهابية تقريباً، راح ضحيتها أكثر من 90 شخصاً من المدنيين، وأصيب أكثر من 608 آخرين، وقتل فيها نحو 65 شخصاً من رجال الأمن، وأصيب أكثر من 360 منهم. وما بين 2012 و2017، شهدت المملكة ما يقرب من عملية ومحاولة إرهابية لخلايا «داعش»، استهدفت مقدساتها بالخصوص، وراح ضحيتها عشرات القتلى والمصابين.

حرب الأفكار

لا تتمدد جماعات ومجموعات التطرف إلا في الفراغات والفجوات التي قد يتركها الآخرون. فإذا غاب الاعتدال والتسامح حضر التطرف والغلو، وإذا غاب التسامح حضر التعصب والتشدد، وإذا تراجعت الدولة والقدرة الأمنية وجدت بؤر توحشه أو ملاذاته الآمنة.
إن التمكين للاعتدال والإسلام المعتدل هو السبيل الأول، كما أنه الدفع والصد والهجوم على أفكار التطرف والإرهاب وجماعاته. والفروق بين التشدد والتطرف والتطرف العنيف هي فروق درجات ومحطات طريق تلتقي أحياناً، وليست طرقاً مختلفة.
وكما أن للدولة سياساتها وتصوراتها الشاملة، تطرح هذه الجماعات الشمولية نفسها بديلاً، لها تصوراتها وسياساتها كذلك، توظيفاً لكل ما هو متاح من شوارد التعصب والكراهية، أو أسانيد التشدد والعنف، بغض النظر عن سياقاتها وتاريخيتها، أو عن ما يضادها ويدحضها من أسانيد أخرى، أو مبررات وروايات وحكايات مؤامرة الآخرين، التي تصل لحد السحرية والهذيان أحياناً، تبريراً لاستهدافه واستعداء الأمة عليه، عدواً قريباً كان أو بعيداً.
ويعيش التطرف غيبة زمانية وتاريخية، ولكنه رغم ذلك يدعي شمولية طرحه، وقدرته على حل جميع المشكلات، مالكاً دعوى الاكتفاء النظري، والاحتباس عن كل قيمة إنسانية تصير عنده مؤدلجة، فالحق والعدل والمساواة والانفتاح والحوار لا تحضر عنده إلا لصالحه، مسيسة بسياسته محبوسة في سجنه.
كذلك، ورغم ضجيج المتطرفين الهائل الزاعق، فإنه ليس إلا هامشاً معزولاً عن الاعتدال السائد وغالبيته، ولكن خطورة التطرف أنه يحاول قسراً وعنفاً تطويع الأغلبية له، وسرقة المجتمع والسلطة لصالحه، عبر شعاراته العاطفية الجاذبة، وعبر مقولاته الآيديولوجية المؤولة والمؤثرة، لكنه تاريخاً وواقعاً يبقى هامشاً لا يلبس أن ينهزم بعد ما يبدو منه من انتصار.
لكن يظل الجانب الآيديولوجي والمرجعي، وكذلك الشعاراتي، في التطرف بوجوهه المختلفة، هو الأكثر خطورة من سواه، وتظل مواجهته أولوية ضرورية في جهود مكافحة التطرف، فالإرهابي لا يعرف مرجعية غير مرجعيته، ولا مناهج غير ما أحله له شيوخه، ويبقى كل جهد للتمكين للتعايش والاعتدال يصب كذلك في مواجهته ومكافحته.
من هنا، اتسعت سياسات التمكين للاعتدال وتعزيز الوسطية لمجالات كثيرة في العقد الأخير، من التشريعات وتجريم التكفير والتخوين، إلى تصنيف الجماعات الإرهابية، والانتباه لخطر توظيف الإرهابيين للإنترنت ومنصاته، والاشتباك العملي معه عبر ضرب معاقله، وتجفيف منابعه وروافده، وكشف المتورطين فيه دعماً أو تحريضاً، وحجب منصاته الترويجية، وحبسه في جيتوهات عزلته، والحرب العسكرية والأمنية لعناصره ومجموعاته، والتركيز على السياقات الاجتماعية والحضارية، كالتنمية وحل مشكلات البطالة، والسياقات الإبداعية ومحاربة الإرهاب بالفن، كما أعلنت حكومة الإمارات في 11 نوفمبر الحالي 2017، من أنه وسيلة من وسائل مكافحة التطرف بالفن، وإنشاء عدد كبير من مراكز البحث وبيوت الخبرة واللجان والحملات والبرامج المتخصصة في مكافحة الإرهاب من زوايا مختلفة، ودعوة مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب في 9 نوفمبر الحالي 2017 إلى ترويج صور ضحايا الإرهاب وقصصهم المأساوية التي تم توثيق بعضها، كوسيلة فاعلة في مكافحة التطرف. ولا شك أن الإلحاح على التنمية والتمكين للمؤسسات، والفصل بين السلطات، والحرب على الفساد، والجاذبية الأمنية التي تعتمد على تطوير وأخلاقية الأجهزة ونزاهتها، والمشاركة المجتمعية في خدمتها عبر فكرة الأمن الاجتماعي والشبكات الاجتماعية الآمنة، كلها إجراءات مهمة في التمكين للاعتدال.
ولكن يظل الجانب الفكري والآيديولوجي هو الأكثر أهمية وخطورة، فالمطويات والأدبيات الإرهابية تتلبس قناع الدين الصحيح، وتقنع المتدينين غير المؤهلين، وأغلبهم حسبما أثبتت كثير من الدراسات على غير معرفة رصينة بالقواعد الأساسية للإسلام، وتم استغلال عواطفهم من قبل المتطرفين دائماً. كما أن الجانب الآيديولوجي، فكراً وشعاراً، يمثل حوامل ومضامين وسائط التجنيد والترويج للتطرف، لذا كان مهماً الاشتباك النقدي الحي مع المتعاطفين مع التطرف، وكذلك تحصين فئات معينة مبكراً من أخطاره، بدءاً من الطلبة والأطفال في المدارس حتى المتحولين الجدد للإسلام، خصوصاً أن هؤلاء الأخيرين مثلوا 25 في المائة من المقاتلين الأجانب في «داعش»، كما أنه من المهم فض الاشتباك بين المفاهيم عند جماعات التطرف، الذي يخلطها ويصورها على غير حقيقتها، فيتم الخلط بين الاجتهادي التاريخي والعقدي وبين الفتوى والحكم، وبين الديني والدعوى والسياسي، وبين القانون والطاغوت، وغير هذا من مسائل ومشكلات.
- شعارات الكراهية وصراعات الذات
واستمرت جماعات التطرف والتطرف العنيف، سنية وشيعية على السواء، تستثمر في ترسانة من الشعارات الحاسمة في مواجهة آخريها، فكل المختلفين «خونة»، كما كتب أبو بكر ناجي يوماً، وكل الديار - بما فيها الحرمان الشريفان - «ديار كفر»، كما كتب أبو ميسرة الغريب، وكل الأنظمة «طاغوت» وعمالة، كما يردد الجهاديون، سنة وشيعة على السواء، كما أن الديمقراطية كفر ودين لا يصح الاعتقاد به، كما يكتبون، أو مقيدة بإرادة الولي الفقيه، كما هو الشأن في النظام الإيراني. وتبدو المقاومة والممانعة في مقابل الموالاة والعمالة الناتجة من الآخرين، رغم أنهم لا يبالون متى اقتضت المصلحة التعاون مع الأعداء والتحالف معهم، بغية تحقيق أهدافهم الداخلية، وضد أشقائهم ومن يتحدثون باسم مقاومتهم، كما هو الشأن مع «حزب الله» اللبناني، أو شهدناه في الاتفاق النووي الإيراني مع إدارة أوباما، أو في التقارب مع «القاعدة» التي أثبتتها وثائق بن لادن مجدداً، بعد تقرير لجنة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول).
من هنا، نرى أن سياسات الهوية المعتدلة، غير المنتفخة وغير العدائية، وتمكين الوعي بفكرة الوطن والمواطنة، تمثل مدخلاً مهماً من مداخل الاعتدال في مكافحة التطرف، حيث يستخدم الأخير دائماً أزمات الهوية لدى المهمشين ولدى الأقليات والجاليات المسلمة في الغرب وفي بعض الدول لتوظيفها في حراكه العنيف ضد أعدائها.
كما أن التعاطي مع التطرف كذهنية واحدة تدرك تنوعاتها، حيث تحضر بين ممثلي التطرف وجماعاته تشابهات عابرة للطوائف والأديان، هو الأمر المهم الذي يكشف عمق التطرف الكامن ويعريه، فالتشابهات بين التطرف الشيعي والسني في المجال الإسلامي كبيرة ومتماهية، رغم كل ما يعلنه كلاهما من عداء متبادل للآخر، ولكن تجمعهم الأهداف، كما تجمعهم الممارسة الخطابية والشعارات، ولو اتسعنا لوجدناه في كثير من النماذج الشبيهة في الأديان الأخرى وفي التاريخ، التي تعتمد على احتكار الحقيقة وكراهية الآخرين، ورواية المؤامرة المستمرة ضدهم ومنهم. ولكن تظل الإشكالية الأكبر في التمكين للاعتدال في الحاضر الثقافي والاجتماعي الإسلامي هي القدرة على تحرير الإسلام من فكرة الصراع والإمامة التي كانت الفارق بين فرقه في القديم، وما زالت تمثل رافد كل جماعات الحاكمية وولاية الفقيه المعاصرة، رغم أنها مسألة تاريخية لم تكن إلا بعد انقطاع الوحي، وهو الجهد الشجاع الجسور الذي لامسه بعض المفكرين والفقهاء في التراث، ولكن تستحي من ملامسته بعض المؤسسات الدينية في عصرنا للأسف.


مقالات ذات صلة

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».