بريتي باتيل... سقوط نجم المحافظين البريطانيين

استقالت بعد عقدها 12 لقاء غير معلن مع سياسيين إسرائيليين

بريتي باتيل... سقوط نجم المحافظين البريطانيين
TT

بريتي باتيل... سقوط نجم المحافظين البريطانيين

بريتي باتيل... سقوط نجم المحافظين البريطانيين

25 ألف شخص تابعوا رحلة لخطوط الطيران الكينية، الأربعاء الماضي، عبر موقع «فلايت رادار 24». حملت هذه الرحلة وزيرة التنمية البريطانية السابقة إلى لندن، بعد أن قطعت رحلة رسميةإلى أفريقيا للعودة إلى العاصمة وتقديم استقالتها.
وخلال الساعات التي سبقت هبوط الطائرة الكينية في مطار هيثرو اللندني، تعالت أصوات النواب البريطانيين في مجلس العموم: «أين هي باتيل؟»، ليردّ أليستر بيرت وزير الدولة للشؤون الخارجية: «إنها في الأجواء». وحاول بيرت تبرير سلسلة لقاءات غير معلنة عقدتها باتيل، دون علم حكومتها، مع مسؤولين إسرائيليين، بينهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، لعشرات النواب الغاضبين.
لم تتجه باتيل إلى مجلس العموم بعد رحلتها التي استمرت 9 ساعات، بل ذهبت مباشرة إلى «10 داونينغ ستريت»، مقر رئاسة الوزراء الذي دخلته من الباب الخلفي، إذ انتظرت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي. وبعد اجتماع لم يتجاوز 6 دقائق، وفق مصادر مطلعة، نشرت الحكومة البريطانية رسالة قدمت فيها الوزيرة التي لم تتجاوز سن الـ45، استقالتها. وكتبت: «أقدم اعتذاري الكامل لك وللحكومة لما حصل، وأقدم استقالتي». وغادرت باتيل «10 داونينغ ستريت»، من حيث دخلت: الباب الخلفي.

«نجم» المحافظين الصاعد
ولدت باتيل في لندن في عام 1972، في منطقة هارو بلندن، لسوشيل وأنجانا باتيل. يتحدّر والداها من غوجرات الهندية، التي هاجروا منها إلى أوغندا. وفي ستينات القرن الماضي، بعد فترة قصيرة من إعلان الرئيس عيدي أمين عن قرار طرد جميع الأوغنديين من أصول آسيوية، غادر الزوجان إلى بريطانيا واستقرّا في منطقة هارتفوردشير، شرق إنجلترا.
التحقت باتيل بمدرسة «واتفورد» للبنات، قبل أن تدرس الاقتصاد في جامعة كيل، ومن هناك التحقت في السلك الثاني بجامعة إسيكس للتخصص في الحكومة البريطانية والعلوم السياسية.
اتخذت باتيل من مارغريت ثاتشر «قدوة سياسية»، وقالت لموقع «توتال بوليتيكس» في 2012 إن ثاتشر «كانت لديها القدرة على فهم ما يهمّ الناس، والعائلات وقطاع الأعمال. (كانت لديها القدرة على) إدارة الاقتصاد، وتحقيق التوازن في الحسابات، واتخاذ القرارات. ليس شراء أشياء لا تستطيع الدولة تحمّل تكاليفها».
والتحقت باتيل بحزب المحافظين خلال فترة ترؤس جون ميجور الحكومة في تسعينات القرن الماضي.
عملت باتايل في المكتب الإعلامي لحزب المحافظين في لندن في عام 1997، لترأَس بعدها المكتب الصحافي للحزب. وغادرت باتيل منصبها في حزب المحافظين في عام 2000، لتنضمّ إلى شركة «ويبير شاندويك» الاستشارية.
وزعمت صحيفة «الغارديان» البريطانية في عام 2005 أن باتيل كانت واحدة من أعضاء الشركة الذين تسلموا إدارة ملفّ الشركة الأميركية - البريطانية للتبغ، التي كانت محور فضيحة في ميانمار عام 2003، على خلفية مزاعم بتمويلها النظام العسكري الديكتاتوري البورمي.
رشّحت باتيل نفسها في عام 2005 عن حزب المحافظين في دائرة منطقة نوتينغهام نورث، لكنها خسرت الرهان الانتخابي لصالح المرشح العمالي غراهام آلين. لكنها تقدمت مجدداً في انتخابات عام 2010، ليتم انتخابها في عهد ديفيد كاميرون، رئيس وزراء بريطانيا السابق. وأصبحت نائبة عن حزب المحافظين عن دائرة ويثام (Witham) في مقاطعة إسيكس. وقد أعيد انتخابها في 2015 نائبة عن دائرتها، بعد حملة انتخابية واجهت فيها هجمات شخصية اعتبر أنصارها أنها كانت عنصرية أحياناً وتمييزية ضدها كونها امرأة.
واعتذر منافسها العمالي آنذاك، جون كلارك، عن وصفها بـ«غبية القرية» و«شريرة بوند».
وأصبحت باتيل أمينة الخزانة، قبل أن تصبح وزيرة العمل في حكومة كاميرون. واعتبرت هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» أن الحزب كان ينظر إليها كنجمة صاعدة بسبب نشاطها وعملها الدؤوب في فترة الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
ومُنحت منصب وزيرة التنمية بعد تولي تيريزا ماي رئاسة الوزراء في عام 2016.
في المقابل، اعتبر زميلها المحافظ كرسبين بلانت أن صعود باتيل السريع إلى مركز السلطة، جاء نتيجة «تمييز إيجابي»، باعتبارها «بريطانية من أصول آسيوية» نجحت «بشكل ممتاز» في حزب المحافظين.

نساء من أجل بريطانيا
برزت باتيل بعد إعلان ديفيد كاميرون تنظيم استفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي، مدافعةً شرسةً عن حملة الخروج. واعتبرت باتيل أن الاتحاد الأوروبي يفتقر إلى الديمقراطية ويتدخّل في حياة البريطانيين اليومية. وانتقدت بشكل خاص تأثير الهجرة من الاتحاد الأوروبي على موارد بلادها، خصوصاً على المدارس البريطانية التي تعاني من أزمة اكتظاظ.
وأطلقت باتيل، خلال توليها وزارة الدولة لشؤون العمل، حملة «نساء من أجل بريطانيا»، قارنت فيها النساء الداعمات لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بحركة «Suffragette» التي دعمت حق النساء في التصويت بين نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
وقالت باتيل في مارس (آذار) 2016 لشبكة «سكاي نيوز» إن تردد الناخبات البريطانيات سببه «حملة التخويف التي يقودها معسكر البقاء في الاتحاد الأوروبي». وأضافت: «أدعو الناخبات إلى التفكير في الاتحاد الأوروبي وأسلوب اتخاذ القرار فيه، وكيف سيؤثّر عليهن وأطفالهن والأجيال المقبلة، خصوصاً فيما يتعلّق بالحصول على الخدمات العامة وسنّ القوانين المحلية».
وواجهت حملة باتيل انتقادات حادّة من هيلين بانكهيرست، حفيدة إحدى أشهر النساء اللائي شاركن في الحملة لحصول النساء على حق التصويت في حركة Suffragette، وأدانت استخدام إنجازات إيملين بانكهيرست التاريخية لدعم حملة «بريكست»، وفق صحيفة «الغارديان» البريطانية.
وعقب تصويت 51 في المائة من الناخبين البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، واستقالة كاميرون، عام 2016، دعمت باتيل بقوة تيريزا ماي في سعيها للحصول على رئاسة الوزراء. وقالت باتيل إن ماي تتمتّع بالقوة والتجربة اللتين يتطلّبهما المنصب، واعتبرت أن أندريا ليدسوم (أبرز منافسات ماي في 2016) لا تحظى بدعم حزب المحافظين وستتسبّب في تقسيمه.
وقارنت باتيل في مقابلة مع «تلغراف» ليدسوم بجيريمي كوربين زعيم حزب العمال الذي «قسّم المعارضة»، على حدّ قولها.

فضيحة «اللقاءات السرية»
كانت باتيل تتمتع بشعبية واسعة بين المحافظين، خصوصاً الداعمين منهم للانسحاب من الاتحاد الأوروبي، حتى إن بعضهم لم يستبعد أن تتسلّم هي رئاسة الحزب في المستقبل. لكن طموحها السياسي اصطدم الأسبوع الماضي بفضيحة تسببت في استقالتها من منصب وزيرة التنمية وفي إضعاف تيريزا ماي وبرنامجها السياسي.
فقد أثارت باتيل جدلاً سياسياً كبيراً في بريطانيا خلال الأيام الماضية، بعدما كُشف أنها عقدت 12 لقاء مع مسؤولين إسرائيليين، بينهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، أثناء عطلة من 13 يوماً وصفتها بـ«العائلية» أمضتها في إسرائيل في أغسطس (آب)، بغير علم حكومتها.
وأوردت تقارير إعلامية بريطانية أن ستيوارت بولاك، الرئيس الفخري لمجموعة ضغط مؤيدة لإسرائيل تسمى «أصدقاء إسرائيل المحافظين»، هو من رتّب هذه اللقاءات التي لم يحضرها أي مسؤول بريطاني آخر.
وأفاد مكتب رئيسة الوزراء البريطانية بأن باتيل قالت لماي إنها بحثت مع محاوريها الإسرائيليين إمكانية تمويل المساعدات التي يقدمها الجيش الإسرائيلي للجرحى السوريين في الجولان، الذي لا تعترف بريطانيا بضم إسرائيل للقسم المحتل منه. ويتناقض ذلك مع الموقف الرسمي لبريطانيا، وفق وكالة الصحافة الفرنسية، الذي يعتبر تمويل الجيش الإسرائيلي في هضبة الجولان «غير مناسب» لأنها تعتبرها أرضاً محتلة، كما ذكر وزير في البرلمان الثلاثاء الماضي.
وأضاف بيان مكتب رئاسة الحكومة أن الوزيرة تعرضت للتوبيخ الشخصي من ماي. لكن وكالة «برس أسوسييشن» البريطانية نقلت أن باتيل أغفلت في إقرارها باللقاءات ذكر لقاءين آخرين نُظّما في سبتمبر (أيلول) مع وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي غلعاد أردان، ومدير عام وزارة الخارجية يوفال روتيم.
وأكدت وزارة التنمية هذه اللقاءات، لافتة إلى أنها لم تتبّع إجراءات التنظيم المعتمدة.
واعتبر حزب العمال المعارض تصرّف باتيل في اللقاءات غير المعلنة بـ«مخالفات خطيرة» لقواعد السلوك الوزاري ارتكبتها الوزيرة المحافظة. وقالت إيفيت كوبر، العضو البارز في حزب العمال، لهيئة «بي بي سي» معلقة على آخر فضيحة تواجهها حكومة ماي: «ليس لدينا الانطباع بوجود توجيه أو بأن رئيسة الوزراء تمسك بزمام الأمور، في الوقت الذي نحتاج حقاً إلى حكومة تعمل (بصورة جيدة). هذا يضر بصورتنا في العالم في حين تجري مفاوضات دولية حاسمة».
كما اتهم «عماليون» آخرون الوزيرة المستقيلة بـ«تضليل» الرأي العام البريطاني.
يُشار إلى أن وزارة الخارجية البريطانية تطالب دبلوماسييها ووزراءها بعدم عقد لقاءات دون علمها، تفادياً لإرسال إشارات متضاربة للحكومات الأجنبية.
وزاد رحيل باتيل المؤيدة بشدة للانفصال عن الاتحاد الأوروبي (بريكست) من إضعاف فريق ماي المنقسم، في وقت يخوض مفاوضات حاسمة مع بروكسل بهذا الشأن.
وكتبت باتيل في رسالة استقالتها أن «تقارير عدة نُشرت حول ما قمت به، وأنا آسفة للبلبلة التي أثرتها».
وقبلت ماي الاستقالة، وردت في رسالة أكدت فيها أن «بريطانيا وإسرائيل حليفتان مقربتان، ومن الصواب أن نعمل معاً عن قرب، لكن يجب أن يتم الأمر بصورة رسمية».
وكانت باتيل ثاني وزير يغادر حكومة ماي خلال أسبوع، بعد وزير الدفاع مايكل فالون الذي استقال في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) بسبب فضيحة تحرش جنسي هزت الطبقة السياسية، وتهدد بإسقاط مقرب آخر من ماي هو نائبها داميان غرين، وكذلك وزير الدولة للتجارة الدولية مارك غارنيير.

ماذا بعد الاستقالة؟
بعد أقل من أسبوع على استقالتها من حكومة ماي، عادت باتيل إلى واجهة الساحة السياسية بهجوم لاذع على زعيم المعارضة العمالية. وقالت باتيل خلال جلسة في مجلس العموم، أول من أمس، إن حزب العمال «يودّ أن يحكمه الاتحاد الأوروبي».
وأضافت خلال دفاعها على موقف الحكومة من قانون الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، أن بريطانيا أمام فرصة لسلك الطريق الصحيح، وتطبيق إرادة الشعب البريطاني.
واعتبرت أن بعض المعارضين لا يثقون في ديمقراطية بريطانيا وفي قدرتها على «حكم نفسها».
وجاءت تصريحات باتيل في إطار معركة تخوضها ماي ضد المعارضة العمالية وبعض المحافظين «المتمردين» حول مشروع القانون الذي يهدف إلى وضع حد لسيادة التشريعات الأوروبية على القانون البريطاني.
وكان البرلمان صادق في قراءة أولى في سبتمبر الماضي على هذا النص الحيوي الذي من المفترض أن يتيح للمؤسسات في المملكة المتحدة مواصلة أعمالها بشكل طبيعي بعد خروجها بشكل تام من الاتحاد الأوروبي.
لكن مراجعته بشكل دقيق تأخرت، وبررت الحكومة ذلك بضرورة أخذ الوقت الكافي لدراسة مختلف التعديلات الـ188 التي تقدم بها نواب من مختلف الانتماءات الحزبية، وستكون موضوع المراجعة أمام البرلمان في الأسابيع المقبلة.



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».