«الشرق الأوسط» داخل أوكار المتطرفين في ليبيا (2 من 5): قصة «سيدي خريبيش»

آخر مربع سكني يتحصن فيه مسلحو بنغازي

عناصر من الجيش الليبي الوطني يتسلقون ركام بناء مهدم بفعل الاشتباكات مع المسلحين في خريبيش أحد أحياء بنغازي (رويترز)
عناصر من الجيش الليبي الوطني يتسلقون ركام بناء مهدم بفعل الاشتباكات مع المسلحين في خريبيش أحد أحياء بنغازي (رويترز)
TT

«الشرق الأوسط» داخل أوكار المتطرفين في ليبيا (2 من 5): قصة «سيدي خريبيش»

عناصر من الجيش الليبي الوطني يتسلقون ركام بناء مهدم بفعل الاشتباكات مع المسلحين في خريبيش أحد أحياء بنغازي (رويترز)
عناصر من الجيش الليبي الوطني يتسلقون ركام بناء مهدم بفعل الاشتباكات مع المسلحين في خريبيش أحد أحياء بنغازي (رويترز)

أعلن الجيش الليبي الذي يقوده المشير خليفة حفتر عن تحرير مدينة بنغازي من المتطرفين والتنظيمات الإرهابية، في الصيف الماضي، لكن ما زال هناك مربع سكني يسمى «سيدي خريبيش»، قبالة البحر، يتحصن فيه مسلحون متشددون يقدّر عددهم بما بين 90 عنصراً، وفق مصادر قريبة من الجيش، و150 عنصراً بحسب مصادر على صلة بالمحاصرين.
الحلقة الثانية من سلسلة التحقيقات التي تقدمها «الشرق الأوسط» عن أوكار المتطرفين في ليبيا، تسلط الضوء على هذا المربع السكني الذي انقلب رأساً على عقب، بمعنى الكلمة. ولكي تصل إلى نقطة المواجهة بين الجيش و«سيدي خريبيش»، فلا بد أن تمر بشوارع حفرتها جنازير الدبابات، وبمئات المباني المهدمة، من بينها مبنى الميناء البحري، ومبنى المحكمة المدمر، الذي كان يتظاهر أمامه الليبيون ضمن موجة ما يعرف بـ«الربيع العربي» في عام 2011.
عند نقطة معينة، من كورنيش بنغازي، وبالتحديد من بعد مبنى «الزاوية الرفاعية» التاريخي، الذي هدمته الحرب بين الجيش والمسلحين، يعلو صوت الرصاص والقذائف الصاروخية. هنا لا بد أن تتوقف. هذه «سيدي خريبيش» من ناحية البحر. أما المنطقة من الناحية الجنوبية، فلا يمكن الاقتراب منها إلا بعد اجتياز شوارع حي الصابري المزروعة بالمتفجرات، والتي تغص بعمارات متداعية وخالية من السكان.
لقد تحولت هذه المنطقة المعروفة باسم بنغازي القديمة إلى أطلال، بعد أن كانت فيما مضى تحمل عبق التاريخ القديم، وتعج بالحياة والمناقشات الثقافية وبالمشاة والمتسوقين.
ويقول مرافق من الجيش كان مع «الشرق الأوسط» في أقرب نقطة من «سيدي خريبيش»: «مركز المسلحين الرئيسي في الداخل يقع في الفندق البلدي. يقع الفندق شمال حي الصابري. نحن نرصدهم؛ لكن دخول المنطقة في الوقت الحالي صعب. نستطيع، بلا شك، أن نصل إلى هناك، ونستعيد الموقع؛ لكن هذا سيؤدي إلى خسائر كبيرة في الجيش. فالمحاصرون في الداخل قاموا بتفخيخ محيط سيدي خريبيش. فخخوا كل شيء فيه».
ويصف الجيش الليبي المحاصرين بأنهم «دواعش»؛ لكن أحد الوسطاء الذين يثق فيهم مسلحو «سيدي خريبيش»، وما زال على تواصل معهم، يقول في المقابل إن الموجودين في هذه المنطقة ينتمون إلى ما يعرف باسم «درع ليبيا 1» الذي صدر قرار بتشكيله قبل ثلاث سنوات من المؤتمر الوطني العام (البرلمان السابق)، للدفاع عن بنغازي. ويضيف أن بعض أمراء الحرب، من جماعة «الإخوان» ومن «الجماعة المقاتلة»، يستفيدون من الضجة الدولية حول هؤلاء المحاصرين و«من مصلحتهم أن يظلوا تحت الحصار، رغم البكاء عليهم أمام شاشات التلفزيون».
وبخلاف التفخيخ، حال دون دخول الجيش إلى سيدي خريبيش، أنها منطقة ذات أزقة ضيقة وشوارعها صغيرة. ويقول مسؤول عسكري: «الدواعش حفروا فيها أنفاقاً تحت الأرض. الأنفاق تُفتح على البيوت من أسفل، وفيها مراصد يتمركز فيها قناصون. ثم إن كل من فيها من القناصة المحترفين. هم محاصرون هنا منذ إعلان تحرير بنغازي في يوليو (تموز) الماضي. ويعتمدون في الأكل والشرب على المنتجات المنتهية صلاحيتها التي كانت مخزنة في مخازن سوق العرب في الصابري. من السهل أن ندكهم بالطيران؛ لكن نريد أن نحصل عليهم أحياء».
ويقول مسؤول في الجيش إنه في حال القبض على المحاصرين أحياء، فيمكن الحصول منهم على اعترافات مهمة بشأن علاقة بعض الأطراف المحلية والدولية بإثارة الفوضى والخراب في بنغازي؛ خاصة بعد أن تمكن الجيش من فك شفرات كثيرة عن هذه العلاقات، من المقار التي كان يدير منها المتطرفون العمليات في باقي ضواحي المدينة المحررة.
بينما يقول الوسيط الذي له علاقة بالمحاصرين، إن «من ورطهم في الاستمرار في الحرب في بنغازي، لا يريد خروجهم أحياء من سيدي خريبيش؛ لأنهم إذا خرجوا أحياء فسوف يفضحون دور من ورطوهم في الاقتتال الذي استمر منذ عام 2014 في عموم ليبيا، وليس في هذه المدينة فقط».
وعما إذا كان يوجد عسكريون بين المحاصرين، قال: «ربما اثنان أو ثلاثة. الباقون كلهم مدنيون من (درع ليبيا 1)»، مشيراً إلى تفاصيل تخص محاولات لوسطاء دوليين ومحليين لإخراج المحاصرين عبر البحر، جرى إفشالها عن «طريق قادة من جماعة (الإخوان) ومن (الجماعة المقاتلة)... رغم أن هاتين الجماعتين تبثان دعاية لا تتوقف ضد الجيش؛ بحجة أنه يحاصر سيدي خريبيش. أعتقد أن هناك من يستفيد من استمرار هذه المعضلة».
وتمكنت القوات البحرية، منذ فبراير (شباط) الماضي، من فتح ميناء بنغازي، والسيطرة على طريق البحر، وبالتالي «توقف المدد الذي كان يصل إلى سيدي خريبيش من طريق البحر، من جهة سرت ومصراتة»، بحسب ما يقول المسؤول العسكري. ويضيف: «المحاصرون في سيدي خريبيش بقايا للدواعش. وحاول قادة للمتطرفين في طرابلس ومصراتة إقناع المجتمع الدولي بأنهم عائلات من المدنيين يجب فك الحصار عنهم، وتأمين خروجهم عبر البحر. في الحقيقة لم يعد يرغب فيهم أحد. ونحن نريدهم أحياء. نريدهم أن يستسلموا لكي يقولوا لنا ما لديهم».
وأياً كان الأمر، فإن منطقة «سيدي خريبيش» تتوسط مواقع تمكن الجيش الليبي من أن يطرد منها المسلحين الذين كانوا يسيطرون عليها في الفترة الأخيرة، ومنها منطقة الصابري، وسوق الحوت التي يقع فيها ميناء بنغازي.
وفي أكثر من موقع توجد شرائط ملونة على طول الأرصفة، وحول مبان خالية جدرانها مجوفة بفعل انفجار القذائف، تحذّر من اجتيازها. وجود الشريط ذي اللونين الأحمر والأبيض يعني أن المناطق التي وراءه خطيرة. ومع ذلك تحاول عائلات عدة العودة، بعيداً عن أعين الجيش، للاطمئنان على ما تبقى من ممتلكاتها.
ومن سوء حظ واحدة من هذه العائلات أن شقتها السكنية كانت ضمن الطابق الثاني في عمارة في شارع الشويخات المجاور لـ«سيدي خريبيش». وحين تعجلت العودة إلى هناك، من وراء ظهر الجيش، فوجئت بأن المتطرفين كانوا قد استولوا على الطابق كله، وحولوه إلى واحد من مراكزهم الرئيسية؛ لكن حين انسحبوا فخخوا الموقع، وهكذا قُتل أفراد هذه العائلة، بينما تحطم ما تبقى من جدران.

«احذر منطقة ألغام»
يقول ماجد، أحد أصحاب الشقق في هذه العمارة المكونة من أربعة طوابق، والتي فيها 18 شقة، إن هذه العائلة لم تلتزم بتحذيرات عدم الدخول، وتجاهلت الأشرطة الملونة التي وضعها الجيش. ويوجد على واجهة العمارة كتابات باللون الأسود تقول: «احذر منطقة ألغام»، مثل مئات العمارات الأخرى.
ويضيف ماجد: «هذه العمارة تقع على الحد الذي كان يفصل بين قوات المتطرفين وقوات الجيش في المدينة. ويوجد في مقابل العمارة مركز (زهرة بنغازي التجاري). وهو مدمر حالياً. ومنه أطلقت قوات (داعش) قذيفة هاون أدت لمقتل شقيقي، واسمه درويش».
وتطوع ماجد مع قوات الجيش، ثم تدرب وانضم كجندي نظامي، وأصبح له رقم عسكري. ويتذكر تلك الأيام قائلاً: «كنت أعيش مع الجيش. التموين من الجيش، والذخيرة من الجيش. كنا متطوعين مع الجيش؛ أي مع جماعة القوات البحرية هنا. احتل الدواعش بيتي بعد أن دخلوه، وحين رجعت وجدته مدمراً بشكل كامل. من الخارج تعتقد أنه لا يوجد فيه أي أضرار تذكر؛ لكن من الداخل دمار تام. كان في العمارة ألغام، وما زال فيها ألغام. واستشهد فيها اثنان من جيراني حين جاءا لمعاينة بيتهما بعد خروج الدواعش منه. رب أسرة وشاب».
وبينما هو يقول ذلك، كانت طلقات الرصاص تصفر في الهواء قادمة من ناحية «سيدي خريبيش». وفي شارع آخر تمكن الجيش من تطهير مبانيه من الألغام والمفخخات، دخل عمال مرفق الكهرباء لتوصيل التيار إلى البيوت، وإصلاح المحطات المعطوبة. ويقول عامل كهرباء بجوار محطة المعرض الصناعي: «بدأنا العمل قبل أن تنتهي الاشتباكات في الجوار. أي نقطة يحررها الجيش، ندخل وراءه من أجل إعادة تشغيل الكهرباء فيها».
ويضيف أن «العمل يستمر أحياناً حتى والخطر ماثل للعيان، من أجل إرسال رسالة إلى المخربين بأنهم مهما دمروا من محطات كهرباء ومحطات مياه، فإن يد الإصلاح وراءهم. وفي يوم 15 يوليو من هذا العام، استشهد زميلنا ورفيقنا في المرفق، خالد حسن، في داخل محطة الكهرباء المجاورة لسيدي خريبيش. انفجر فيه لغم في محطة الشويخات، بعد خروج الدواعش من المنطقة. لقد قاموا بتلغيم أكثر من محطة كهرباء».
وتبدو محطة المعرض الصناعي للكهرباء متضررة من القذائف، وهي أصلاً متهالكة لأنها قديمة؛ لكنها كانت تعمل. ويقول مسؤول بالمرفق: «سيتم تجديدها بالكامل ضمن خطة لتجديد مرافق بنغازي». وفي الجانب الآخر من الشارع كانت مجموعة من عمال الكهرباء في ملابسهم الزرقاء يواصلون العمل، وهم يحفرون في الأرض لإصلاح الكابلات التي جرى تفجيرها على أيدي المتطرفين.
ورغم ضراوة المعارك التي جرت هنا، فإن معظم السكان والعمال يستمدون روح التفاؤل من سيّدة مسنة تدعى «الحاجة خديجة»؛ لأنها لم تترك بيتها رغم ضربات الصواريخ والتفجيرات التي كانت تهز الأرض وتحيل العمارات لأنقاض.
ويقول أحد العمال وقد بدت على وجهه ابتسامة من التحدي والإصرار: «نحن سعداء بمن يعودون إلى بيوتهم في المناطق التي تم تطهيرها من المفخخات. ومن يعود نهرع لتوصيل الكهرباء له. نحن لا ننسى الحاجَّة خديجة التي ظلت تقيم في بيتها هنا رغم الحرب والموت. وبعد أن هدأت حدة الاقتتال في هذه المنطقة، وبعد أن جئنا لترميم كوابل الكهرباء، أصبحت الحاجَّة تتردد علينا لتشجيعنا. تأتي لنا بالفطور والغداء، ولم تكن قد تخلت عن بيتها منذ وصول الدواعش، حتى هروبهم».
ويحيط بهذه المنطقة المدمرة مبان متداعية أيضاً بفعل المواجهات الشرسة بين الجيش والتنظيمات المتطرفة. ومنها مبنى «الإدارة العامة للخطوط الليبية»، و«دار الكتب الوطنية» و«عمارة الضمان»، حيث كانت هذه العمارة ذات الشرفات المثقوبة، مرصداً للإرهابيين والدواعش. وبجوارها عمارات سكنية قد تهاوت أعمدتها الخرسانية والتوت شرفاتها، ولم تعد تصلح إلا للتصوير.
ويقع منزل «الحاجة خديجة» بجوار مبنى «مشروع جوهرة بنغازي»، على أحد خطوط المواجهة بين الجيش و«الدواعش». وكان المبنى يكتسي بالزجاج الأزرق، إلا أن كل هذا تهدم وتبعثر وتحوّل إلى لون بني مختلط بلون الحرائق الأسود. ويبدو أن الحاجَّة قررت اليوم أخذ استراحة بعد أن ساد الهدوء المنطقة إلى حد ما. فحين توجهت «الشرق الأوسط» للمنزل لم تكن موجودة فيه؛ حيث كانت في زيارة لأقارب لها في الضاحية الخلفية، كما يقول أحد جيرانها العائد حديثاً إلى بيته، وهو حميد الفيتوري، ميكانيكي السيارات، الذي كان يتردد على المنطقة أثناء الاقتتال بين حين وآخر، ويعد شاهداً على الصمود الأسطوري للحاجَّة خديجة.
ويقول الفيتوري: «كان الضرب حولنا وفي كل مكان؛ لكن ربنا كريم ورحمته واسعة. قاومنا من أجل البقاء. لم نكن نريد أن نترك مكاننا. وبارك الله في الشباب والقوة المساندة والجيش. وقفوا وقفة لا تقدر بثمن. الكهرباء كانت تقطع كثيراً نظراً للمشكلات. وتعطلت الكابينة، وكان خلفنا محلات للمواد الغذائية ندبر منها احتياجاتنا».
وعن الدمار الكبير المنتشر حول منزله ومنزل جارته، قال: «نحن نرى أن الرجال الذين ضحّوا بحياتهم لن نستطيع أن نعوضهم؛ لكن المباني والعمارات يمكن أن نعيدها بأفضل مما كانت عليه. جماعة الكهرباء ما شاء الله عليهم. الأخ الطيب (موظف في مرفق الكهرباء) لم يتركنا أبداً، ووصَّل لنا تيار النور».
ويعتقد سكان أن «سيدي خريبيش» من الصالحين، وقد وفدَ من المغرب العربي، قبل مئات السنين، واستقر على شاطئ البحر، قرب منارة بنغازي، حيث دفن هناك.
وتأسست المدينة القديمة في هذه المنطقة التي نمت وازدهرت عبر العصور التركية واليونانية والإيطالية. وعزز مقر قصر الملك فيها، في خمسينات القرن الماضي، من مكانتها، كما حاول العقيد معمر القذافي استرضاء الخليط الحضري الذي كان يعيش فيها، من كُتّاب وفنانين وشعراء ورسامين؛ إلى أن انطلقت منها شرارة الانتفاضة ضد حكمه، من أمام مبنى المحكمة القديمة، في عام 2011؛ حيث تعرضت المنطقة برمتها لدمار كبير استمر حتى الآن.
وفي يوم من الأيام، وبينما كانت الحرب مستعرة بين الجيش والدواعش، جاء الفيتوري إلى بيته، ووجد خطوط الكهرباء مقطوعة، فحاول أن يصلحها بنفسه؛ لكنه كاد أن يفقد حياته حين استهدفه قناصة من المتطرفين. يقول: «في أحد الأيام استهدفني القناصة وقفزت من أعلى البيت، حين كنت أحاول أن أشد سلك الكهرباء. وقام الجيش بالتغطية عليَّ إلى أن قفزت. كان الدواعش يعتقدون أنني عسكري. الحاجَّة خديجة، زوجها الحاج عبد الله، قعد فترة في مصر، ولديه ابنته تحضِّر الدكتوراه، وهو مرافق لها هناك، أما هي فقد رفضت الخروج، ومكثت هنا هي وأولادها، منذ بداية الأحداث إلى آخرها».
وكان المركز الرئيسي لـ«داعش»، في العمارة ذات الـ18 شقة، على بعد عدة أمتار من بيت الحاجة خديجة. ويقول أحد المحققين إن المركز يحتوي على أدلة تثبت تورط قادة للميليشيات وزعماء سياسيين من طرابلس ومصراتة، ومن دول خارجية، في إمداد المتطرفين في بنغازي بكميات ضخمة من الأسلحة والأموال، طوال العامين الماضيين، وذلك بعد أن أصبح يطلق على تحالف المحاربين في المدينة اسم «مجلس شورى ثوار بنغازي».
ومن بين هذه الأدلة نص محضر «اجتماع تكميلي» عقد في قاعة فندق «ريكسوس» في طرابلس، وشارك فيه قادة معروفون بأسمائهم. ويقول المحقق: «عثرنا على هذا المحضر وأدلة أخرى في حاسوب أحد الدواعش في بنغازي».
واطلعت «الشرق الأوسط» على نص المحضر. وجاء فيه قرار من قيادات في العاصمة بتعضيد قوات المتطرفين في بنغازي، وتخفيف الضغط عنهم بفتح جبهة ضد الجيش الذي يقوده حفتر، في منطقة الموانئ النفطية، وتأسيس محفظة استثمارية في إحدى الدول الداعمة لـ«مجلس شورى ثوار بنغازي» للإنفاق منها على عمليات الجماعات المتطرفة في بنغازي.
وفي تلك الأثناء كان تنظيم «شورى بنغازي» يعمل على تأمين آخر حصونه في محيط «سيدي خريبيش» انتظاراً للمدد من غرب البلاد. وكان هذا الحصن في شارع الشويخات في مواجهة محور الجيش، حيث يسعى التنظيم لعرقلة تقدم الجنود، بينما كان منزل الحاجة خديجة يقع في المنتصف. وقام التنظيم المتطرف بتعطيل مضخة المجاري، ما أدى إلى ارتفاع منسوب المياه في الشوارع الواقعة ناحية تمركز الجيش، إلى مستوى لا يمكن معه فتح باب السيارة «إذا فتحته دخلت عليك مياه المجاري»، كما يقول الفيتوري.
وفي واحدة من العمليات «البطولية» التي أصبح يتفاخر بها أبناء المنطقة، أنه، وبعد أن أصبحت أيدي الشبان مشغولة بحمل السلاح، تقدمت مجموعة من المتطوعين من كبار السن، ودخلوا إلى مضخة الصرف الصحي التي أعطبها الدواعش، وأمضوا نهاراً بأكمله وسط الروائح الكريهة للمياه التي كانت تصل إلى صدورهم، وهم يحاولون إصلاح المضخة، بينما القذائف تنفجر حول رؤوسهم.
ويقول الفيتوري، وهو يقف أمام بيته المثقوب في عدة مواقع بفعل الضربات الصاروخية: «تمكنت مجموعة من كبار السن، كمتطوعين، من إعادة تشغيل المضخة بالفعل. وصفقنا لهم دون أن نهاب الموت. منهم الحاج نجيب عبد الجواد، وفرج الفرجاني، وخالد الشلماني، وآخرون».
وفر غالبية المقاتلين أمام تقدم الجيش إلى خارج بنغازي، عبر طرق برية تقع في غرب المدينة، ومنها توجهوا إلى غرب البلاد، وانضموا إلى ما أصبح يعرف بـ«سرايا الدفاع عن بنغازي»، بقيادة العميد مصطفى الشركسي، الذي ما زال يعد نفسه آمراً لمنطقة بنغازي العسكرية، وفقاً لقرار من المؤتمر الوطني أو البرلمان السابق، بحسب ما قاله الشركسي نفسه. بينما تقهقرت عناصر أخرى إلى الخلف، إلى أن علقت في داخل «سيدي خريبيش».
وحين تحاول الوصول إلى «سيدي خريبيش» فلا بد أن تسلك طريق الكورنيش من ناحية الغرب. ومن هناك تمر على المباني العتيقة التي ترتبط بأحداث سياسية كبرى في تاريخ ليبيا، إلا أن كل هذه المباني أصبحت أكواماً من التراب والحجارة. ومنها مقر متحف بنغازي، ومقر «قصر المنار» الذي ألقى الملك إدريس السنوسي، من شرفته، خطاب الاستقلال في مطلع خمسينات القرن الماضي. وإذاعة بنغازي القديمة التي أعلن منها القذافي «بيان ثورة 1969». وطالت الأضرار أيضاً مبنى الاتحاد الاشتراكي الذي كان كنيسة فيما مضى، ومبنى شركة الموانئ، ومقر الجوازات، وإدارة الجمارك، وغيرها.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.