المدنيون المنسيون... ضحايا الغارات

زيارات ميدانية لأكثر من 150 موقعاً قصفتها غارات التحالف في العراق

المدنيون المنسيون... ضحايا الغارات
TT

المدنيون المنسيون... ضحايا الغارات

المدنيون المنسيون... ضحايا الغارات

يقول المسؤولون العسكريون الأميركيون إن الحرب الجوية ضد تنظيم داعش هي الأكثر دقة في التاريخ... ولكن في العراق، يشير أحد التحقيقات الميدانية إلى أن الغارات الجوية لقوات التحالف قد تسببت في مصرع عدد كبير من المدنيين أكثر مما ذكرته التقارير في السابق. ويتساءل الناجون من هذه الغارات عن سبب استهداف عائلاتهم. وأكثرهم لم يحصل على إجابة لذلك. وهذه قصة أحدهم، ممن حاولوا الوصول إلى إجابة.
في وقت متأخر من مساء 20 سبتمبر (أيلول) لعام 2015، كان باسم رازو يجلس في غرفة مكتبه بمنزله الواقع على الجانب الشرقي من الموصل، إذ كان يتابع شاشة حاسوبه المضاءة أمامه. وكانت زوجته، ميادة، تغط في نوم عميق بالطابق العلوي، ولكن باسم يقضي عادة الساعات الطوال، يتابع عروض السيارات الفارهة على «يوتيوب»... السيارة «بي إم دبليو ألبينا بي7»، والسيارة «أودي كيو7»، وغيرهما. وكان يمضي كل ليلة على هذا المنوال. إذ كان للرجل شغف قديم بالسيارات الرياضية فائقة السرعة. ولكن مع احتلال تنظيم داعش الموصل، أغلقت أبواب جميع معارض السيارات في المدينة، وكانت سيارة العائلة القابعة في المرآب - طراز «بي إم دبليو» لعام 1991 - قلما استخدمت خلال العام الماضي بأكمله. فلم يكن هناك من مكان يذهبون إليه بالسيارة.
كانت عائلة السيد رازو تعيش في حي «وودز»، وهو من الأحياء شبه الريفية على ضفاف نهر دجلة، حيث تتناثر الفيلات الرخامية والجصية في خضم غابات من أشجار الأوكاليبتوس، والشينار، والصنوبر. وكانت المقاهي والمطاعم تنتشر على ضفاف النهر فيما سبق، ولكن منذ سقوط المدينة في قبضة المتطرفين العام الماضي، فضل باسم وزوجته ميادة الترفيه عن أنفسهم داخل جدران المنزل. وكانا يضعان الكراسي بجانب المسبح، ويشويان الكباب على الشواية في الهواء الطلق. وكانت ميادة تحب طهي البيتزا أو الأرز الصيني، في محاولة من الأسرة للمحافظة على أسلوب الحياة المعتاد لديهم من قبل. أما ولدهما، يحيى، فقد تمكن من الفرار إلى أربيل بعدما تخلى عن دراسته في جامعة الموصل، ولم يره أحد منذ ذلك الحين. إذ كان يمكن لمن غادروا المدينة حين استيلاء «داعش» عليها معاودة الدخول مرة أخرى إلى أرض «الخلافة» المزعومة، ولكن بمجرد العودة، لا يمكنهم المغادرة مجددا، وهو المأزق الذي أعاق حركة الكثير من الناس الذين تقطعت بهم السبل أينما وجدوا أنفسهم في هذه المدينة المنكوبة. وكانت أعياد الميلاد، ومراسم الزفاف، وحفلات التخرج تأتي وتذهب، وتجمدت الاحتفالات في قلوب الناس انتظارا لتلك اللحظة المستحيلة بعيدة المنال، وهي لحظة التحرير.
وإلى جوار منزل باسم هناك منزل يماثله تقريبا وهو لشقيقه مهند وزوجته عزة. ولقد كانا نائمين في تلك الساعة على الأرجح، ولكن باسم ظن أن ابنهما الوحيد نجيب البالغ من العمر 18 عاما لا يزال مستيقظا حتى الساعة. وقبل بضعة أشهر، ألقي القبض على نجيب بواسطة الشرطة الدينية لدى «داعش» بتهمه ارتداء السروال الجينز والتيشيرت الذي يحمل بعض الكلمات باللغة الإنجليزية. وبالتالي كانت العقوبة عشر جلدات بالسوط، وكإجراء إضافي للمذلة والإهانة قامت الشرطة الدينية بحلق شعر رأسه تماما. ومنذ ذلك الحين كان نجيب يلزم المنزل طوال الوقت ولا يخرج أبدا، ويقضي أغلب أوقاته على «فيسبوك». ولقد كتب يقول قبل بضعة أيام على صفحته: «سوف ينتهي كل شيء في يوم من الأيام. وحتى ذلك اليوم، سوف أحتفظ بقوتي وصمودي».
وفي بعض الأحيان، وبعد ذهاب والديه إلى النوم، كان نجيب يحاول الحصول على المفتاح من الخزانة والذهاب خلسة إلى بيت عمه. وكانت لدى باسم المقدرة الكبيرة على أن يجعل ابن أخيه ينسى الواقع المظلم الذي يعيشون فيه. كان يؤمن دائما بنصف الكوب الممتلئ، من واقع إيمانه بأن حياة البشر - كل انتكاسة وكل نجاح، وكل كسرة للقلب وكل انتصار - ليست إلا قدرا مكتوبا منذ بلوغ الإنسان أربعين يوما في رحم أمه.
لم يكن باسم رجلا متدينا بالمعنى الحرفي للكلمة، بيد أن لمحة الإيمان الضئيلة تلك أيدت ما بدا له كحقيقة لا مناص منها، حتى في زمن الحرب بالعراق: كل شيء يحدث لسبب ما. كان ذلك من التأكيدات التي يعرضها بنفسه على الجميع، لقد فقد نجله يحيى عاما كاملا من دراسته الجامعية بلا جدوى، ولكنه في منفاه قد تعرف وتقدم لخطبة شريكة حياته. وقال مخاطبا زوجته ميادة: «ألا ترين؟ إنه القدر!»
كانت تلك المشاعر تعيش داخل باسم بقدر ما كان يتذكر. وهو المحاسب البالغ من عمره 56 عاما ويعمل لدى شركة «هواوي»، شركة الاتصالات الصينية متعددة الجنسيات، وكان قد درس الهندسة في ثمانينات القرن الماضي لدى جامعة ويسترن ميتشيغان بالولايات المتحدة. وكان يعيش بصحبة زوجته في شقة صغيرة من غرفة نوم وحيدة في بورتاغ بولاية ميتشيغان تلك الشقة التي استغلتها زوجته ميادة مقرا لعملها بصفتها ممثلة مبيعات لشركة «آيفون» لمستحضرات التجميل. ولقد بدأت بداية صغيرة، حيث كانت تحاول بيع مستحضرات التجميل وكريمات البشرة للجيران. وسرعان ما وسعت مبيعاتها إلى مقاطعات كالأمازو وكومستوك بالولاية نفسها. وفي غضون عام، تمكنت من ادخار ما يكفي من المال لابتياع كاميرا طراز «مينولتا» بسعر 700 دولار هدية لزوجها باسم. واعتاد باسم الاعتماد على مقدرتها في فرض النظام كل ما هو غريب ودنيوي في الغربة، وإتقان كل شيء تقريبا من الفروض المنزلية إلى سرعة البديهة في التحضير لنزهات أعضاء هيئة التدريس إلى جانب نوادي الروتاري. لقد كان القدر! وقد ظلا متزوجين الآن لمدة 33 عاما.
وبحلول منتصف الليل في منزله بالموصل، استمع باسم إلى صوت قادم من الطابق الثاني، فنظر، فإذا لمحة من الضوء تخرج من غرفة نوم ابنته «تُقى» ذات الـ21 عاما. فطلب منها أن تذهب إلى فراشها، إذ صار الوقت متأخرا. وكان من عادتها البقاء مستيقظة لوقت متأخر من الليل، وفي حين أن باسم يدرك أنه ليس بالمثال الجيد لابنته في ذلك، وأن الظروف الحالية لا توفر الأسباب الكافية للاستيقاظ المبكر، إلا أنه يعتقد في الأثر المهدئ للنوم المبكر والاستيقاظ المبكر كعادة من عادات الحياة. وانتظر عند أسفل الدرج، وطلب منها النوم مجددا، فانطفأ نور الغرفة وساد الظلام الدامس المكان.
وكانت الساعة قد قاربت الواحدة صباحا عندما أغلق حاسوبه الشخصي، واتجه للطابق العلوي لأجل أن ينام. واستقر بجسده إلى جوار زوجته، التي كانت تغط في نوم عميق. وفي وقت لاحق، انتفض مستيقظا. وكانت ملابس نومه غارقة في عرق غزير، وأحس على لسانه بطعم غريب للغاية - إنها الدماء! كان الهواء ثقيلا ولاذعا. وكان لا يزال في غرفة نومه، ولكن سقف الغرفة كان قد اختفى تقريبا. واستطاع أن يرى السماء ليلا، ويلحظ النجوم في أجواء الموصل. ووجد باسم ساقيه وقد بلغتا مسافة قريبة للغاية من وجهه بما تبقى من حطام سريره. فانتابه الذعر الشديد. وتحول إلى جانبه الأيسر، فرأى كومة من الحطام. صرخ مناديا على زوجته، فلم تأته إجابة وأحس بصمت مطبق يلف المكان. فصرخ مرة أخرى مناديا على ابنته. كانت جدران غرفة النوم قد تلاشت هي الأخرى، ولم يبق منها سوى الأعمدة الجرداء. وكان يستطيع أن يرى رؤوس الأشجار على مسافة غير بعيدة في ظلام المساء. وتمكن من الاستماع إلى صوت أنثوي يصيح من على مسافة قريبة. فصرخ مجيبا الصوت الذي أجابه صراخا بصراخ. كانت زوجة أخيه «عزة» تنادي عليه من مكان ما في الخارج: «أين أنت؟»، فأجابها قائلا: «لقد ماتت ميادة!».
قالت زوجة أخيه: «كلا، كلا، سوف أعثر عليها!». فأكد لها بصياحه الملتاع: «كلا يا عزة لقد ماتت. لقد رحلوا جميعا!».
وفي وقت لاحق من اليوم نفسه، نشرت قوات التحالف لمحاربة تنظيم داعش في العراق وسوريا بقيادة الولايات المتحدة مقطعا على صفحتها بموقع «يوتيوب»، يحمل عنوان: «غارة قوات التحالف تدمر منشأة تابعة لـ(داعش) بالقرب من الموصل»، بتاريخ 20 سبتمبر (أيلول) لعام 2015. ويعرض المقطع مشاهد ليلية طيفية باللونين الأبيض والأسود لمبنيين متقاربين من تصوير إحدى الطائرات المقاتلة كانت تحوم ببطء في الأفق. وليس هناك صوت في مقطع الفيديو. وفي غضون ثوان معدودة، اختفت المباني من على المقطع إثر انفجارات غلفتها سحابة من الدخان الكثيف. وكان الهدف، وفقا لمقطع الفيديو، هو منشأة لصناعة السيارات المفخخة في شبكة من «المنشآت المتعددة المنتشرة في جميع أنحاء الموصل والمستخدمة في صناعة العبوات الناسفة لصالح أنشطة (داعش) الإرهابية»، التي تشكل «تهديدا مباشرا لكل من المدنيين وقوات الأمن العراقية». وبعد ذلك، وعندما عثر باسم على ذلك المقطع، تمكن من مشاهدة اللحظات الأولى فقط. وكان يعرف على الفور أن المباني الظاهرة في المقطع هي لمنزله ومنزل أخيه.
وذلك المقطع هو واحد من مئات المقاطع التي نشرتها قوات التحالف منذ بدء الحرب التي تقودها الولايات المتحدة ضد تنظيم داعش الإرهابي في أغسطس (آب) لعام 2014، ولقد نُشرت أيضا على مواقع وزارة الدفاع الأميركية، بغية إثبات الحملة العسكرية الجارية التي ليست كأي حملة أخرى - من حيث الدقة، والشفافية، والصرامة. وفي معرض جهودها لطرد «داعش» من العراق وسوريا، نفذت قوات التحالف أكثر من 27 ألفا و500 غارة جوية حتى اليوم، واستخدمت فيها معظم أنواع الطائرات في ترسانتها، من قاذفات «بي - 52» الكبيرة وحتى الطائرات المسيرة الحديثة. والقوة الجوية الساحقة قد مكنت القوات البرية المتقدمة من التغلب على المقاومة العنيفة على الأرض واستعادة أغلب المدن في جميع أنحاء المنطقة. يقول الميجور شين هوف، الناطق الرسمي باسم القيادة المركزية: «تعمل القوات الأميركية وقوات التحالف بكل جدية للالتزام بمعايير الدقة في العمليات، ونتيجة لذلك، فهي تنفذ واحدة من أكثر الحملات الجوية دقة في التاريخ العسكري». وقالت قوات التحالف إنها تمكنت منذ أغسطس (آب) لعام 2014 من قتل عشرات الآلاف من مقاتلي «داعش» ونحو 466 مدنيا في العراق، وذلك وفقا لما ورد في إجمالي الإحصاءات الشهرية الخاصة بهم.
كان باسم لا يزال في غرفة نومه، ولكن سقف الغرفة قد انهار بالكامل. وكان يستطيع رؤية السماء والنجوم في ليل الموصل.
ولكن، لم تكن عائلة باسم من بين أولئك الذين كانوا في الحسبان حتى استطعنا الدفع بقصته إلى وسائل الإعلام. إذ كانت ميادة، وتُقى، ومهند، ونجيب؛ أربعة من المدنيين العراقيين المنسيين الذين أدرجت قوات التحالف وفاتهم على حساب «داعش». وتشير التقديرات الصادرة عن مختلف المنظمات غير الحكومية المعنية بالشأن العراقي إلى أن إجمالي وفيات المدنيين العراقيين هو أكبر بكثير مما ذكرته تقارير قوات التحالف، غير أن قوات التحالف تعارض هذه الأرقام بقوة، وتقول إنها لا تستند إلى معلومات استخبارية محددة، ولكن إلى التقارير الإخبارية المدنية وأقوال شهود العيان التي جمعت من بعيد.
بيد أن تقاريرنا الخاصة، التي تجمعت على مدى 18 شهرا كاملة، تظهر أن الحملة الجوية لقوات التحالف لا تحظى بالقدر المزعوم من الدقة المعلنة من جانب قوات التحالف. فما بين أبريل (نيسان) 2016 ويونيو (حزيران) 2017، عملنا على زيارة المواقع التي قصفتها غارات قوات التحالف، التي بلغت 150 غارة جوية، في مختلف أنحاء شمال العراق، بعد فترة ليست بالطويلة من إخلاء تلك المناطق من «داعش» وعناصره. ووجدنا أن واحدة من كل خمس غارات لقوات التحالف من التي وقفنا عليها قد أسفرت عن وفيات في صفوف المدنيين، وهو المعدل الذي يزيد على 31 مرة مما تم الاعتراف به من جانب قوات التحالف. وبصرف النظر تماما عن الادعاءات الرسمية، ومن حيث وفيات المدنيين، فإنها قد تكون أقل الحروب شفافية في التاريخ الأميركي الحديث.
استيقظ باسم في أحد عنابر مستشفى الموصل العام، مثقلا بالكثير من الضمادات. وكان مشوشا للغاية، ولكنه تذكر محاولة إخلائه من بين أنقاض منزله، إذ كانت أيادي الجيران تحاول انتشاله هناك، وألقى به الحفار بهدوء على الأرض، وكانت سيارة الإسعاف ذات الأضواء الساطعة تنتظره في الجوار.
وفي المستشفى، كان باسم على دراية بأطقم الممرضين والعاملين، ولكنه لم ير أي وجه مألوف حتى الصباح. كان بجواره شقيق زوجته ميادة. وعندما سأله باسم عمن نجا من أهل بيته، قيل له: لا أحد. لقد أدى الانفجار إلى مقتل زوجته وابنته على الفور. وأسفرت الضربة الثانية عن مقتل مهند ونجيب في المنزل المجاور. وكانت عزة والدة نجيب على قيد الحياة، بسبب أن قوة الانفجار قد دفعت بها عبر نافذة الطابق الثاني. وانتقل باسم إلى منزل والديه في الجزء الجنوبي من المدينة. ولمدة يومين، كان يستقبل الزيارات من الأقارب وأصدقاء العائلة، ولكنه كان يتعرف على وجوههم بصعوبة بالغة. وفي اليوم الثالث، وجد نفسه قادرا على الوقوف، وبدأ في متابعة الصور المحفوظة على هاتفه. وإحدى آخر هذه الصور التقطت في الليلة السابقة على الغارة: كانت صورة لتُقى وهي تبتسم في المطبخ. وشرع في البكاء للمرة الأولى منذ خروجه من المستشفى. ثم تغلب على مشاعره وفتح صفحته على «فيسبوك». وكتب يقول: «في منتصف الليل، استهدفت طائرات التحالف منزلين للمدنيين الأبرياء. فهل هذه هي التكنولوجيا المتقدمة؟ إنه هجوم بربري وحشي كلفني حياة زوجتي، وابنتي، وشقيقي، وولده». وعلى نحو مفاجئ، بدا الأمر كما لو كانت المدينة بأسرها على معرفة بالأمر، وتدفقت الرسائل على حسابه في فيضان عجيب.
بالنسبة لباسم، كانت الأيام القليلة التالية على الهجوم قد مرت في ضباب شديد. أنزله سائق مأجور إلى إحدى سيارات الدفع الرباعي، حيث أزيلت المقاعد الخلفية لأجل وضع مرتبة مخصصة للاتكاء عليها. وسار به عبر ريف «داعش»، والقرى الرثة المغطاة بأكوام من القمامة والقاذورات. وفي فترة بعد الظهيرة، وصلا سويا إلى جبل سنجار، حيث تم إبعاد النساء الإيزيديات قبل عام كامل على أيدي «داعش» وبيعهم في سوق النخاسة والعبيد.
وانطلقا عبر أميال تلو الأميال من الصحراء الشاسعة. ولم يكن باسم قادرا على التمييز بين البلدات السورية الصغيرة التي مرا بها ولكنه كان يعلم عندما وصلا إلى مدينة الرقة، عاصمة خلافة «داعش» المزعومة، وانتقل إلى سيارة أخرى بواسطة مجموعة من المشاة. وسرعان ما انطلق سائق جديد بباسم في حقول القمح والقطن المظلمة عبر طرق ضيقة ووعرة. وفي بعض الأحيان، كانت الآلام التي تهاجمه فوق احتماله. وكانا يتوقفان لقضاء المساء، ولكنه لم يكن يعلم أين بالتحديد. وعند الفجر، كانا ينطلقان مرة أخرى عبر الطريق. وبعد فترة، التقط السائق علبة من السجائر من أسفل مقعده، وكانت ممنوعة في عاصمة الخلافة المزعومة. شعر باسم بالقلق، ولكن السائق طمأنه مبتسما وقال: «لا تقلق. لقد صرنا في منطقة الجيش السوري الحر».
وقبل مرور فترة طويلة، تباطأت حركة المرور، وكانا يتحركان عبر شوارع مزدحمة باللاجئين، والأطفال المشردين، والمتمردين السوريين. وعبر باسم الحدود على كرسي متحرك. وكان ينتظر على الجانب التركي من الحدود، ووجد ابنه يقف بجانب سيارة للإسعاف. وانحنى يحيى محتضنا والده وهو يبكي بكاء مريرا. إذ لم ير بعضهما البعض منذ ما يربو على عام كامل. قضى باسم الشهرين التاليين متنقلا بين أسرّة مستشفى العظام المتخصص في مدينة أضنه التركية. وفي الساعات الطويلة بين العمليات الجراحية، وعندما كانت مسكنات الآلام تمنحه بعضا من الهدوء، كان يحاول تفادي ذكريات كارثة حياته المفجعة.
ينتمي باسم إلى إحدى كبار عائلات الموصل العريقة، ومن بين العشرات المنحدرين من سلالة هذه العائلة - كما تقول الروايات - هناك أربعون من الأنبياء ممن استقرت بهم الأحوال على الضفاف الساخنة لنهر دجلة القديم، في الجهة المقابلة من مدينة نينوى، العاصمة الآشورية القديمة. وعلى الرغم من أن المدينة التي أسسوها قد ذاع صيتها واكتسبت سمعة المدن المحافظة، فكان باسم يتذكر بعض أوقات الذوق العالمي التي عايشها هناك برفقة عائلته.
في سبعينات القرن الماضي، ومع تعزيز صدام حسين قبضته على مقاليد السلطة، بدأت التعددية التي اتسمت بها الموصل في التلاشي، غير أن باسم لم يكن هناك بما فيه الكفاية ليعايش ذلك التلاشي والاختفاء. إذ غادر إلى المملكة المتحدة في عام 1979، ثم انطلق بعد ذلك صوب الولايات المتحدة. وكان الاستقرار في الحياة بولاية ميتشيغان من السهولة بمكان. إذ ابتاع باسم لنفسه سيارة «موستانغ»، وحصل على التأمين الصحي، وتعلم إقامة حفلات الشواء، وذهب إلى حفلات الكوكتيل، والتقى امرأة كان قد تقابل معها ذات مرة في إنجلترا. ولقد أثارت هذه التطورات قلق والديه، اللذين شرعا في مناصحته بالاستقرار والبحث عن زوجة، وأشارا عليه بابنة عمه ميادة. ولكنه قاوم الأمر في البداية، بيد أن جاذبية بدء حياة جديدة مع إنسان من الوطن كانت أكبر من مقاومته. وتزوج بميادة في عام 1982، في حفل بسيط بمنزل عمه في آن أربور بولاية ميتشيغان في حضور حفنة من الأشخاص والأصدقاء.
وبوصفه الابن الأكبر، شعر باسم بقلق متزايد ناحية والديه المسنين، ولذلك وفي عام 1988، اتخذ بصحبة زوجته القرار الصعب بالعودة إلى الوطن بصفة دائمة. وكانت الموصل التي عادا إليها قد نالتها تحولات مريعة. كانت الحرب العراقية الإيرانية في مراحلها الأخيرة، ولكنها بتكلفة باهظة بلغت نحو نصف مليون قتيل من الشعب العراقي. وكانت البدائل السياسية المتاحة في شباب باسم قد اختفت تماما؛ فلقد سُحقت الشيوعية تماما في البلاد، وفقدت القومية العربية بريقها تحت وطأة النزعة البعثية لديكتاتورية نظام صدام حسين.
لقد قمنا بزيارة ما يقرب من 150 موقعا لغارات قوات التحالف في مختلف أنحاء شمال العراق، إثر سعينا لتحديد القوات الجوية المسؤولة عنها، ومن الذي تسببوا في وفاته من المدنيين. وكانت الفكرة القائلة بمنح التعويضات للضحايا المدنيين من الحروب الأميركية حتى وقت قريب من الأفكار الراديكالية التي تحوم على أطراف العقيدة العسكرية الأميركية. وخلال الصراعات في العراق وأفغانستان، بدأ المخططون الحربيون في التركيز الجاد على تعويضات التعازي، وكانوا يعتبرونها من وسائل تحسين العلاقات مع السكان المحليين، ومنع مزيد من الهجمات الانتقامية. وسرعان ما شرعت القوات الأميركية في إنفاق آلاف الدولارات سنويا للسكان المدنيين الذين تكبدوا الخسائر جراء العمليات القتالية، وذلك لكل شيء من الأضرار التي لحقت بالممتلكات وحتى وفيات أفراد العائلات. وكانت التعويضات في أفغانستان، على سبيل المثال، تتراوح من 124 دولارا لأحد المتوفين من المدنيين وحتى 15 ألف دولار في حالة أخرى. وعندما انسحبت الولايات المتحدة من العراق في عام 2011. رغم كل شيء، توقفت جميع برامج تعويضات التعازي هناك، ولم تعد إلى العمل مرة أخرى مع بدء الولايات المتحدة حربها ضد «داعش» في عام 2014.
ومع خروج الموصل والرقة من سيطرة «داعش» في الوقت الراهن، فإن قوات التحالف «لن تقضي الكثير من الوقت تنظر في أمر» تعويضات التعازي، على نحو ما صرح العقيد جون توماس، الناطق الرسمي باسم القيادة الوسطى الأميركية، الذي أضاف: «إننا نعزز جهودنا لصالح سلامة المجتمع وعودة اللاجئين بدرجة ما إلى منازلهم». وفي حين أن مساعدة الضحايا من المدنيين لم تعد على رأس الأولويات العسكرية، فلا تزال بعض الجهات تستشعر القلق إزاء عمليات الانتقام.
* خدمة «نيويورك تايمز»



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.