ولد الحارس الإيطالي العملاق جيانلويجي بوفون في مدينة كرارا بإقليم توسكانا الإيطالي، الذي استخرج منه الرخام الذي استخدمه الفنان العالمي الشهير مايكل أنغلو في صناعة تمثال داود في عصر النهضة قبل 500 عام من الآن. وقد يجرى استخراج جزء آخر من الرخام لصناعة تمثال جديد لأفضل حارس مرمى في تاريخ إيطاليا، والذي اعتزل اللعب الدولي والدموع تملأ عينيه خلال الأسبوع الحالي، بعد المباراة التي انتهت بالتعادل السلبي أمام السويد وفشل منتخب «الأزوري» في الصعود لكأس العالم الصيف المقبل بروسيا، لكن هذه الأفعال في تلك المواقف الصعبة هي التي تحجز لبوفون مكانا بين العظماء في تاريخ الساحرة المستديرة. لكن الشيء الذي سيعجز أعظم النحاتين في العالم عن إظهاره هو ما يقدمه بوفون داخل المستطيل الأخضر، إذ يمكنك أن تقضي 90 دقيقة كاملة في مشاهدة التعبيرات المختلفة التي تظهر على وجهه، بدءا من الغضب الشديد والواضح في عينيه إلى الابتسامة الماكرة، كما ستعجب أيضاً بالطريقة التي يقدم بها نفسه للمنافسين على أنه تجسيد للصمود والعزيمة والروح الرياضية العالية.
لقد أمتعنا بوفون بتصدياته الخرافية التي لا يمكن لغيره أن يقوم بها، والتي ظهرت منذ بداية مسيرته الحافلة بالإنجازات من خلال تصديه للتسديدة القوية من اللاعب الإيطالي الكبير أندريا بيرلو عندما كان اللاعبان في بداية مشوارهما الكروي عام 1996، فكان بيرلو يدافع عن ألوان إنتر ميلان في الوقت الذي كان يحرس فيه بوفون عرين نادي بارما. سدد بيرلو كرة قوية لكن بوفون أنقذ الكرة ببراعة في مشهد أظهر للجميع أن هذا الحارس الشاب سيكون له مستقبل كبير في عالم كرة القدم. وعلاوة على ذلك، سوف يتذكر الجميع أن بوفون قد ساهم بشكل كبير في تطور أزياء حراس المرمى، بداية من القمصان قصيرة الأكمام التي كان يرتديها.
ولا يلقي أي شخص باللوم على بوفون في إخفاق المنتخب الإيطالي الكارثي في الوصول لنهائيات كأس العالم للمرة الأولى منذ 60 عاما بعد تعادله السلبي أمام السويد الاثنين الماضي. فقد ظهر بوفون وزملاؤه في خط الدفاع - والذين ساهموا في حصول نادي يوفنتوس على لقب الدوري الإيطالي الممتاز ست مرات متتالية خلال الفترة بين عامي 2011 و2017 وهم ليوناردو بونوتشي وأندريا بارزالي وجورجيو كيليني - بمستوى جيد أمام السويد على ملعب «سان سيرو». وحتى الهدف القاتل الذي استقبلته شباك إيطاليا في السويد قبل ثلاثة أيام من تلك المباراة جاء من تسديدة خدعت بوفون عدما غيرت اتجاهها نتيجة اصطدامها بلاعب آخر. وخلال مباراة العودة، قدم بوفون وخط دفاعه مباراة جيدة تتماشى مع الدفاع القوي المعروف عن الطليان بصفة عامة، لكن المشكلة كانت تكمن في مكان آخر وليس في خط الدفاع.
وكانت مباراة إيطاليا أمام السويد هي المباراة رقم 77 التي يحافظ فيها بوفون على نظافة شباكه خلال الـ175 مباراة الدولية التي دافع فيها عن ألوان المنتخب الإيطالي، وهما رقمان قياسيان من بين كثير من الأرقام القياسية التي حققها الحارس العملاق. كان بوفون يمني النفس بأن يصبح أول لاعب كرة قدم في التاريخ يلعب في خمس نهائيات لكأس العالم، وربما كان من الممكن أن يرتفع هذا العدد إلى ست بطولات لكأس العالم لو كان قد استدعي من على مقاعد البدلاء للمشاركة في المباريات خلال نهائيات كأس العالم بفرنسا عام 1998. وقاد بوفون منتخب إيطاليا للوصول لدور الستة عشر في كأس العالم 2002، ثم الحصول على لقب المونديال عام 2006، لكنه تعرض لإصابة في المباراة الافتتاحية لإيطاليا في كأس العالم 2010، قبل أن يخرج منتخب بلاده من دور المجموعات في كأس العالم 2014 بالبرازيل.
وفي الحقيقة، تعكس النتائج التي حققتها إيطاليا المستوى الذي وصلت إليه كرة القدم الإيطالية بصفة عامة خلال الـ15 عاما الماضية. وكان الانتصار الأعظم للمنتخب الأزوري خلال هذه الفترة عام 2006 قد جاء عن طريق الفوز بركلات الجزاء الترجيحية على منتخب فرنسا الذي خاض اللقاء بعشرة لاعبين بعد استفزاز أفضل لاعب في العالم آنذاك زين الدين زيدان وحصوله على البطاقة الحمراء. وبعد ذلك، ودعت إيطاليا المونديال مرتين متتاليتين من دور المجموعات، وهو ما يعكس تدهور مستوى الدوري الإيطالي الممتاز، الذي أصبح يتعين عليه الآن أن يعمل على استعادة أمجاده بعد سنوات من الفضائح وغياب النجوم.
ولو نجح خط هجوم المنتخب الإيطالي في إحراز هدفين في مرمى السويد في المباراة التي أقيمت على معلب «سان سيرو» مساء الاثنين الماضي، لشارك بوفون في كأس العالم الصيف المقبل وهو في الحادية والأربعين من عمره. وقد تكون هذه بمثابة إشارة أخرى على وجود شيء خاطئ في كرة القدم الإيطالية، وهو اعتمادها على اللاعبين الكبار في السن، ويكفي أن نعرف أن دينو زوف، الحارس الكبير لنادي يوفنتوس ومنتخب إيطاليا، كان في الحادية والأربعين من عمره أيضاً عندما خاض آخر مباراة دولية من المباريات الـ112 التي لعبها بقميص منتخب إيطاليا، وكان ذلك بالتحديد في مايو (أيار) 1983، وللمفارقة كانت هذه المباراة أيضاً أمام السويد وخسرها منتخب إيطاليا ليفشل في التأهل لنهائيات كأس الأمم الأوروبية عام 1984. وكان أصغر لاعبين في تشكيلة المنتخب الإيطالي في مباراة السويد الأخيرة أمام السويد في الخامسة والعشرين من العمر!
ويجب أن نشير إلى أنه عندما فاز المنتخب الإيطالي بكأس العالم في إسبانيا عام 1982، كان الفريق يضم، إلى جانب زوف الذي كان في الأربعين من عمره، المدافع جوزيبي بيرغومي الذي كان في الثامنة عشرة من عمره وواصل الدفاع عن ألوان المنتخب الإيطالي في 81 مباراة دولية. وكان نجم الفريق آنذاك باولو روسي، الذي سجل في كل جولة من جولات البطولة، في الخامسة والعشرين من عمره، كما كان اللاعبون الثمانية الآخرون في التشكيلة الأساسية لمنتخب إيطاليا في المباراة النهائية أمام ألمانيا الغربية في العشرينات من عمرهم.
يمكنك أن تبحر في الإحصائيات المتعلقة بكرة القدم كما تريد، لكنك لن تجد إجابة محددة بشأن توقيت التحول من الخبرة إلى الشباب في كرة القدم العالمية. لقد حققت ألمانيا طفرة في الاعتماد على الشباب قبل عدة سنوات، وبدأت تجني ثمار ذلك. ويحاول منتخب إنجلترا تبني نهج مماثل في الوقت الحالي، لكن يجب علينا أن ننتظر بطولة كأس عالم وربما بطولتين لكي نرى ما إذا كان النجاح الكبير الذي حققته المنتخبات الإنجليزية تحت 17 عاما و20 عاما سيتحول إلى نجاح مماثل على مستوى المنتخب الأول في البطولات القارية أم لا.
ولا تظهر الحقيقة إلا بعد فوات الأوان، وهذا هو ما حدث مع منتخب إيطاليا خلال هذا الأسبوع، بعد أن تمسك لفترة طويلة بالاعتماد على الحرس القديم. ولم يتمكن المدير الفني لمنتخب إيطاليا، والذي لم يكن اختياره موفقاً على الإطلاق، من تجديد دماء الفريق بالشكل الذي ربما كان من الممكن أن يقوم به مدير فني مثل أنطونيو كونتي في حال توليه المسؤولية. وسوف تبدأ عملية إعادة بناء الفريق مرة أخرى باعتزال بوفون والاعتماد على حارس ميلان البالغ من العمر 18 عاما جيانلويجي دوناروما في حراسة المرمى.
وكانت أول مرة يشاهد فيها الإنجليز بوفون في نوفمبر (تشرين الثاني) 2000، في المباراة الودية التي أقيمت في تورينو. وكان بوفون، الذي كان في الثانية والعشرين من عمره آنذاك، يلعب خلف خط دفاع قوي مكون من فابيو كانافارو وأليساندرو نيستا وباولو مالديني. وكانت المواجهة الثانية بعد 15 عاما، وبالتحديد في مارس (آذار) 2015، وانتهت بالتعادل الإيجابي بهدف لكل فريق وأقيمت في الملعب الجديد لنادي يوفنتوس الإيطالي.
وبعد اعتزاله اللعب الدولي، سيكون بوفون متقدما على الحارس الإسباني إيكر كاسياس، منافسه الأقوى من بين حراس المرمى الأوروبيين في القرن الحادي والعشرين، بثماني مباريات دولية. يذكر أن كاسياس، الذي فقد مكانه في صفوف المنتخب الإسباني لصالح ديفيد دي خيا، أصغر من بوفون بثلاث سنوات، لكنه يتفوق عليه فيما يتعلق بالحصول على البطولات الدولية، حيث حصل على كأس الأمم الأوروبية مرتين ودوري أبطال أوروبا ثلاث مرات، وهما البطولتان اللتان لم يحصل عليهما بوفون، لكن الحارس الإيطالي حصل على ثمانية بطولات للدوري المحلي مقابل خمسة لكاسياس. لا يتعين عليك أن تختار الأفضل من بينهما، لكن يجب عليك أن تعتبر نفسك محظوظا لأنك عشت في هذه الحقبة التي لعب خلالها الحارسان العملاقان بكل مهارة وحماس وذكاء والتزام وساعدا على إعادة تعريف فن حراسة المرمى في عالم كرة القدم.
وهكذا بالدموع والأسى بعد الفشل في بلوغ نهائيات مونديال 2018، ودع بوفون مرحلة زاخرة مع المنتخب الإيطالي، جعلت منه أحد أفضل حراس المرمى في التاريخ. وبدلا من أن تنتهي المسيرة تحت أضواء الملاعب الروسية المضيفة لمونديال 2018، وجد بوفون نفسه يكفكف دموعه بعد التعادل السلبي لمنتخب بلاده أمام ضيفه السويدي.
وقال بوفون وهو شبه منهار لقناة «راي» الإيطالية: «لا أشعر بالأسى تجاه نفسي بل تجاه الكرة الإيطالية. لقد فشلنا في أمر يعني الكثير على الصعيد الاجتماعي». وأضاف: «أنا واثق من وجود مستقبل لكرة القدم الإيطالية لأننا شعب يملك كبرياء وتصميما وبعد السقوط نجد دائما وسيلة للنهوض».
والمفارقة أن مسيرة بوفون مع المنتخب الإيطالي بدأت كما انتهت: في ملحق مؤهل إلى نهائيات كأس العالم. تحت ثلوج العاصمة الروسية موسكو عام 1997، تعرض الحارس السابق للمنتخب جانلوكا باليوكا للإصابة، ودفع مدرب المنتخب في حينها تشيزاري مالديني، باليافع بوفون. سأل مالديني بوفون: «هل تشعر بأنك قادر على الحلول بديلا؟»، ولم يخيب الحارس الشاب الآمال: لعب، وكان جيدا، كما هو الحال في كل مرة تقريبا وقف بين الخشبات الثلاث.
منذ ذلك العام، لم يغب بوفون عن المنتخب: بداية كحارس احتياطي، ولاحقا كحارس أساسي، وحامل شارة القيادة في ختام مسيرته. مع يوفنتوس، كان بوفون صمام الأمان خلف الدفاع، وساهم في ثمانية ألقاب أحرزها فريق «السيدة العجوز» في الدوري الإيطالي. ومع المنتخب، شكل مفتاحا أساسيا في إحراز لقب كأس العالم 2006، إذ تلقى مرماه هدفين فقط في سبع مباريات، وهو رقم قياسي يتشاركه مع الحارسين السابقين الإسباني إيكر كاسياس والفرنسي فابيان بارتيز.
إلا أن بوفون ينفرد عن أقرانه بكونه حارس المرمى الوحيد الذي أحرز جائزة أفضل لاعب التي يمنحها الاتحاد الأوروبي للعبة (2003).
وفي مباراته الدولية الأخيرة، ستبقى الدموع الذكرى المحفورة عن بوفون، إضافة إلى تقدمه إلى منطقة الجزاء السويدية خلال ركلتين ركنيتين لمنتخب بلاده في المراحل الأخيرة من المباراة. كما ستبقى عالقة في الذاكرة طريقته في أداء النشيد الوطني: مغمض العينين وممسكا بقوة بكتف زميله في المنتخب الواقف إلى جانبه، أيا يكن.
بدأ بوفون الذي يتحدر من عائلة رياضة (والدته كانت رامية للقرص، ووالده رافعا للأثقال) مسيرته مع نادي بارما، وأحرز معه كأس إيطاليا والكأس السوبر الإيطالية وكأس الاتحاد الأوروبي، قبل الانضمام إلى يوفنتوس عام 2001 في صفقة قدرت بنحو 51 مليون يورو. أحرز مع «السيدة العجوز» الألقاب المحلية، إلا أنه افتقد اللقب القاري الأغلى: دوري أبطال أوروبا الذي بلغ مباراته النهائية مرتين في المواسم الثلاثة الماضية، دون أن يتمكن من إحراز اللقب.
بوفون... سجل اسمه في قائمة أفضل حراس المرمى على مر التاريخ
أحد عمالقة «الساحرة المستديرة» يودع بالدموع مسيرة زاخرة مع المنتخب الإيطالي
بوفون... سجل اسمه في قائمة أفضل حراس المرمى على مر التاريخ
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة