«الشرق الأوسط» داخل أوكار المتطرفين في ليبيا (2 من 5): قصة «سيدي خريبيش»

آخر مربع سكني يتحصن فيه مسلحو بنغازي

عناصر من الجيش الليبي الوطني يتسلقون ركام بناء مهدم بفعل الاشتباكات مع المسلحين في خريبيش أحد أحياء بنغازي (رويترز)
عناصر من الجيش الليبي الوطني يتسلقون ركام بناء مهدم بفعل الاشتباكات مع المسلحين في خريبيش أحد أحياء بنغازي (رويترز)
TT

«الشرق الأوسط» داخل أوكار المتطرفين في ليبيا (2 من 5): قصة «سيدي خريبيش»

عناصر من الجيش الليبي الوطني يتسلقون ركام بناء مهدم بفعل الاشتباكات مع المسلحين في خريبيش أحد أحياء بنغازي (رويترز)
عناصر من الجيش الليبي الوطني يتسلقون ركام بناء مهدم بفعل الاشتباكات مع المسلحين في خريبيش أحد أحياء بنغازي (رويترز)

أعلن الجيش الليبي الذي يقوده المشير خليفة حفتر عن تحرير مدينة بنغازي من المتطرفين والتنظيمات الإرهابية، في الصيف الماضي، لكن ما زال هناك مربع سكني يسمى «سيدي خريبيش»، قبالة البحر، يتحصن فيه مسلحون متشددون يقدّر عددهم بما بين 90 عنصراً، وفق مصادر قريبة من الجيش، و150 عنصراً بحسب مصادر على صلة بالمحاصرين.
الحلقة الثانية من سلسلة التحقيقات التي تقدمها «الشرق الأوسط» عن أوكار المتطرفين في ليبيا، تسلط الضوء على هذا المربع السكني الذي انقلب رأساً على عقب، بمعنى الكلمة. ولكي تصل إلى نقطة المواجهة بين الجيش و«سيدي خريبيش»، فلا بد أن تمر بشوارع حفرتها جنازير الدبابات، وبمئات المباني المهدمة، من بينها مبنى الميناء البحري، ومبنى المحكمة المدمر، الذي كان يتظاهر أمامه الليبيون ضمن موجة ما يعرف بـ«الربيع العربي» في عام 2011.
عند نقطة معينة، من كورنيش بنغازي، وبالتحديد من بعد مبنى «الزاوية الرفاعية» التاريخي، الذي هدمته الحرب بين الجيش والمسلحين، يعلو صوت الرصاص والقذائف الصاروخية. هنا لا بد أن تتوقف. هذه «سيدي خريبيش» من ناحية البحر. أما المنطقة من الناحية الجنوبية، فلا يمكن الاقتراب منها إلا بعد اجتياز شوارع حي الصابري المزروعة بالمتفجرات، والتي تغص بعمارات متداعية وخالية من السكان.
لقد تحولت هذه المنطقة المعروفة باسم بنغازي القديمة إلى أطلال، بعد أن كانت فيما مضى تحمل عبق التاريخ القديم، وتعج بالحياة والمناقشات الثقافية وبالمشاة والمتسوقين.
ويقول مرافق من الجيش كان مع «الشرق الأوسط» في أقرب نقطة من «سيدي خريبيش»: «مركز المسلحين الرئيسي في الداخل يقع في الفندق البلدي. يقع الفندق شمال حي الصابري. نحن نرصدهم؛ لكن دخول المنطقة في الوقت الحالي صعب. نستطيع، بلا شك، أن نصل إلى هناك، ونستعيد الموقع؛ لكن هذا سيؤدي إلى خسائر كبيرة في الجيش. فالمحاصرون في الداخل قاموا بتفخيخ محيط سيدي خريبيش. فخخوا كل شيء فيه».
ويصف الجيش الليبي المحاصرين بأنهم «دواعش»؛ لكن أحد الوسطاء الذين يثق فيهم مسلحو «سيدي خريبيش»، وما زال على تواصل معهم، يقول في المقابل إن الموجودين في هذه المنطقة ينتمون إلى ما يعرف باسم «درع ليبيا 1» الذي صدر قرار بتشكيله قبل ثلاث سنوات من المؤتمر الوطني العام (البرلمان السابق)، للدفاع عن بنغازي. ويضيف أن بعض أمراء الحرب، من جماعة «الإخوان» ومن «الجماعة المقاتلة»، يستفيدون من الضجة الدولية حول هؤلاء المحاصرين و«من مصلحتهم أن يظلوا تحت الحصار، رغم البكاء عليهم أمام شاشات التلفزيون».
وبخلاف التفخيخ، حال دون دخول الجيش إلى سيدي خريبيش، أنها منطقة ذات أزقة ضيقة وشوارعها صغيرة. ويقول مسؤول عسكري: «الدواعش حفروا فيها أنفاقاً تحت الأرض. الأنفاق تُفتح على البيوت من أسفل، وفيها مراصد يتمركز فيها قناصون. ثم إن كل من فيها من القناصة المحترفين. هم محاصرون هنا منذ إعلان تحرير بنغازي في يوليو (تموز) الماضي. ويعتمدون في الأكل والشرب على المنتجات المنتهية صلاحيتها التي كانت مخزنة في مخازن سوق العرب في الصابري. من السهل أن ندكهم بالطيران؛ لكن نريد أن نحصل عليهم أحياء».
ويقول مسؤول في الجيش إنه في حال القبض على المحاصرين أحياء، فيمكن الحصول منهم على اعترافات مهمة بشأن علاقة بعض الأطراف المحلية والدولية بإثارة الفوضى والخراب في بنغازي؛ خاصة بعد أن تمكن الجيش من فك شفرات كثيرة عن هذه العلاقات، من المقار التي كان يدير منها المتطرفون العمليات في باقي ضواحي المدينة المحررة.
بينما يقول الوسيط الذي له علاقة بالمحاصرين، إن «من ورطهم في الاستمرار في الحرب في بنغازي، لا يريد خروجهم أحياء من سيدي خريبيش؛ لأنهم إذا خرجوا أحياء فسوف يفضحون دور من ورطوهم في الاقتتال الذي استمر منذ عام 2014 في عموم ليبيا، وليس في هذه المدينة فقط».
وعما إذا كان يوجد عسكريون بين المحاصرين، قال: «ربما اثنان أو ثلاثة. الباقون كلهم مدنيون من (درع ليبيا 1)»، مشيراً إلى تفاصيل تخص محاولات لوسطاء دوليين ومحليين لإخراج المحاصرين عبر البحر، جرى إفشالها عن «طريق قادة من جماعة (الإخوان) ومن (الجماعة المقاتلة)... رغم أن هاتين الجماعتين تبثان دعاية لا تتوقف ضد الجيش؛ بحجة أنه يحاصر سيدي خريبيش. أعتقد أن هناك من يستفيد من استمرار هذه المعضلة».
وتمكنت القوات البحرية، منذ فبراير (شباط) الماضي، من فتح ميناء بنغازي، والسيطرة على طريق البحر، وبالتالي «توقف المدد الذي كان يصل إلى سيدي خريبيش من طريق البحر، من جهة سرت ومصراتة»، بحسب ما يقول المسؤول العسكري. ويضيف: «المحاصرون في سيدي خريبيش بقايا للدواعش. وحاول قادة للمتطرفين في طرابلس ومصراتة إقناع المجتمع الدولي بأنهم عائلات من المدنيين يجب فك الحصار عنهم، وتأمين خروجهم عبر البحر. في الحقيقة لم يعد يرغب فيهم أحد. ونحن نريدهم أحياء. نريدهم أن يستسلموا لكي يقولوا لنا ما لديهم».
وأياً كان الأمر، فإن منطقة «سيدي خريبيش» تتوسط مواقع تمكن الجيش الليبي من أن يطرد منها المسلحين الذين كانوا يسيطرون عليها في الفترة الأخيرة، ومنها منطقة الصابري، وسوق الحوت التي يقع فيها ميناء بنغازي.
وفي أكثر من موقع توجد شرائط ملونة على طول الأرصفة، وحول مبان خالية جدرانها مجوفة بفعل انفجار القذائف، تحذّر من اجتيازها. وجود الشريط ذي اللونين الأحمر والأبيض يعني أن المناطق التي وراءه خطيرة. ومع ذلك تحاول عائلات عدة العودة، بعيداً عن أعين الجيش، للاطمئنان على ما تبقى من ممتلكاتها.
ومن سوء حظ واحدة من هذه العائلات أن شقتها السكنية كانت ضمن الطابق الثاني في عمارة في شارع الشويخات المجاور لـ«سيدي خريبيش». وحين تعجلت العودة إلى هناك، من وراء ظهر الجيش، فوجئت بأن المتطرفين كانوا قد استولوا على الطابق كله، وحولوه إلى واحد من مراكزهم الرئيسية؛ لكن حين انسحبوا فخخوا الموقع، وهكذا قُتل أفراد هذه العائلة، بينما تحطم ما تبقى من جدران.

«احذر منطقة ألغام»
يقول ماجد، أحد أصحاب الشقق في هذه العمارة المكونة من أربعة طوابق، والتي فيها 18 شقة، إن هذه العائلة لم تلتزم بتحذيرات عدم الدخول، وتجاهلت الأشرطة الملونة التي وضعها الجيش. ويوجد على واجهة العمارة كتابات باللون الأسود تقول: «احذر منطقة ألغام»، مثل مئات العمارات الأخرى.
ويضيف ماجد: «هذه العمارة تقع على الحد الذي كان يفصل بين قوات المتطرفين وقوات الجيش في المدينة. ويوجد في مقابل العمارة مركز (زهرة بنغازي التجاري). وهو مدمر حالياً. ومنه أطلقت قوات (داعش) قذيفة هاون أدت لمقتل شقيقي، واسمه درويش».
وتطوع ماجد مع قوات الجيش، ثم تدرب وانضم كجندي نظامي، وأصبح له رقم عسكري. ويتذكر تلك الأيام قائلاً: «كنت أعيش مع الجيش. التموين من الجيش، والذخيرة من الجيش. كنا متطوعين مع الجيش؛ أي مع جماعة القوات البحرية هنا. احتل الدواعش بيتي بعد أن دخلوه، وحين رجعت وجدته مدمراً بشكل كامل. من الخارج تعتقد أنه لا يوجد فيه أي أضرار تذكر؛ لكن من الداخل دمار تام. كان في العمارة ألغام، وما زال فيها ألغام. واستشهد فيها اثنان من جيراني حين جاءا لمعاينة بيتهما بعد خروج الدواعش منه. رب أسرة وشاب».
وبينما هو يقول ذلك، كانت طلقات الرصاص تصفر في الهواء قادمة من ناحية «سيدي خريبيش». وفي شارع آخر تمكن الجيش من تطهير مبانيه من الألغام والمفخخات، دخل عمال مرفق الكهرباء لتوصيل التيار إلى البيوت، وإصلاح المحطات المعطوبة. ويقول عامل كهرباء بجوار محطة المعرض الصناعي: «بدأنا العمل قبل أن تنتهي الاشتباكات في الجوار. أي نقطة يحررها الجيش، ندخل وراءه من أجل إعادة تشغيل الكهرباء فيها».
ويضيف أن «العمل يستمر أحياناً حتى والخطر ماثل للعيان، من أجل إرسال رسالة إلى المخربين بأنهم مهما دمروا من محطات كهرباء ومحطات مياه، فإن يد الإصلاح وراءهم. وفي يوم 15 يوليو من هذا العام، استشهد زميلنا ورفيقنا في المرفق، خالد حسن، في داخل محطة الكهرباء المجاورة لسيدي خريبيش. انفجر فيه لغم في محطة الشويخات، بعد خروج الدواعش من المنطقة. لقد قاموا بتلغيم أكثر من محطة كهرباء».
وتبدو محطة المعرض الصناعي للكهرباء متضررة من القذائف، وهي أصلاً متهالكة لأنها قديمة؛ لكنها كانت تعمل. ويقول مسؤول بالمرفق: «سيتم تجديدها بالكامل ضمن خطة لتجديد مرافق بنغازي». وفي الجانب الآخر من الشارع كانت مجموعة من عمال الكهرباء في ملابسهم الزرقاء يواصلون العمل، وهم يحفرون في الأرض لإصلاح الكابلات التي جرى تفجيرها على أيدي المتطرفين.
ورغم ضراوة المعارك التي جرت هنا، فإن معظم السكان والعمال يستمدون روح التفاؤل من سيّدة مسنة تدعى «الحاجة خديجة»؛ لأنها لم تترك بيتها رغم ضربات الصواريخ والتفجيرات التي كانت تهز الأرض وتحيل العمارات لأنقاض.
ويقول أحد العمال وقد بدت على وجهه ابتسامة من التحدي والإصرار: «نحن سعداء بمن يعودون إلى بيوتهم في المناطق التي تم تطهيرها من المفخخات. ومن يعود نهرع لتوصيل الكهرباء له. نحن لا ننسى الحاجَّة خديجة التي ظلت تقيم في بيتها هنا رغم الحرب والموت. وبعد أن هدأت حدة الاقتتال في هذه المنطقة، وبعد أن جئنا لترميم كوابل الكهرباء، أصبحت الحاجَّة تتردد علينا لتشجيعنا. تأتي لنا بالفطور والغداء، ولم تكن قد تخلت عن بيتها منذ وصول الدواعش، حتى هروبهم».
ويحيط بهذه المنطقة المدمرة مبان متداعية أيضاً بفعل المواجهات الشرسة بين الجيش والتنظيمات المتطرفة. ومنها مبنى «الإدارة العامة للخطوط الليبية»، و«دار الكتب الوطنية» و«عمارة الضمان»، حيث كانت هذه العمارة ذات الشرفات المثقوبة، مرصداً للإرهابيين والدواعش. وبجوارها عمارات سكنية قد تهاوت أعمدتها الخرسانية والتوت شرفاتها، ولم تعد تصلح إلا للتصوير.
ويقع منزل «الحاجة خديجة» بجوار مبنى «مشروع جوهرة بنغازي»، على أحد خطوط المواجهة بين الجيش و«الدواعش». وكان المبنى يكتسي بالزجاج الأزرق، إلا أن كل هذا تهدم وتبعثر وتحوّل إلى لون بني مختلط بلون الحرائق الأسود. ويبدو أن الحاجَّة قررت اليوم أخذ استراحة بعد أن ساد الهدوء المنطقة إلى حد ما. فحين توجهت «الشرق الأوسط» للمنزل لم تكن موجودة فيه؛ حيث كانت في زيارة لأقارب لها في الضاحية الخلفية، كما يقول أحد جيرانها العائد حديثاً إلى بيته، وهو حميد الفيتوري، ميكانيكي السيارات، الذي كان يتردد على المنطقة أثناء الاقتتال بين حين وآخر، ويعد شاهداً على الصمود الأسطوري للحاجَّة خديجة.
ويقول الفيتوري: «كان الضرب حولنا وفي كل مكان؛ لكن ربنا كريم ورحمته واسعة. قاومنا من أجل البقاء. لم نكن نريد أن نترك مكاننا. وبارك الله في الشباب والقوة المساندة والجيش. وقفوا وقفة لا تقدر بثمن. الكهرباء كانت تقطع كثيراً نظراً للمشكلات. وتعطلت الكابينة، وكان خلفنا محلات للمواد الغذائية ندبر منها احتياجاتنا».
وعن الدمار الكبير المنتشر حول منزله ومنزل جارته، قال: «نحن نرى أن الرجال الذين ضحّوا بحياتهم لن نستطيع أن نعوضهم؛ لكن المباني والعمارات يمكن أن نعيدها بأفضل مما كانت عليه. جماعة الكهرباء ما شاء الله عليهم. الأخ الطيب (موظف في مرفق الكهرباء) لم يتركنا أبداً، ووصَّل لنا تيار النور».
ويعتقد سكان أن «سيدي خريبيش» من الصالحين، وقد وفدَ من المغرب العربي، قبل مئات السنين، واستقر على شاطئ البحر، قرب منارة بنغازي، حيث دفن هناك.
وتأسست المدينة القديمة في هذه المنطقة التي نمت وازدهرت عبر العصور التركية واليونانية والإيطالية. وعزز مقر قصر الملك فيها، في خمسينات القرن الماضي، من مكانتها، كما حاول العقيد معمر القذافي استرضاء الخليط الحضري الذي كان يعيش فيها، من كُتّاب وفنانين وشعراء ورسامين؛ إلى أن انطلقت منها شرارة الانتفاضة ضد حكمه، من أمام مبنى المحكمة القديمة، في عام 2011؛ حيث تعرضت المنطقة برمتها لدمار كبير استمر حتى الآن.
وفي يوم من الأيام، وبينما كانت الحرب مستعرة بين الجيش والدواعش، جاء الفيتوري إلى بيته، ووجد خطوط الكهرباء مقطوعة، فحاول أن يصلحها بنفسه؛ لكنه كاد أن يفقد حياته حين استهدفه قناصة من المتطرفين. يقول: «في أحد الأيام استهدفني القناصة وقفزت من أعلى البيت، حين كنت أحاول أن أشد سلك الكهرباء. وقام الجيش بالتغطية عليَّ إلى أن قفزت. كان الدواعش يعتقدون أنني عسكري. الحاجَّة خديجة، زوجها الحاج عبد الله، قعد فترة في مصر، ولديه ابنته تحضِّر الدكتوراه، وهو مرافق لها هناك، أما هي فقد رفضت الخروج، ومكثت هنا هي وأولادها، منذ بداية الأحداث إلى آخرها».
وكان المركز الرئيسي لـ«داعش»، في العمارة ذات الـ18 شقة، على بعد عدة أمتار من بيت الحاجة خديجة. ويقول أحد المحققين إن المركز يحتوي على أدلة تثبت تورط قادة للميليشيات وزعماء سياسيين من طرابلس ومصراتة، ومن دول خارجية، في إمداد المتطرفين في بنغازي بكميات ضخمة من الأسلحة والأموال، طوال العامين الماضيين، وذلك بعد أن أصبح يطلق على تحالف المحاربين في المدينة اسم «مجلس شورى ثوار بنغازي».
ومن بين هذه الأدلة نص محضر «اجتماع تكميلي» عقد في قاعة فندق «ريكسوس» في طرابلس، وشارك فيه قادة معروفون بأسمائهم. ويقول المحقق: «عثرنا على هذا المحضر وأدلة أخرى في حاسوب أحد الدواعش في بنغازي».
واطلعت «الشرق الأوسط» على نص المحضر. وجاء فيه قرار من قيادات في العاصمة بتعضيد قوات المتطرفين في بنغازي، وتخفيف الضغط عنهم بفتح جبهة ضد الجيش الذي يقوده حفتر، في منطقة الموانئ النفطية، وتأسيس محفظة استثمارية في إحدى الدول الداعمة لـ«مجلس شورى ثوار بنغازي» للإنفاق منها على عمليات الجماعات المتطرفة في بنغازي.
وفي تلك الأثناء كان تنظيم «شورى بنغازي» يعمل على تأمين آخر حصونه في محيط «سيدي خريبيش» انتظاراً للمدد من غرب البلاد. وكان هذا الحصن في شارع الشويخات في مواجهة محور الجيش، حيث يسعى التنظيم لعرقلة تقدم الجنود، بينما كان منزل الحاجة خديجة يقع في المنتصف. وقام التنظيم المتطرف بتعطيل مضخة المجاري، ما أدى إلى ارتفاع منسوب المياه في الشوارع الواقعة ناحية تمركز الجيش، إلى مستوى لا يمكن معه فتح باب السيارة «إذا فتحته دخلت عليك مياه المجاري»، كما يقول الفيتوري.
وفي واحدة من العمليات «البطولية» التي أصبح يتفاخر بها أبناء المنطقة، أنه، وبعد أن أصبحت أيدي الشبان مشغولة بحمل السلاح، تقدمت مجموعة من المتطوعين من كبار السن، ودخلوا إلى مضخة الصرف الصحي التي أعطبها الدواعش، وأمضوا نهاراً بأكمله وسط الروائح الكريهة للمياه التي كانت تصل إلى صدورهم، وهم يحاولون إصلاح المضخة، بينما القذائف تنفجر حول رؤوسهم.
ويقول الفيتوري، وهو يقف أمام بيته المثقوب في عدة مواقع بفعل الضربات الصاروخية: «تمكنت مجموعة من كبار السن، كمتطوعين، من إعادة تشغيل المضخة بالفعل. وصفقنا لهم دون أن نهاب الموت. منهم الحاج نجيب عبد الجواد، وفرج الفرجاني، وخالد الشلماني، وآخرون».
وفر غالبية المقاتلين أمام تقدم الجيش إلى خارج بنغازي، عبر طرق برية تقع في غرب المدينة، ومنها توجهوا إلى غرب البلاد، وانضموا إلى ما أصبح يعرف بـ«سرايا الدفاع عن بنغازي»، بقيادة العميد مصطفى الشركسي، الذي ما زال يعد نفسه آمراً لمنطقة بنغازي العسكرية، وفقاً لقرار من المؤتمر الوطني أو البرلمان السابق، بحسب ما قاله الشركسي نفسه. بينما تقهقرت عناصر أخرى إلى الخلف، إلى أن علقت في داخل «سيدي خريبيش».
وحين تحاول الوصول إلى «سيدي خريبيش» فلا بد أن تسلك طريق الكورنيش من ناحية الغرب. ومن هناك تمر على المباني العتيقة التي ترتبط بأحداث سياسية كبرى في تاريخ ليبيا، إلا أن كل هذه المباني أصبحت أكواماً من التراب والحجارة. ومنها مقر متحف بنغازي، ومقر «قصر المنار» الذي ألقى الملك إدريس السنوسي، من شرفته، خطاب الاستقلال في مطلع خمسينات القرن الماضي. وإذاعة بنغازي القديمة التي أعلن منها القذافي «بيان ثورة 1969». وطالت الأضرار أيضاً مبنى الاتحاد الاشتراكي الذي كان كنيسة فيما مضى، ومبنى شركة الموانئ، ومقر الجوازات، وإدارة الجمارك، وغيرها.


مقالات ذات صلة

مسؤولون يرفضون التعليق على الغارة الأميركية التي قتلت عميلاً سرياً سورياً

المشرق العربي آلية تزيل ما بقي من مركبة عسكرية إسرائيلية أُحرقت في بلدة بيت جن السورية في 28 نوفمبر 2025 (أ.ف.ب)

مسؤولون يرفضون التعليق على الغارة الأميركية التي قتلت عميلاً سرياً سورياً

رفض ممثلو وزارتي الدفاع والداخلية السوريتين، ومبعوث الولايات المتحدة إلى سوريا التعليق على ما تردد من أنباء حول مقتل خالد المسعود الذي كان يعمل ضد «داعش».

أفريقيا الكابتن إبراهيم تراوري خلال ترؤسه اجتماع الحكومة أمس الخميس (وكالة أنباء بوركينا فاسو)

بوركينا فاسو تعيد عقوبة الإعدام لمواجهة توسع الإرهاب

قررت السلطات العسكرية في بوركينا فاسو، الخميس، إعادة العمل بعقوبة الإعدام التي أُلغيت عام 2018، خصوصاً فيما يتعلق بتهمة الإرهاب.

الشيخ محمد (نواكشوط)
المشرق العربي من عملية ضد «داعش» في ريف إدلب (وزارة الداخلية السورية)

السلطات السورية تحارب «داعش» بقاعدة بيانات وخبرة استخباراتية سابقة

تواصل الحكومة في دمشق حملتها ضد تنظيم «داعش»، التي عملت عليها قبل عملية التحرير في شمال غربي سوريا، مدفوعة حالياً بالعزم على تحقيق الاستقرار طريقاً للتنمية.

سعاد جروس (دمشق)
المشرق العربي عناصر من قوات الأمن السورية (أ.ف.ب)

الداخلية السورية: القبض على متزعم «ميليشيا الدفاع الوطني» في حلب

أعلنت وزارة الداخلية السورية، اليوم الاثنين، القبض على متزعم ما كان يعرف بـ«ميليشيا الدفاع الوطني في محافظة حلب خلال حكم النظام السابق».

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي طائرة تتبع القيادة المركزية الأميركية تتزود بالوقود في الجو خلال التدريبات (القيادة المركزية الأميركية عبر منصة إكس)

الجيش الأميركي: نفذنا مع سوريا غارات جوية على مخازن أسلحة لـ«داعش»

قال الجيش الأميركي، الأحد، إنه دمر الأسبوع الماضي 15 موقعاً تضم مخازن أسلحة تابعة لتنظيم «داعش» في جنوب سوريا.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
TT

«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

فوجئ الغزيون منذ أشهر قليلة، بإعلان على وسائل التواصل الاجتماعي لمؤسسة غامضة اسمها «المجد أوروبا»، تحفزهم على الهجرة وتعدهم بالوصول إلى أوروبا.

ورغم كثير من الشكوك والتساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، لم يتوانَ البعض عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم. وبالفعل، سيّرت المؤسسة 3 رحلات جوية لنحو 300 فلسطيني خرجوا من القطاع في ظروف استثنائية ورحلة يكتنفها الكتمان والسرية. لكن الوجهة لم تكن بلدان أوروبا الموعودة؛ وإنما جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا.

«الشرق الأوسط» تحدثت إلى إحدى المسافرات على متن تلك الرحلات، وتعقبت تفاصيل تسجيل الأسماء والمبالغ المدفوعة، ورصدت انطلاق الركاب بحافلات صغيرة من دير البلح، تحميها مسيّرات حتى لحظة الوصول إلى مطار رامون الإسرائيلي، ومن هناك تقلع الطائرات نحو نيروبي، ثم جوهانسبرغ، لتترك المسافرين أمام مصير مجهول.

وبين اتهامات دولية بأن المؤسسة تنفذ خطة إسرائيلية - أميركية لإفراغ غزة من سكانها، ورغبة المدنيين بالفرار من جحيم الحرب والجوع، تستمر الإعلانات على وسائل التواصل، ويستمر كثيرون في محاولات النجاة بأي ثمن.


رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

TT

رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)
طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)

لأشهر عديدة استمرت جنين (ب)، من سكان دير البلح وسط قطاع غزة، تتواصل مع قائمين على إعلان ممول عبر «السوشيال ميديا»، يهدف لاستقطاب الغزيين للهجرة إلى الخارج. وعمد الإعلان إلى تحديد الوجهة «إلى أوروبا» لتحفيزهم بشكل أكبر، باستغلال الحرب الدامية في القطاع.

الإعلان الممول عبر «فيسبوك» حمل اسم مؤسسة «المجد أوروبا»، التي يسمع بها الغزيون داخل القطاع للمرة الأولى، ما أثار الكثير من التساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، إلا أن البعض لم يتوانَ عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم، أو بصيص أمل يمنحهم حياة مختلفة بعيداً عن أصوات القصف وأهواله التي لم تتوقف على مدار عامين.

 

رحلة محفوفة بالكتمان

لم يكن الوصول إلى أحد الغزيين الذين استقلوا تلك الرحلات بالأمر اليسير؛ ففضلاً عن السرية المطبقة التي أحاطت وتحيط بخروجهم من القطاع وسط ظروف أمنية وإنسانية سيئة للغاية، فإن ظروفهم الحالية وأوضاعهم القانونية لم تتثبت بعدُ في البلدان التي وصلوا إليها. ومن قريب إلى آخر، وبشبكة ثقة عبر أفراد الأسرة المقربين، تواصلنا عبر «واتساب» مع جنين التي تحدثت إلينا بعد تردد كثير، وفضّلت عدم ذكر هويتها كاملة، خشية الملاحقة من الدولة الموجودة فيها حالياً.

صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

وتقول جنين لـ«الشرق الأوسط» إنها للوهلة الأولى كانت مترددة جداً في التواصل مع الرقم الذي وضعته المؤسسة في إعلانها، ثم قررت المجازفة والتواصل، وبعد التأكد من أنها تتحدث مع أشخاص يستعملون أرقاماً إسرائيلية، قررت وضع اسمها وزوجها وثلاثة من أبنائها، ضمن من قرروا الهجرة من غزة، بحثاً عن حياة آمنة.

تشير جنين إلى أنها كانت تخشى أن تقع ضحية عملية نصب كما جرى مع الكثير من الغزيين خلال وقبيل الحرب، إلا أنها تلقت تطمينات ممن كانوا يتحدثون معها بأن دفع المال بالنسبة لهم يأتي كـ«خطوة أخيرة ولا يهتمون به»، وهذا ما شجعها على استكمال خطواتها نحو البحث عن أمل جديد لها ولعائلتها التي عانت كثيراً خلال الحرب.

وكشفت السيدة أن الإجراء بدأ بإرسال معلومات تفصيلية عنها وعن أفراد عائلتها الراغبين في السفر، مثل الاسم الرباعي ورقم الهوية ورقم جواز السفر، ومعلومات شخصية متكاملة، ثم قالت إنه طُلب منها مبلغ 1500 دولار عن كل فرد بمن فيهم الأطفال، وإنها أبدت استعدادها لدفع المبلغ عند اكتمال الإجراءات.

تدقيق أمني في الأسماء

وبقيت جنين تتواصل بين الفينة والأخرى مع القائمين على المؤسسة لمعرفة تفاصيل عن مواعيد السفر، مشيرةً إلى أنها كانت تتلقى «تطمينات بأن العملية مستمرة وفق الخطوات المطلوبة»، ولافتةً إلى أن المؤسسة أوضحت لها أن «هناك إجراءات فحص أمني مشددة تجري حول كل شخص» سيخرج من القطاع، حتى لا يكون «بينهم عناصر من (حماس) أو أي فصيل فلسطيني آخر يوصف بأنه إرهابي».

وذكرت أنه بعد 3 أشهر ونصف الشهر تلقت رسالة مفاجئة على هاتفها الجوال، وكذلك هاتف زوجها، تبلغهم بالاستعداد خلال 6 ساعات للتجهّز، وألا يجلبوا إلا الأوراق الثبوتية اللازمة، مشيرةً إلى أنه تم تحويل الأموال المطلوبة للسفر قبل ذلك بأيام عبر حسابات تتعامل بشكل أساسي مع العملات المشفرة، وعبر التطبيقات الإلكترونية للمحافظ الخاصة بالعملات الأجنبية.

من دير البلح عبر مطار رامون

وبحسب جنين، خرجت العائلة بحافلة صغيرة من مكان قرب دير البلح وسط قطاع غزة، نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام الجاري، حملتها وعائلتها مع نحو 40 شخصاً آخرين، وتوجهوا إلى المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، وصولاً إلى نقطة عسكرية في ما يبدو أنها شرق خان يونس أو رفح، ومنها نُقلوا إلى داخل معبر كرم أبو سالم، ثم إلى مطار رامون الإسرائيلي في النقب، ومن هناك سافروا إلى جنوب أفريقيا. ولفتت جنين إلى أنه كان هناك عدد آخر من سكان القطاع وصلوا قبلهم من خان يونس.

ومنذ اللحظة التي انطلقت فيها الحافلة حتى وصولها للموقع الإسرائيلي ما بين خان يونس ورفح، حلقت طائرتان مسيّرتان فوق الحافلة ورافقتاها حتى وصولها لنقطة العبور إلى الداخل الإسرائيلي.

فلسطينيون يمرون قرب عربة عسكرية إسرائيلية مدمرة في مدينة غزة الخميس (أ.ب)

وكانت جنين (ب) وأفراد عائلتها جزءاً من الرحلة الأولى التي تنظمها مؤسسة «المجد أوروبا»، وتمت عملية وصولها ودخولها إلى جنوب أفريقيا عبر دولة أخرى، أسهل بكثير مما واجهه فلسطينيون آخرون احتُجزوا ساعات طويلة في طائرة أقلّتهم من نيروبي بعد أن اكتشفت السلطات أنهم لا يمتلكون أوراقاً كاملة، منها تذاكر عودة، وكذلك ختم جوازات سفرهم من قبل إسرائيل، كما كان في الرحلة التي على متنها جنين (ب).

 

رحلات «المجد أوروبا»

 

وتظهر بعض الشهادات لفلسطينيين أن مؤسسة «المجد أوروبا» نجحت في تسيير 3 رحلات جوية لفلسطينيين من داخل قطاع غزة، من مايو (أيار) حتى نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2025، وكانت الأولى وجهتها إندونيسيا، وعلى متنها 57 من سكان القطاع، بعد أن هبط من كانوا على متنها في بودابست، انطلاقاً من مطار رامون نفسه، في حين كانت الرحلة الثانية في أكتوبر الماضي للانتقال من مطار رامون باتجاه نيروبي، ومنها إلى جنوب أفريقيا، وهي الحال ذاتها مع الرحلة الأخيرة خلال الشهر الماضي.

وأثارت هذه الرحلات العديد من التساؤلات حول مؤسسة «المجد أوروبا»، التي تعرّف نفسها على موقعها الإلكتروني بأنها «منظمة إنسانية تأسست عام 2010 في ألمانيا، متخصصة في تقديم المساعدات وجهود الإنقاذ للمجتمعات المسلمة في مناطق النزاع والحروب».

عرب في إسرائيل خلال مظاهرة ضد تهجير الغزيين في 8 فبراير من العام الحالي (أ.ف.ب)

وأشارت المؤسسة إلى أن مقرها الرئيسي في القدس، وتحديداً حي الشيخ جراح، لكن زيارة صحافيين فلسطينيين في القدس إلى الموقع المذكور كشفت أنه لا يوجد أثر فعلي للمؤسسة، وأن المقر الذي وضعته تبيّن أنه لمبنى مهجور.

وتزعم المؤسسة أنها منذ العام الماضي تركز جهودها بشكل أساسي على دعم أهل غزة، مع التركيز على مساعدة الجرحى والمصابين، بما يشمل تسهيل وصول المرضى إلى الرعاية الطبية الحرجة، وتأمين السفر إلى الخارج للعلاج، وضمان مرافقة ذويهم لهم طوال فترة العلاج.

هل «الصحة العالمية» متورطة؟

يفتح هذا الأمر تساؤلات كثيرة حول ما إذا كانت مؤسسة «المجد أوروبا» هي مَن أدارت وتدير فعلياً عمليات خروج بعض الجرحى ومرافقيهم من داخل قطاع غزة، تحت ستار التنسيق مع «منظمة الصحة العالمية»، للعلاج في الخارج، ومن ثم مغادرتهم لدول أوروبية وغيرها.

وتفيد مصادر أمنية من غزة لـ«الشرق الأوسط» بأنه في الحقيقة كان هناك العديد من الرحلات التي تم تسييرها من داخل القطاع في خضم الحرب، وكان هناك استغلال واضح للظروف الأمنية وملاحقة رجال الأمن والمقاتلين وغيرهم، الأمر الذي سهّل عمليات السفر بهذه الطريقة المشبوهة.

وصول عائلات فلسطينية من غزة إلى مطار جنيف لتلقي العلاج في مستشفيات سويسرية بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (إي بي أي)

وتشير المصادر إلى أن هناك عائلات خرجت بذريعة المرض والحاجة للعلاج، وهناك أيضاً مرضى فعليون سافروا إلى دول عربية وأوروبية للعلاج، وذلك من خلال آلية رسمية وعبر منظمة الصحة العالمية التي كانت جهزت قوائم للمرضى ذوي الأولوية، ومنهم جرحى الحرب.

بالعودة إلى مؤسسة «المجد أوروبا»، فإنه عند فتح موقعها الإلكتروني تظهر تنويهات، منها وضع أرقام شخصين حملا اسم «عدنان» و«مؤيد»، وأحدهما يحمل رقماً فلسطينياً والآخر إسرائيلياً، في حين وُضع رقمان آخران من إسرائيل للمؤسسة للتواصل عبر «واتساب»، داعيةً في التنويه من يدخل الموقع إلى ضمان سير إجراءات التنسيق بشكل سليم، ودفع الرسوم عبر الأرقام التي وُضعت، وعدم التعامل مع أي أرقام أخرى. كذلك تحذّر المؤسسة في تنويه آخر من التعامل مع أي وسيط خارجي، مؤكدةً أنه لا يوجد وساطة في عملية التسجيل، أو تسريع الحصول على تصريح أمني للسفر، أو تفضيل شخص على آخر، في طريقة تهدف إلى تنبيه من يسجل للسفر من الوقوع في الاحتيال أو النصب.

تنفيذ لخطة إسرائيلية

ذهب البعض في قطاع غزة وخارجه إلى التأكيد أن المؤسسة تتبع بشكل مباشر جهات رسمية إسرائيلية، وتأتي في إطار تشجيع الهجرة من غزة لتفريغها. وبالإضافة للأخطاء الإملائية الكثيرة التي ترد في تعريفها بنفسها، وحتى في اسمها، فإن الأرقام المستخدمة إسرائيلية، والأهم أن المؤسسة تقوم بالحصول على موافقات أمنية للسفر إلى الخارج، ما يؤكد أنها على صلة وثيقة بالسلطات الإسرائيلية، وتنطلق رحلاتها من مطار إسرائيلي، ونشاطاتها بدأت تبرز بشكل أساسي بعد سيطرة إسرائيل بشكل أكبر أمنياً على القطاع .

وأكثر من ذلك، كشف مختصون في التكنولوجيا، بينهم فلسطينيون وعرب، أن الموقع التابع للمؤسسة تم إنشاؤه في الثاني من فبراير (شباط) من العام الجاري، وتم تسجيله في آيسلندا.

وأقرت مصادر إسرائيلية في تقرير لصحيفة «هآرتس» العبرية بأن مؤسسة «المجد أوروبا» سلّمت الجيش الإسرائيلي ووحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق الفلسطينية قوائم مسبقة تتضمن بيانات الفلسطينيين الراغبين في الهجرة، والذين سجلوا أنفسهم عبر الموقع الإلكتروني أو بالتواصل مع القائمين على المؤسسة.

وبحسب تحقيق صحيفة «هآرتس» العبرية، فإن مؤسسة «المجد أوروبا» مرتبطة بشركة «تالنت غلوبس»، وهي شركة مسجلة في إستونيا، ومؤسسها تومر جانار ليند، وهو إسرائيلي - إستوني. وأشارت الصحيفة إلى أن المؤسسة تنسق مع إدارة في وزارة الدفاع الإسرائيلية أُنشئت بدورها في فبراير من العام الجاري، بهدف «تسهيل الهجرة الطوعية» للغزيين، وقد تم استحداثها بشكل أساسي في أعقاب اقتراح الرئيس الأميركي دونالد ترمب فتح باب الهجرة الطوعية لسكان القطاع.

أب وطفله يصلان إلى مطار جنيف في سويسرا ضمن رحلة علاجية شملت 13 طفلاً و51 عائلة فلسطينية خرجت من غزة بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (أ.ف.ب)

في الثامن عشر من نوفمبر من العام الجاري أصدرت المؤسسة بياناً أكدت فيه أنها تتعرض لحملة تشويه وتشهير كبيرة، بهدف تجريد سكان غزة من حريتهم في اختيارهم وتقرير مكان عيشهم، وإجبارهم على البقاء تحت خطر مباشر ومعاناة يومية، وحرمانهم من أي فرصة لإنقاذ حياتهم أو تأمين مستقبل أفضل لأطفالهم، مؤكدةً أنه لا علاقة لها بإسرائيل سوى تنسيق عمليات الخروج معها، ومشددةً على أنه لا علاقة لها بـ«الموساد» أو أي جهة استخباراتية.

 

تبادل اتهامات ومصاير مجهولة

واتهمت المؤسسة دبلوماسيين يتبعون السلطة الفلسطينية باستدعاء المسافرين الذين غادروا من خلالها للاستجواب والتهديد.

ويقول أحمد (غ) البالغ من العمر (33 عاماً)، مفضّلاً عدم ذكر هويته، والذي غادر عبر الرحلة الثانية لمؤسسة «المجد أوروبا»، إنه لم يتلقَّ أي تهديدات من أي جهة فلسطينية عقب مغادرته قطاع غزة. لكنه أشار في المقابل إلى أنه تلقى تحذيرات من بعض العاملين في إحدى السفارات الفلسطينية من التعامل مع هذه المؤسسة، وأنه تم الاستفسار منه عن آلية التسجيل والخروج، والأشخاص الذين قابلهم في مطار رامون، بحسب ما أوضح لـ«الشرق الأوسط».

ويوضح أحمد أن رحلته انطلقت من مطار رامون إلى جنوب أفريقيا عبر نيروبي، مشيراً إلى أنه «كان سعيداً جداً بالهجرة مع زوجته ومغادرة قطاع غزة»، وإن اصطدم بواقع حياتي صعب نسبياً.

صورة مقتطعة من فيديو لطائرة ركاب تحمل فلسطينيين من غزة هبطت في مطار جوهانسبرغ ورفضت السلطات إدخال المسافرين القادمين على متنها (وسائل تواصل)

ويلفت الشاب إلى أنه بعد مغادرتهم مطار نيروبي لم يعد أحد من المؤسسة يتابع ظروفهم، وبقي مصيرهم مجهولاً، دون أن يكون هناك من ينتظرهم في جنوب أفريقيا، مشيراً إلى أن وفداً من المؤسسة استقبلهم فقط في مطار رامون، وفي مطار نيروبي، وبعد مغادرتهم الأخيرة لم يكن أحد برفقتهم على متن الطائرة أو في مطار «أو آر تامبو» في جوهانسبرغ. وقال: «تُركنا نواجه مصيرنا وحدنا بعدما نقلتنا مركبات كانت تنتظرنا أمام المطار إلى بيوت ضيافة بسيطة وعلى نفقتنا الشخصية». علماً إن السلطات في جنوب أفريقيا اعلنت رفضها استقبال مزيد من الوافدين الفلسطينيين على متن هذه الرحلات خوفاً من أن تكون فعلاً تنفيذ لمخطط إسرائيلي بإفراغ غزة والقطاع من السكان.

ولكن على الرغم من كل ذلك كله، ما زال أحمد وزوجته سعيدين بخروجهما من الواقع المأساوي الذي يعيشه السكان في قطاع غزة، كما قال.

 

بين «حماس» والسلطة

تقول المصادر الأمنية بغزة، وهي من حكومة «حماس»، إنها لم تكن تعلم بحقيقة تلك الرحلات والجهة التي تقف خلفها، وكان الاعتقاد السائد أنهم من المرضى، أو ممن لديهم أقارب في أوروبا، ويتم تسهيل سفرهم عبر سفارات تلك الدول للمّ الشمل.

وأكدت المصادر أنها لم تستجوب أو تتواصل مع أي من المسافرين للحصول على المعلومات اللازمة لهم، ولكنها تعمل حالياً لمنع محاولات جديدة من السفر.

العمليات الإسرائيلية تسببت في تهجير 40 ألف فلسطيني حتى الآن بشمال الضفة الغربية (رويترز)

وبينما لم يصدر تعقيب رسمي من السلطة الفلسطينية على الأحداث أو الاتهامات التي وُجهت إليها من مؤسسة «المجد أوروبا»، اكتفت «الخارجية الفلسطينية» بإصدار بيان حذرت فيه من «الوقوع فريسة لشبكات الاتجار بالبشر وتجار الدم ووكلاء التهجير»، مؤكدة عزمها على ملاحقة المنظمة واتخاذ الإجراءات القانونية ضدها.

وكانت سفارة فلسطين لدى جنوب أفريقيا أصدرت في الرابع عشر من نوفمبر من العام الجاري تحذيراً شديد اللهجة من استغلال جهة «مضللة ومشبوهة»، كما وصفتها، الأوضاع الإنسانية لسكان القطاع، وخداعهم لتنظيم عملية سفرهم بطريقة غير قانونية وغير مسؤولة. كما قالت في أعقاب أزمة الرحلة الأخيرة التي وصلت إلى جوهانسبرغ، مؤكدةً أن تلك الجهة حاولت التنصل من أي مسؤولية بمجرد ظهور التعقيدات والإجراءات الروتينية عند وصول المسافرين إلى الدولة المحددة لهم للسفر إليها.

وتقول مصادر أمنية من حكومة «حماس» إنه بعد أن دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، ورغم أن الظروف الأمنية غير مستقرة وتحاول إسرائيل رصد أي تحركات، فإنها ستسعى لمنع مثل هذه الرحلات المشبوهة، وإنها ستتصدى لمثل هذه المحاولات، لكنها لن تعترض أي رحلات هدفها سفر المواطنين للعلاج أو حالات إنسانية، لكن مثل هذه العمليات التي تقف خلفها جهات مشبوهة ستتصدى لها وستعمل على منعها، لمنع تنفيذ الخطة الإسرائيلية - الأميركية، الهادفة إلى تهجير السكان.

الملاحقة والاستمرارية

ويبدو أن المؤسسة تعاني من ملاحقة حقيقية، وتتعرض لحملات إلكترونية مثل الاختراق، ولإجراءات قانونية تُتخذ ضدها من قبل بعض الجهات، الأمر الذي دفع تطبيق «واتساب» لحظر أرقامها المعلنة عبر وسائل التواصل وعبر موقعها الإلكتروني.

فلسطينيون يحملون لافتات كُتب عليها: «لا للتهجير» و«غزة تموت» خلال احتجاج في مخيم النصيرات بغزة (د.ب.أ)

واتهمت المؤسسة في منشور لها عبر «فيسبوك» جهات لم تسمها بأن عملية حظر أرقامها جاءت كجزء من «الهجمة» الموجهة ضد نشاطاتها، مؤكدةً الاستمرار في عملها، وأنها تعمل على معالجة هذه القضية وترتيب أرقام جديدة للتواصل، وأنها ستتواصل مع متابعيها من أرقام بديلة عند جهوزيتها.

وعلى الرغم من كل هذا الضجيج حول المؤسسة وعملها، فإنها ما زالت تواصل استقبال طلبات المسافرين من سكان قطاع غزة، كما يظهر على موقعها الإلكتروني، ومن خلال صفحتها على «فيسبوك»، إلى جانب استمرار الإعلانات الممولة التي تظهر للغزيين عبر شبكات التواصل.

الغزي نادر (ع)، من سكان مدينة غزة، والذي فضّل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، وهو يبلغ من العمر (41 عاماً)، ومتزوج ولديه 4 أطفال، كان أحد من تسابقوا للتسجيل مجدداً لدى المؤسسة، منذ أكثر من شهر ونصف الشهر، وما زال في عملية تواصل مستمر مع الأرقام التي وضعتها المؤسسة.

غروب شمس خريفية في غزة (رويترز)

ويقول نادر إن الظروف الحياتية الصعبة أجبرته على التفكير في الهجرة، والبحث عن مستقبل أفضل له ولعائلته، معرباً عن أمله أن تنجح مساعيه في السفر، وأن يحالفه الحظ كما حالف آخرين.

وأضاف: «كل ما أريده أن أخرج من قطاع غزة إلى أي دولة، ومنها سأغادر إلى أي جهة كانت... ما يهمني أن أرتاح من حياة الخيام، وأن أبحث عن حياة آمنة لي ولزوجتي وأطفالي».


فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
TT

فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)

فاز محمد الحلبوسي، أحد أكثر الفاعلين السنة في العراق تعقيداً، بعشرة مقاعد برلمانية عن بغداد، و35 مقعداً من أصل 329، عن عموم البلاد في الانتخابات التي أُجريت في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

تبدو هذه الأرقام استثنائية لرجل أُقيل في مثل هذه الأيام قبل عامين من منصبه رئيساً للبرلمان، وهو أعلى موقع خصصه العرف السياسي للعرب السنة بعد الرئيس الراحل صدام حسين.

ما الذي جرى في مسيرة رئيس حزب «تقدم» خلال فترة كانت مزدحمة بالعواصف منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023؟ بينما كانت فصول عنيفة تُطوى في الشرق الأوسط، كان عراقيون يزورون محافظة الأنبار، مسقط رأس الحلبوسي غرب العراق، يلتقطون الصور لشوارع معبّدة وملاعب وأبنية جديدة، ويتساءلون: «أليست هذه نفسها صحراء الرجل الذي عاقبته إيران؟».

أظهرت الأرقام النهائية للانتخابات، أن الحلبوسي الذي تنافس للمرة الأولى على أصوات الناخبين في بغداد قد تفوق فيها بنحو 72 ألف صوت على نوري المالكي، زعيم ائتلاف «دولة القانون» الذي جمع أصواتاً أقل بنحو 20 ألفاً. في المشهد الحزبي، فاز «تقدم» منفرداً بفارق 8 مقاعد على الحزب الديمقراطي الكردستاني الخبير في لعبة الاقتراع منذ 3 عقود.

تشكل عودة الحلبوسي نموذجاً فريداً لعلاقات القوة بين الجماعات الطائفية في العراق، وكيفية النجاة من أشدّ معاركها ضراوة. ومثلما تثير العودة أسئلة حول كيفية التعامل أو التعايش مع النفوذ الإيراني في البلاد، تسلط الضوء على نموذج حزبي صارم يتنامى في مجتمع سني لم يعهد خبرة في العمل السياسي، لكنه يستعيد شيئاً من التقاليد الكلاسيكية في احتكار النفوذ وتصفية المنافسين.

الحلبوسي مهندس مدني في منتصف عقده الرابع من بلدة «الكرمة» بمحافظة الأنبار. ومن شركة كانت تُنفذ مشاريع محدودة للبنى التحتية في الفلوجة، وجد طريقه إلى استثمار أشد صعوبة وتعقيداً في السياسة، تتقاطع عنده جماعات شيعية وسنية، تتنافس تحت ظلال إيرانية.

دخل الحلبوسي البرلمان عام 2014. انتقل من لجنة «حقوق الإنسان» التي همّشتها الحياة السياسية، مباشرة إلى المعركة الأساسية؛ صار عضواً في لجنة المال عام 2015 ورئيسها عام 2016. هناك تعرّف على وسطاء الموازنة، إذ يمثلون شبكات الولاء مقابل المنفعة، والخطأ فيها قاتل في لمح البصر.

لم ينتبه اللاعبون الأساسيون يومها إلى شاب سني بلحية خفيفة وتسريحة حديثة، لم يبد لهم أنه قد يثير القلق. الحلبوسي نفسه لم يكن قد اكتشف بعد أين ستقوده أحلامه، لكنه سرعان ما بدأ يعبر عن نفسه. بعد سنوات وجدته قوى شيعية مرتابة وسنية ناقمة، على حد سواء، خطراً عليها. وتم وصفه على نطاق واسع برأس تلعب فيه شياطين «الزعامة»، فلعب معها.

محاولات دامية

بعد 2003 عاد الحلبوسي إلى جامعته في بغداد لإكمال دراسته العليا. كان العرب السنة خارج مطبخ السياسة في أعقاب الغزو الأميركي. تسرد وقائع عديدة على مدى العقدين الماضيين كيف قادت محاولات نخب سنية لدخول الحياة العامة إلى نهايات مميتة، سُفكت فيها دماء.

في يونيو (حزيران) 2005 توسعت لجنة كتابة الدستور لتضم 15 ممثلاً عن العرب السنة الذين كانوا بعيدين عن أهم نقاشات حول مستقبل البلاد. التوسع شمل مجبل الشيخ عيسى وضامن حسين عليوي وعزيز إبراهيم، الذين انخرطوا فوراً في معارضة صياغة بنود في الدستور. في يوليو (تموز) من العام نفسه، كان الثلاثة يتناولون وجبة غداء في أحد المطاعم وسط بغداد، قبل أن يفتح مسلحون النار على سيارتهم، ويُقتلوا في الحال.

على طريق مزدحم بحي الداوودي غرب العاصمة، كان عصام الراوي، وهو أستاذ علوم الأرض في جامعة بغداد، في طريقه إلى مكان عمله حين قتله مسلحون في أكتوبر 2006. كان الرجل، في أعقاب تفجير المرقدين العسكريين في سامراء، قد قطع الطريق راجلاً إلى مرقد «الكاظم» المقدس لدى الشيعة، ليصلي، في محاولة لإطفاء فتنة تتفجر في كل مكان. يقول كثيرون إن جماعة أصولية عاقبته على ذلك.

في العام نفسه، قتل شاكر وهيب، القيادي في تنظيم «القاعدة»، زعيمَ قبيلة كبيرة في محافظة الأنبار كان يدعو إلى إشراك السكان المحليين في الحياة السياسية، وانخراطهم في مؤسسات الأمن بالتزامن مع انسحاب كان مأمولاً للقوات الأميركية.

في 30 ديسمبر (كانون الأول) 2009، شنّ تنظيم «القاعدة» هجوماً على مبنى حكومة الأنبار، أسفر عن مقتل نحو 30 مسؤولاً وعنصر أمن وإصابة العشرات. من بين الجرحى المحافظ قاسم الفهداوي الذي اقترب منه انتحاري خمسة أمتار.

وشاهد سكان الرمادي يومها مروحيتين فوق سطح مستشفى المحافظة لنقل الفهداوي إلى منشأة طبية أكثر تخصصاً، لعلاج إصابات خطيرة في القدم والساق.

نجا الفهداوي وانتكست المدينة خلال محاولتها التعايش مع النظام الجديد.

الطريق بين الكرمة وبغداد

خلال تلك الأيام الدامية، كان الحلبوسي يتنقل بين مسرحين قاتلين، بغداد والكرمة. الطريق الذي يُقطع براً بينهما بساعة ونصف يربط بين ملعبين لانتحاريين وأحزمة ناسفة وميليشيات، ومئات الآلاف من الضحايا من كل الطوائف.

غادر الحلبوسي بغداد عام 2010 ناجياً بشهادة ماجستير في الهندسة إلى مدينة ينشط فيها سياسيون من «الإخوان المسلمين» والقوميين العرب وبقايا من «حزب البعث». كانوا جميعاً محبطين، يقدمون أجندة سياسية قائمة على المظلومية، ويفتقدون الفاعلية. كانت قائمة «العراقية» بقيادة إياد علاوي التي راهنوا عليها «سنياً»، قد تلقت ضربة موجعة بإعلانها الفائز الخاسر في انتخابات 2010.

مع هؤلاء، جاءت أخطر 6 أشهر في تاريخ السنة خلال العقدين الماضيين. ففي 30 ديسمبر 2013، أمر نوري المالكي، رئيس الحكومة آنذاك، باستخدام القوة لفض اعتصام في الأنبار كان امتداداً لاحتجاجات متفرقة في مدن وسط البلاد وجنوبها، لكن المالكي عدّ السنة «متمردين». اعتقلت قوة حكومية سياسيين سُنة بعد اشتباكات، من بينهم أحمد العلواني، أبرز معارضي المالكي، اقتيد إلى محاكمته بتهم إرهاب، وقُتل شقيقه ببشاعة.

في 30 أبريل (نيسان) 2014 انتخب العراقيون البرلمان الثالث. يومها وقعت هجمات انتحارية قرب مراكز اقتراع في الرمادي وبعقوبة وتكريت وكركوك، وقُتل موظفون في «مفوضية الانتخابات» وضباط كانوا يحمونهم، كما شغّلت الأحزاب السُنية دعايتها سراً بسبب المخاوف. وحصل الحلبوسي على مقعد بأصوات ناجين، بشكل ما، من الموت.

بعد شهر، في 29 يونيو 2014، أعلن «داعش» قيام دولته. اضطرت الحكومة، بضغط من التحالف الدولي، إلى تجنيد شبان من العرب السنة لمقاتلة التنظيم، وكانت القبائل في الأنبار تجرب التحالف مجدداً مع القوات النظامية مع مجيء حيدر العبادي إلى رئاسة الحكومة في محاولة لنسيان جراح فتحها المالكي وتركها مفتوحة.

رئيس البرلمان الأسبق أسامة النجيفي خلال زيارته طهران في سبتمبر 2013 (إيرنا)

«نادي العجز» السياسي

كانت الكتلة السنية «متحدون للإصلاح» بزعامة أسامة النجيفي الخيار السني الوحيد الذي وجد «حزب الحل» الذي ترشح عنه الحلبوسي الشاب إلى البرلمان عام 2014. رغم أن الكتلة كانت أقرب إلى نادٍ مغلق يخفي عجزاً بنيوياً عن إنتاج السياسات، لكن الجمهور السني صوّت لها في محاولة لتحدي قوى شيعية تتفرد بالسلطة، وتنظيمات إرهابية تمنعهم من التعامل معها والانخراط فيها. كان ذلك تكليفاً بمهمة شبه مستحيلة.

النجيفي، الذي ترأس برلمان الدورة الثانية حتى 2014، وآخرون من أمثال طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية حتى ديسمبر 2013، ورافع العيساوي وزير المال حتى مارس (آذار) 2013، كانوا آخر من وُضعوا في فوهة المدفع أمام المالكي، وسقطوا من دون خطط بديلة للعودة، وبكثير من الشكوى والعزلة.

سرعان ما انقلب الحلبوسي على هذه المقاربة في «إدارة التهميش»، كان يريد التحرك إلى قلب النظام وليس البقاء في هامشه، معارضاً معزولاً.

عثر الحلبوسي على مقعده في البرلمان. واحتل «داعش» ثلث العراق. سرعان ما اجتذبت معارك التحرير تشكيلات عسكرية مختلفة، وأخرجت النفوذ الإيراني من الكواليس إلى العلن. وانتشر مستشارو «الحرس الثوري» الإيراني مع فصائل في «الحشد الشعبي»، تحت كل سماء حلّقت فيها مقاتلات الجيش الأميركي.

بعد 3 سنوات من القتال تراجع «داعش» عن مساحات شاسعة واستعادت بغداد أراضيها في الموصل والرمادي، وبدأت معركة نفوذ جديدة. كان الحلبوسي يعود إلى الكرمة في إجازته عبر نقاط تفتيش نصبتها فصائل منتصرة.

نسخة سياسية جديدة

لقد أمضى الآن 3 سنوات في البرلمان، تجربة وضعته بين «أسماك قرش» تتعاظم على أيديهم إمبراطوريات مال وسلاح، وامتد شيء منها إلى مساحات محررة من «داعش». قالت فصائل مسلحة إنها «صاحبة الفضل» في التحرير، ولها الحق في حماية الأمن في كل مكان رسمته دماء مقاتليها. حينها أصبح الحلبوسي محافظاً يحلم بإمبراطورية. كان ذلك في أغسطس (آب) 2017.

تزامن التعاظم المضطرد للنفوذ الإيراني في العراق مع ظهور نسخة جديدة من السياسية السنية. بينما كانت القوى الشيعية بحاجة إلى وسطاء سنة لتوطيد سلطتها، بدا أن الحلبوسي كان يريد ما هو أكثر، بتقاسم النفوذ. أصبح الآن رئيساً للبرلمان، وأزاح عن وجهه قناع الشاب الطموح وسحب كرسياً من الصفوف الخلفية إلى المائدة الرئيسية.

يرى أحد المسؤولين الحكوميين الذين عرفوا الحلبوسي عن قرب أن «ظاهرة الرجل نشأت من تفاعل الحاجة الاجتماعية داخل البيئة السنية بعد انهيار نموذج (الزعيم المنقذ)؛ ثم التوقيت والتمركز الصحيحين بأداء واقعي». يقول سياسي معارض للحلبوسي إنه «مشروع ديكتاتور جديد».

انتبه خصوم الحلبوسي إلى تحالفاته الواسعة بين جماعات متنافسة في العراق (د.ب.أ)

«أكثر من اللازم»

قاد الحلبوسي البرلمان منذ 2018... سرعان ما تعرضت المنظومة الشيعية إلى الاهتزاز بفعل التنافس على تمثيل المكون الأكبر، وأمام احتجاج شعبي في أكتوبر 2019 سقط رئيس الحكومة عادل عبد المهدي، وغاب عن المطبخ قاسم سليماني، قائد «قوة القدس» في «الحرس الثوري».

لم يمنع الحلبوسي نفسه من التعبير عن النسخة الحديثة من السياسة السنية. ديناميكيته سمحت له بالتنقّل بين الجبهات لبناء تحالفات واسعة. يقول ذلك سياسيون شاهدوا كيف «قدم الحلبوسي نفسه عرّاباً أمام بيئة الاحتجاج بينما كانت الأحزاب الشيعية تفقد المبادرة». ويقول مقربون منه، إن «فاعليته تلك الأيام تعبير عن حضوره في النظام، بوصفه شريكاً».

انتبهت المنظومة الشيعية إلى الحلبوسي كأنها لم تعرفه من قبل. قرر الجميع إخراجه من اللعبة. بالنسبة لمنافسين سنة وشيعة، فإن الحد المسموح للحلبوسي هو الاستفادة من التوازن دون التحول «أكثر من اللازم إلى سمكة قرش»، على حد تعبير قيادي شيعي.

الحال أن الحلبوسي أُقيل من رئاسة البرلمان وشُطبت عضويته في نوفمبر 2023. في اليوم التالي خرج أمام الصحافيين ملوّحاً بنسخة من الدستور لـ«تصحيح خطأ» وقعت فيه المحكمة الاتحادية. كان هذا فعلاً سياسياً غير مسبوق على المستوى السني.

قيل على نطاق واسع إن خصوم الحلبوسي من العرب السنة اشتكوا لدى حلفاء شيعة من فائض قوته، وإن إيران في النهاية قررت إعادة التوازن. يقول سياسي عراقي إن فريق رئيس حزب «تقدم» تعامل مع القرار بوصفه «محطة فاصلة لإعادة إنتاج المشروع، دون الخوض في السياق السياسي للأزمة». كان هذا أمراً غير معهود في الحياة السياسية للسنة العرب.

بعد شهر واحد، خاض الحلبوسي انتخابات مجالس المحافظات في اختبار حاسم لقدرته وهو معاقَبٌ من دون منصب، وفاز بـ21 مقعداً. يقول قيادي من حزب «تقدم» إن شطب العضوية تحول إلى وقود لإشعال نيران الحملة الانتخابية، ونجح الأمر.

أصبح الحلبوسي الآن أكثر شراسة، بل أقل تساهلاً مع الثغرات في مشروعه، وأظهر ميلاً للصرامة الحزبية. كان على استعداد لتصفية أقرب المقرّبين. في يوليو 2024 تفاقمت شكوكه حول ذراعه اليمنى في حزب «تقدم» بالأنبار، المحافظ السابق علي فرحان، من حيث إنه منفتح ربما على خيارات سياسية مختلفة. حوكم الرجل بتهم إساءة استخدام المنصب، وقضى فترة في السجن.

في أبريل 2025، برأ القضاء الحلبوسي من تهمة التزوير التي أُقيل بموجبها. بعد شهر سيقضي القاضي جاسم العميري، الذي أقاله، إجازة التقاعد مغادراً المحكمة الاتحادية.

بدأ ثقل الحلبوسي السياسي من مناطق غرب العراق (إكس)

حصانة غير مضمونة

ثمة انقسام حول تفسير «ظاهرة الحلبوسي». يقول خصوم إن خصاله الشخصية لم تكن تكفيه لتحقيق هذه المكاسب، وإنه «حاصل الجمع بين شبكة تؤهل الزعامات ولحظة سنية سمحت له بالظهور».

لكن كثيرين من السنة في بغداد، بعد سنوات من العنف والانقسام، وجدوا في الحلبوسي الشخص الذي يشبع حاجتهم إلى الزعامة. لقد استمعوا إليه خلال الحملة الانتخابية الأخيرة يقول «شعارات» حادة: «نحن السنة نقرر ما نريد (...) لن نسمح للآخر (الشيعة والكرد) بأن يقرر نيابة عنا».

بعد إعلان النتائج الأخيرة، قال قيادي شيعي إن «الحلبوسي بموقعه الوسطي بين تيارات سائدة في المنطقة، خصوصاً بعد أحداث أكتوبر 2023، بين إيران التي تحاول التقاط أنفاسها، وتركيا المتفوقة في سوريا، سيلعب دوراً متقدماً في ضبط التوازنات العراقية».

تبدو هذه المهمة واعدة، إذ تمنح الحلبوسي «جدار حماية» إضافياً في منطقة متقلبة، لكنه لا يزال يبحث عن «حصانة» أكبر. تدرك دائرته المقربة أن «الضمانات في هذه اللعبة غير متوفرة، ولا أحد يقدمها. النظام هش ويتغير بسرعة، كل ما يشغلهم الآن هو الاستعداد للضربة المقبلة: من أين؟ ومن يسددها؟». هذا النوع من «الاستعداد» يتحول الآن إلى أحد أهم فنون البقاء في العملية السياسية العراقية.