قراءة «غير أكاديمية» في نصوص هنري ميللر وحياته

الفرنسية فالنتين إيمهوف تعيد {ابتكاره}

قراءة «غير أكاديمية» في نصوص هنري ميللر وحياته
TT

قراءة «غير أكاديمية» في نصوص هنري ميللر وحياته

قراءة «غير أكاديمية» في نصوص هنري ميللر وحياته

صدر أخيراً عن دار «ترانز بوريال» الفرنسية وفي سلسلة «رفقاء الدرب» كتاب «هنري ميللر... سعار الكتابة» وهو من تأليف فالنتين إيمهوف التي سبق أن وضعت رسالتين جامعيتين حول ميللر.
جاء هذا الكتاب الثالث خارج الأكاديمية التي كثيراً ما تقتل النصوص الإبداعية بتشريحها، لذلك تجنبت الكاتبة نشر رسالتيها الجامعيتين، فالناس في الغرب لا ينشرون أعمالهم الأكاديمية، وليس الشأن كما هو لدى كثير منا ممن يخلط بين البحث الأكاديمي والإنتاج الثقافي فيصنفون أستاذ الفلسفة فيلسوفاً وأستاذ العلوم السياسية سياسياً وأستاذ التاريخ مؤرخاً. وأنت تراهم في مجلاتهم الأدبية، وبخاصة تلك التي تصدر عن وزارات الثقافة العربية، والتي يشرف عليها موظفو الوزارة، تراهم ينشرون دراسات أكاديمية كأعمال ثقافية إبداعية فيما يبدو التباس كبير لديهم بين العمل الأكاديمي والعمل الإبداعي.
ولكن لماذا ميللر في فرنسا؟ لأن ميللر وفي جانب كبير منه كاتب فرنسي... فقد اكتشف هويته ككاتب في باريس، وفيها وضع أهم أعماله. وباريس هي التي أمدته بما يسميه «فتّاحة العلب الكونية» عندما حرر قواه الداخلية اللانهائية، وقواه اللاواعية التي تحوي كل شيء، وحرر بالتالي نصه.
كانت الكلمات والجمل تتدفق على لسانه وهو يتنقل في شوارع باريس... ثم لا ننسى تأثير رامبو المبكر على كتابة ميللر. يبدو ميللر رامبو الرواية، وهو في الوقت نفسه أكثر الكتاب الأنغلوسكسونيين لاتينية.
«سعار الكتابة» أو «حمّى الكتابة» كتاب يُقرأ مثل نشيد منساب عبر 172 صفحة و11 فصلاً، قدمت فيه الكاتبة عملاً ذاتياً هو رؤيتها وتجربتها الشخصية مع روايات ميللر ورسائله ورسومه المائية... وموضوعيا، الكتاب هو رحلة عبر محطات حياته: طفولته المبكرة، عائلته، أصدقاء بروكلين الذين سيضع فيما بعد كتاباً عنهم هو كتاب «الأصدقاء»، والنساء اللواتي ارتبط بهن في أسفاره وتجاربه وعثراته وإحباطاته وأحلامه وتأملاته ولحظات صمته. كل هذا ضمن رؤية شمولية لحياة ميللر التي هي أيضاً كتاب آخر.
الكتاب، بعد كل هذا، هو إضافة بحث متقصٍّ للجذور والينابيع البعيدة التي غذّت حياة وأعمال ميللر، وتجاربه داخل العائلة، بين الأب الخياط الكحولي، والأم المتحكمة، وأخته المجنونة. وانطلاقاً من هنا، تشخّص الكاتبة مدى التواشج بين ميللر ونصوصه. فكل ما كُتب هو عبارة عن سيرة ذاتية لا تنتهي. إنه يعامل حياته أيضاً كنص سردي، كمشروع إبداعي، هذه الحياة الحرّة المتأججة هي التي صدرت عنها أعماله الحرة المتأججة هي أيضاً. لم يكن كسره للحدود بين النثر والشعر والتأمل، وهدمه للقوالب والأشكال، مجرد ترف ونزوة كتابية، بل ضرورة حياتية، صورة لحياته الرافضة للتعليب لأن الكتابة بالنسبة إليه كالحياة، قد تبدأ في أي مكان وتنتهي في أي مكان، كما كتب يوماً.
لذلك لم يركن ميللر إلى التقاليد والعادة. لم يسر في الطرق المعبّدة مثل الكتّاب البورجوازيين الصغار الذين كانوا محل سخريته الدائمة. لم يعرف تعابير من نوع «موش معقول... ما يصير...» إلى آخر التعابير الزاجرة، لم يعش كحشرة صغيرة تخشى العائلة والمجتمع ورئيسها في العمل. وكيف يفعل ذاك وهو الكاتب الطلائعي الذي ومنذ البدء اختار الحرية والطيران خارج السرب، إذ تفتّح وعيه مبكراً على رامبو ووالت وايتمان، وتعلم من صعلكته في شوارع بروكلين أكثر مما يمكن تعلمه في أي جامعة، وهو مثل جان جاك روسو عصامي يعتبر أن مقاعد الدرس جحيم للأطفال، ومصنع لتخريج مواطنين أذلاء خانعين يبحثون عن السلامة وليس عن الحقيقة.
في الختام تعرض الكاتبة لبعض أفكار ميللر المبثوثة في رواياته ورسائله، كما تعرض لحياته الروحية ورسومه المائيّة، فتقدم جمله الحكمية في التصوف المتوحش، وديانة الحياة، والجنس كفعل أخلاقي، والكتابة كفتح وحدس وطريقة لاكتشاف الذات، فهو يرى أن الهدف من الكتابة هو إثراء الكينونة ولمس الحقائق الذاتية والكونية، لأن ميللر دائم القراءة في الداخل، ونصوصه قد تبدو كما لو أنها تنويعة على اعترافات إنسان على سرير المحلل النفسي، حيث اللقاء المرير مع الذات.
هنا كتاب نقيض الدراسة الباردة التي تُعنى بتكديس المعرفة أو الأفكار في أحسن حال، وإنما نص يوقظ فيك حس الخلق، نصّ لن يتركك حيادياً، نص يفعل شيئاً فيك وأنت بدورك تعيد صياغته، لذلك يقال إن القراءة هي إعادة خلق للنص. إذ هناك تبادل سحري بين القراءة والإبداع، إنها القراءة الدينامية، وهذا ما سعت إليه فالنتين إيمهوف في كتابها. إنه إعادة خلق لحياة ميللر.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

كيف رفض أبناء «نغوغي واثيونغو» تحرير العقل من الاستعمار؟

الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
TT

كيف رفض أبناء «نغوغي واثيونغو» تحرير العقل من الاستعمار؟

الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته

الروائي والمُنَظِّر الما بعد كولونيالي، الكيني نغوغي واثيونغو، (يتوسط الصورة). يقف مائلاً بجذعه إلى الأمام، ميلاً يكاد لا يُدرك، باسطاً كفيه على كتفي ابنته وانجيكو وا نغوغي (يمين الصورة)، وابنه موكوما وا نغوغي (يسار الصورة)، كأنما ليحتضنهما أو ليتأكد من وجودهما وبقائهما أمامه، أو يتوكأ عليهما بدلاً من التوكؤ على العصا التي ربما أسندها إلى الجدار خلفه، أو في أي بقعة من المكان.

الصورة لقطة لاجتماع عائلي صغير، اجتماع ربما لا يتكرر كثيراً ودائماً ولوقت طويل بين أب يعيش وحيداً إلّا من رفقة كلبه في مدينة «إرفاين» في كاليفورنيا، وابن يقيم في مدينة «إثاكا»، حيث يعمل أستاذاً للأدب في جامعة كورنيل، وابنة استقر بها المقام في مدينة أتلانتا، حيث تعمل أستاذاً للكتابة الإبداعية في كلية الفنون الجميلة في ولاية جورجيا. شتات أسري صغير، نموذج من الشتات الأفريقي (الما بعد كولونيالي) الكبير، تتخلله لحظات مثل لحظة التقائهم في الصورة لحدث يظهر خلاله الشبه بينهم، الشبه العصي على الشتات تبديده ومحوه.

الحدث فعالية توقيع موكوما لروايته الرابعة «انبشوا موتانا بالغناء»، شخصياً أفضل «انبشوا قبور موتانا بالغناء»، وتوقيع وانجيكو لروايتها «مواسم في بلاد أفراس النهر» أو «فصول في بلاد فرس النهر». لا يحتاج إلى تأكيد أن عنواني الروايتين قابلان لأكثر من ترجمة. وبقدر ما تبرز الصورة، أو الحدث في الصورة، من تشابه بين الثلاثة، تقوم بوظيفة المعادل الموضوعي البصري لهذه المقالة التي تجمعهم.

النضال باللغة الأم

لكن هنالك ما لا تظهره الصورة، ولا توحي به. أقصد المفارقة التي يشكلها حضور نغوغي واثيونغو حفل توقيع روايتين مكتوبتين باللغة الإنجليزية لاثنين من أبنائه، اللغة التي توقف عن الكتابة الإبداعية بها في أواخر سبعينات القرن الماضي؛ وكان مثابراً في الدعوة إلى التوقف عن الكتابة بها.

كان قرار نغوغي التوقف عن الكتابة بالإنجليزية والتحول إلى الكتابة بلغته الأم سبباً مباشراً من أسباب اعتقاله والزج به في سجن الحراسة المشددة، عشية السنة الجديدة في عام 1977. كان ابنه موكوما في السابعة من عمره عندما ألقت السلطات الكينية القبض عليه بعد ستة أسابيع من النجاح الشعبي المدوي الذي حققه عرض مسرحيته المكتوبة بلغة «جيكويو»: «سأتزوج عندما أريد»، مسرحية أدّاها ممثلون غير محترفين من الفلاحين، واستهدفت بالانتقاد النخبة الحاكمة الكينية، مما دفع الحكومة إلى اعتقاله تحت ذريعة تشكيله خطراً على البلاد.

في زنزانته التي تحَوَّل فيها إلى مجرد رقم (K677)، وكفعل تحدٍ للسلطة أولاً، وكأداة للمقاومة والنضال من أجل تحرير العقل من الاستعمار ثانياً، بدأ نغوغي، وعلى ورق التواليت، في كتابة روايته الأولى بلغته الأم «شيطان على الصليب». يروي أن ورق التواليت كان مكدساً رصاتٍ تصل سقف الزنزانة، ورق قاس وخشن كأنما أُرِيد أن يكون استخدامه عقاباً للسجناء.

إن توقف نغوغي عن الكتابة بالإنجليزية بعد مرور ما يزيد على عشر سنوات من انعقاد «مؤتمر ماكيريري للكُتّاب الأفارقة الذين يكتبون باللغة الإنجليزية»، وضعه على مفترق طرق في علاقته مع «الماكيريريين»، الذين آمنوا بحتمية وأهمية الكتابة باللغة الإنجليزية، وفي مقدمتهم صديقه الروائي النيجيري تشينوا أتشيبي. ورغم تعكر صفو العلاقة بينهما ظل نغوغي يكنّ الاحترام لأتشيبي ومعترفاً بفضله عليه. فأتشيبي أول شخص قرأ روايته الأولى «لا تبكِ أيها الطفل» حتى قبل أن يكمل كتابتها، عندما حملها مخطوطة مطبوعة إلى مؤتمر ماكيريري أثناء انعقاده في جامعة ماكيريري في العاصمة الأوغندية كامبالا، في يونيو (حزيران) 1962. وكان له الفضل في نشرها ضمن سلسلة هاينمان للكُتّاب الأفارقة.

يقول نغوغي واثيونغو لمواطنه الكاتب كيري بركه في حوار نشر في صحيفة «ذا غارديان» (2023-6-13): «قال أتشيبي إن اللغة الإنجليزية كانت هدية. لم أوافق... لكنني لم أهاجمه بطريقة شخصية، لأنني كنت معجباً به كشخص وككاتب». أتوقع لو أن أتشيبي على قيد الحياة الآن، لعاد للعلاقة بين عملاقي الرواية في أفريقيا بعض صفائها، أو كله. فموقف نغوغي الرافض للاستمرار بالكتابة بلغة المستعمر، فَقَدَ (أو) أفقدته الأيام بعض صلابته، ويبدو متفهماً، أو مقتنعاً، وإن على مضض، بأسباب ومبررات الكتابة الإبداعية بالإنجليزية. فجلاء الاستعمار من أفريقيا، لم يضع - كما كان مأمولاً ومتوقعاً - نهاية للغات المستعمر، كأدوات هيمنة وإخضاع وسيطرة، فاستمرت لغاتٍ للنخب الحاكمة، وفي التعليم.

قرار نغوغي واثيونغو الكتابة باللغة التي تقرأها وتفهمها أمة «وانجيكو» قسم حياته إلى قسمين، ما قبل وما بعد. قِسْمٌ شهد كتاباته باللغة الإنجليزية الممهورة باسم «جيمس نغوغي»، وكتاباته بلغة «جيكويو» باسم نغوغي واثيونغو، تماماً كما قسّم مؤتمر ماكيريري تاريخ الأدب الأفريقي والرواية الأفريقية إلى ما قبل وما بعد - الموضوع الرئيس في كتاب ابنه موكوما وا نغوغي «نهضة الرواية الأفريقية».

في نهضة الراوية الأفريقية

من البداية إلى النهاية، يرافق «مؤتمر ماكيريري» قارئَ كتاب موكوما وا نغوغي «نهضة الرواية الأفريقية... طرائق اللغة والهوية والنفوذ» (الصادر في مارس (آذار) 2024) ضمن سلسلة «عالم المعرفة» للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (الكويت). وترجمه إلى العربية الأكاديمي والناقد والمترجم البروفسور صديق محمد جوهر. لم يكن كتاب نغوغي الابن الباعث على كتابة المقالة فحسب، وإنما المحفز أيضاً، حتى قبل البدء في قراءته، على قراءة رواية شقيقته وانجيكو وا نغوغي «مواسم في بلاد أفراس النهر»، وكانت ترقد على الرفّ لبعض الوقت في انتظار قراءة تهرب إلى الأمام باستمرار. فكان أن قرأت الكتابين في الوقت نفسه، منتقلاً من أحدهما إلى الآخر، بينما صورة نغوغي الأب، أو طيفه يحوم في أفق القراءة، ما جعلني أُسَلِّمُ بأن لا مفرَّ من جمع الثلاثة في مقالة واحدة، وقد وهبتِ الصورة نفسَها معادلاً موضوعياً بصرياً لها.

مؤتمر ماكيريري بآثاره وانعكاساته على الأدب الأفريقي هو الموضوع الرئيس في «نهضة الرواية الأفريقية». كانت المهمة الأولى على أجندة المجتمعين في كمبالا، الذين استثنوا من الحضور كل الذين يكتبون بغير الإنجليزية، تطويق الأدب الأفريقي بحدود التعريف. ولأنه لا توجد حدود دون نشوء لثنائية الداخل - الخارج، فإنهم لم يقصوا الآداب الأفريقية بلغات المستعمر الأخرى فحسب، بل أبقوا خارج الحدود كل الأعمال الأدبية المنشورة باللغات المحلية التي نشرت قبل 1962. على اعتبار أن كل ما سبق ماكيريرى من ثمانينات القرن التاسع عشر كان خطابة.

ينتقد موكوما أدباء ماكيريري على تعريفهم الضيق والإقصائي للأدب الأفريقي، ويدعو إلى أدب أفريقي بلا حدود، يشمل الكتابات المبكرة، وآداب الشتات الأفريقي، والقص الشعبي «popular fiction»، وإلى تقويض التسلسل الهرمي الذي فرضته «الإمبراطورية الميتافيزيقية الإنجليزية»، التي امتد تأثيرها إلى ما بعدَ جلاء الاستعمار، ولم يسلم موكوما نفسه ومجايلوه من ذلك التأثير، فقد نشأ في بيئة معادية للغات الأفريقية. من الأسئلة التي قد تبزغ في ذهن القارئ: ألم يمارس موكوما الإقصاء أيضاً؟ فقد انتقد «أصحاب ماكيريري»، ولم ينتبه إلى أن كتابه «نهضة الرواية الأفريقية» لم يتسع للرواية الأفريقية باللغة العربية وبلغات الاستعمار الغربي الأخرى في أفريقيا.

الأشياء لم تتغير في «فيكتوريانا»

بإزميل حاد نحتت وانجيكو وا نغوغي عالم القصة في روايتها «مواسم في بلاد أفراس النهر»، فجاءت لغتها سهلة وسلسلة، توهم بأن القارئ لن يواجه أي صعوبة في قراءتها. في هذا العالم تتمدد دولة «فيكتوريانا» على مساحة مناطقها الثلاث: ويستفيل ولندنشاير وهيبولاند، ويتربع فيها على عرشه «إمبراطور مدى الحياة». تقدم الرواية «فيكتوريانا» كصورة للدول الأفريقية، التي شهدت فساد وإخفاقات النخب الحاكمة وإحباط آمال الجماهير بعد الاستقلال.

الحكاية في «مواسم في بلاد أفراس النهر»، ترويها بضمير المتكلم الشخصية الرئيسة (مومبي). تبدأ السرد من سن الثالثة عشرة، من حدث له تأثير كبير في حياتها. فبعد افتضاح تدخينها السجائر مع زميلاتها في المدرسة قبل نهاية العام الدراسي بأيام، يعاقبها والداها بإرسالها برفقة شقيقها من «ويستفيل» إلى «هيبولاند» حيث تعيش عمتها سارة.

العمة سارة حكواتية انخرطت في شبابها في حركة النضال ضد المستعمرين، وبعد الاستقلال، وظفت قصصها لبث الأمل والشجاعة وتحريك الجماهير ضد الإمبراطور. الحكاية التي ترويها مومبي هي قصة نموها وتطورها إلى «حكواتية» ترث عن سارة رواية القصص، والتدخل في شؤون الإمبراطورية، لينتهي بها المطاف في زنزانة في سجن الحراسة المشددة. هنا تتسلل خيوط من سيرة نغوغي واثيونغو إلى نسيج الخطاب السردي. إن السرد كقوة وعامل تأثير وتحريض على التمرد والتغيير هو الثيمة الرئيسة في الرواية. ولدرء خطره على عرشه، يحاول الإمبراطور قمع كل أنواعه وأشكاله.

* ناقد وكاتب سعودي