بريتي باتيل... سقوط نجم المحافظين البريطانيين

استقالت بعد عقدها 12 لقاء غير معلن مع سياسيين إسرائيليين

بريتي باتيل... سقوط نجم المحافظين البريطانيين
TT

بريتي باتيل... سقوط نجم المحافظين البريطانيين

بريتي باتيل... سقوط نجم المحافظين البريطانيين

25 ألف شخص تابعوا رحلة لخطوط الطيران الكينية، الأربعاء الماضي، عبر موقع «فلايت رادار 24». حملت هذه الرحلة وزيرة التنمية البريطانية السابقة إلى لندن، بعد أن قطعت رحلة رسميةإلى أفريقيا للعودة إلى العاصمة وتقديم استقالتها.
وخلال الساعات التي سبقت هبوط الطائرة الكينية في مطار هيثرو اللندني، تعالت أصوات النواب البريطانيين في مجلس العموم: «أين هي باتيل؟»، ليردّ أليستر بيرت وزير الدولة للشؤون الخارجية: «إنها في الأجواء». وحاول بيرت تبرير سلسلة لقاءات غير معلنة عقدتها باتيل، دون علم حكومتها، مع مسؤولين إسرائيليين، بينهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، لعشرات النواب الغاضبين.
لم تتجه باتيل إلى مجلس العموم بعد رحلتها التي استمرت 9 ساعات، بل ذهبت مباشرة إلى «10 داونينغ ستريت»، مقر رئاسة الوزراء الذي دخلته من الباب الخلفي، إذ انتظرت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي. وبعد اجتماع لم يتجاوز 6 دقائق، وفق مصادر مطلعة، نشرت الحكومة البريطانية رسالة قدمت فيها الوزيرة التي لم تتجاوز سن الـ45، استقالتها. وكتبت: «أقدم اعتذاري الكامل لك وللحكومة لما حصل، وأقدم استقالتي». وغادرت باتيل «10 داونينغ ستريت»، من حيث دخلت: الباب الخلفي.

«نجم» المحافظين الصاعد
ولدت باتيل في لندن في عام 1972، في منطقة هارو بلندن، لسوشيل وأنجانا باتيل. يتحدّر والداها من غوجرات الهندية، التي هاجروا منها إلى أوغندا. وفي ستينات القرن الماضي، بعد فترة قصيرة من إعلان الرئيس عيدي أمين عن قرار طرد جميع الأوغنديين من أصول آسيوية، غادر الزوجان إلى بريطانيا واستقرّا في منطقة هارتفوردشير، شرق إنجلترا.
التحقت باتيل بمدرسة «واتفورد» للبنات، قبل أن تدرس الاقتصاد في جامعة كيل، ومن هناك التحقت في السلك الثاني بجامعة إسيكس للتخصص في الحكومة البريطانية والعلوم السياسية.
اتخذت باتيل من مارغريت ثاتشر «قدوة سياسية»، وقالت لموقع «توتال بوليتيكس» في 2012 إن ثاتشر «كانت لديها القدرة على فهم ما يهمّ الناس، والعائلات وقطاع الأعمال. (كانت لديها القدرة على) إدارة الاقتصاد، وتحقيق التوازن في الحسابات، واتخاذ القرارات. ليس شراء أشياء لا تستطيع الدولة تحمّل تكاليفها».
والتحقت باتيل بحزب المحافظين خلال فترة ترؤس جون ميجور الحكومة في تسعينات القرن الماضي.
عملت باتايل في المكتب الإعلامي لحزب المحافظين في لندن في عام 1997، لترأَس بعدها المكتب الصحافي للحزب. وغادرت باتيل منصبها في حزب المحافظين في عام 2000، لتنضمّ إلى شركة «ويبير شاندويك» الاستشارية.
وزعمت صحيفة «الغارديان» البريطانية في عام 2005 أن باتيل كانت واحدة من أعضاء الشركة الذين تسلموا إدارة ملفّ الشركة الأميركية - البريطانية للتبغ، التي كانت محور فضيحة في ميانمار عام 2003، على خلفية مزاعم بتمويلها النظام العسكري الديكتاتوري البورمي.
رشّحت باتيل نفسها في عام 2005 عن حزب المحافظين في دائرة منطقة نوتينغهام نورث، لكنها خسرت الرهان الانتخابي لصالح المرشح العمالي غراهام آلين. لكنها تقدمت مجدداً في انتخابات عام 2010، ليتم انتخابها في عهد ديفيد كاميرون، رئيس وزراء بريطانيا السابق. وأصبحت نائبة عن حزب المحافظين عن دائرة ويثام (Witham) في مقاطعة إسيكس. وقد أعيد انتخابها في 2015 نائبة عن دائرتها، بعد حملة انتخابية واجهت فيها هجمات شخصية اعتبر أنصارها أنها كانت عنصرية أحياناً وتمييزية ضدها كونها امرأة.
واعتذر منافسها العمالي آنذاك، جون كلارك، عن وصفها بـ«غبية القرية» و«شريرة بوند».
وأصبحت باتيل أمينة الخزانة، قبل أن تصبح وزيرة العمل في حكومة كاميرون. واعتبرت هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» أن الحزب كان ينظر إليها كنجمة صاعدة بسبب نشاطها وعملها الدؤوب في فترة الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
ومُنحت منصب وزيرة التنمية بعد تولي تيريزا ماي رئاسة الوزراء في عام 2016.
في المقابل، اعتبر زميلها المحافظ كرسبين بلانت أن صعود باتيل السريع إلى مركز السلطة، جاء نتيجة «تمييز إيجابي»، باعتبارها «بريطانية من أصول آسيوية» نجحت «بشكل ممتاز» في حزب المحافظين.

نساء من أجل بريطانيا
برزت باتيل بعد إعلان ديفيد كاميرون تنظيم استفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي، مدافعةً شرسةً عن حملة الخروج. واعتبرت باتيل أن الاتحاد الأوروبي يفتقر إلى الديمقراطية ويتدخّل في حياة البريطانيين اليومية. وانتقدت بشكل خاص تأثير الهجرة من الاتحاد الأوروبي على موارد بلادها، خصوصاً على المدارس البريطانية التي تعاني من أزمة اكتظاظ.
وأطلقت باتيل، خلال توليها وزارة الدولة لشؤون العمل، حملة «نساء من أجل بريطانيا»، قارنت فيها النساء الداعمات لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بحركة «Suffragette» التي دعمت حق النساء في التصويت بين نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
وقالت باتيل في مارس (آذار) 2016 لشبكة «سكاي نيوز» إن تردد الناخبات البريطانيات سببه «حملة التخويف التي يقودها معسكر البقاء في الاتحاد الأوروبي». وأضافت: «أدعو الناخبات إلى التفكير في الاتحاد الأوروبي وأسلوب اتخاذ القرار فيه، وكيف سيؤثّر عليهن وأطفالهن والأجيال المقبلة، خصوصاً فيما يتعلّق بالحصول على الخدمات العامة وسنّ القوانين المحلية».
وواجهت حملة باتيل انتقادات حادّة من هيلين بانكهيرست، حفيدة إحدى أشهر النساء اللائي شاركن في الحملة لحصول النساء على حق التصويت في حركة Suffragette، وأدانت استخدام إنجازات إيملين بانكهيرست التاريخية لدعم حملة «بريكست»، وفق صحيفة «الغارديان» البريطانية.
وعقب تصويت 51 في المائة من الناخبين البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، واستقالة كاميرون، عام 2016، دعمت باتيل بقوة تيريزا ماي في سعيها للحصول على رئاسة الوزراء. وقالت باتيل إن ماي تتمتّع بالقوة والتجربة اللتين يتطلّبهما المنصب، واعتبرت أن أندريا ليدسوم (أبرز منافسات ماي في 2016) لا تحظى بدعم حزب المحافظين وستتسبّب في تقسيمه.
وقارنت باتيل في مقابلة مع «تلغراف» ليدسوم بجيريمي كوربين زعيم حزب العمال الذي «قسّم المعارضة»، على حدّ قولها.

فضيحة «اللقاءات السرية»
كانت باتيل تتمتع بشعبية واسعة بين المحافظين، خصوصاً الداعمين منهم للانسحاب من الاتحاد الأوروبي، حتى إن بعضهم لم يستبعد أن تتسلّم هي رئاسة الحزب في المستقبل. لكن طموحها السياسي اصطدم الأسبوع الماضي بفضيحة تسببت في استقالتها من منصب وزيرة التنمية وفي إضعاف تيريزا ماي وبرنامجها السياسي.
فقد أثارت باتيل جدلاً سياسياً كبيراً في بريطانيا خلال الأيام الماضية، بعدما كُشف أنها عقدت 12 لقاء مع مسؤولين إسرائيليين، بينهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، أثناء عطلة من 13 يوماً وصفتها بـ«العائلية» أمضتها في إسرائيل في أغسطس (آب)، بغير علم حكومتها.
وأوردت تقارير إعلامية بريطانية أن ستيوارت بولاك، الرئيس الفخري لمجموعة ضغط مؤيدة لإسرائيل تسمى «أصدقاء إسرائيل المحافظين»، هو من رتّب هذه اللقاءات التي لم يحضرها أي مسؤول بريطاني آخر.
وأفاد مكتب رئيسة الوزراء البريطانية بأن باتيل قالت لماي إنها بحثت مع محاوريها الإسرائيليين إمكانية تمويل المساعدات التي يقدمها الجيش الإسرائيلي للجرحى السوريين في الجولان، الذي لا تعترف بريطانيا بضم إسرائيل للقسم المحتل منه. ويتناقض ذلك مع الموقف الرسمي لبريطانيا، وفق وكالة الصحافة الفرنسية، الذي يعتبر تمويل الجيش الإسرائيلي في هضبة الجولان «غير مناسب» لأنها تعتبرها أرضاً محتلة، كما ذكر وزير في البرلمان الثلاثاء الماضي.
وأضاف بيان مكتب رئاسة الحكومة أن الوزيرة تعرضت للتوبيخ الشخصي من ماي. لكن وكالة «برس أسوسييشن» البريطانية نقلت أن باتيل أغفلت في إقرارها باللقاءات ذكر لقاءين آخرين نُظّما في سبتمبر (أيلول) مع وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي غلعاد أردان، ومدير عام وزارة الخارجية يوفال روتيم.
وأكدت وزارة التنمية هذه اللقاءات، لافتة إلى أنها لم تتبّع إجراءات التنظيم المعتمدة.
واعتبر حزب العمال المعارض تصرّف باتيل في اللقاءات غير المعلنة بـ«مخالفات خطيرة» لقواعد السلوك الوزاري ارتكبتها الوزيرة المحافظة. وقالت إيفيت كوبر، العضو البارز في حزب العمال، لهيئة «بي بي سي» معلقة على آخر فضيحة تواجهها حكومة ماي: «ليس لدينا الانطباع بوجود توجيه أو بأن رئيسة الوزراء تمسك بزمام الأمور، في الوقت الذي نحتاج حقاً إلى حكومة تعمل (بصورة جيدة). هذا يضر بصورتنا في العالم في حين تجري مفاوضات دولية حاسمة».
كما اتهم «عماليون» آخرون الوزيرة المستقيلة بـ«تضليل» الرأي العام البريطاني.
يُشار إلى أن وزارة الخارجية البريطانية تطالب دبلوماسييها ووزراءها بعدم عقد لقاءات دون علمها، تفادياً لإرسال إشارات متضاربة للحكومات الأجنبية.
وزاد رحيل باتيل المؤيدة بشدة للانفصال عن الاتحاد الأوروبي (بريكست) من إضعاف فريق ماي المنقسم، في وقت يخوض مفاوضات حاسمة مع بروكسل بهذا الشأن.
وكتبت باتيل في رسالة استقالتها أن «تقارير عدة نُشرت حول ما قمت به، وأنا آسفة للبلبلة التي أثرتها».
وقبلت ماي الاستقالة، وردت في رسالة أكدت فيها أن «بريطانيا وإسرائيل حليفتان مقربتان، ومن الصواب أن نعمل معاً عن قرب، لكن يجب أن يتم الأمر بصورة رسمية».
وكانت باتيل ثاني وزير يغادر حكومة ماي خلال أسبوع، بعد وزير الدفاع مايكل فالون الذي استقال في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) بسبب فضيحة تحرش جنسي هزت الطبقة السياسية، وتهدد بإسقاط مقرب آخر من ماي هو نائبها داميان غرين، وكذلك وزير الدولة للتجارة الدولية مارك غارنيير.

ماذا بعد الاستقالة؟
بعد أقل من أسبوع على استقالتها من حكومة ماي، عادت باتيل إلى واجهة الساحة السياسية بهجوم لاذع على زعيم المعارضة العمالية. وقالت باتيل خلال جلسة في مجلس العموم، أول من أمس، إن حزب العمال «يودّ أن يحكمه الاتحاد الأوروبي».
وأضافت خلال دفاعها على موقف الحكومة من قانون الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، أن بريطانيا أمام فرصة لسلك الطريق الصحيح، وتطبيق إرادة الشعب البريطاني.
واعتبرت أن بعض المعارضين لا يثقون في ديمقراطية بريطانيا وفي قدرتها على «حكم نفسها».
وجاءت تصريحات باتيل في إطار معركة تخوضها ماي ضد المعارضة العمالية وبعض المحافظين «المتمردين» حول مشروع القانون الذي يهدف إلى وضع حد لسيادة التشريعات الأوروبية على القانون البريطاني.
وكان البرلمان صادق في قراءة أولى في سبتمبر الماضي على هذا النص الحيوي الذي من المفترض أن يتيح للمؤسسات في المملكة المتحدة مواصلة أعمالها بشكل طبيعي بعد خروجها بشكل تام من الاتحاد الأوروبي.
لكن مراجعته بشكل دقيق تأخرت، وبررت الحكومة ذلك بضرورة أخذ الوقت الكافي لدراسة مختلف التعديلات الـ188 التي تقدم بها نواب من مختلف الانتماءات الحزبية، وستكون موضوع المراجعة أمام البرلمان في الأسابيع المقبلة.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.