القبضة الأمنية تحجِّم مشروع «داعش» في سيناء

«الشرق الأوسط» رصدت رحلة صعود التنظيمات الإرهابية... وُلدت عام 2003 وبلغت ذروة قوتها في 2015

قوات الجيش المصري تحكم قبضتها على جميع مداخل شبه جزيرة سيناء ({الشرق الأوسط})
قوات الجيش المصري تحكم قبضتها على جميع مداخل شبه جزيرة سيناء ({الشرق الأوسط})
TT

القبضة الأمنية تحجِّم مشروع «داعش» في سيناء

قوات الجيش المصري تحكم قبضتها على جميع مداخل شبه جزيرة سيناء ({الشرق الأوسط})
قوات الجيش المصري تحكم قبضتها على جميع مداخل شبه جزيرة سيناء ({الشرق الأوسط})

رغم تضييق أجهزة الأمن المصرية الخناق على العناصر «الإرهابية»، وقتل العشرات منها أسبوعياً، في محافظة شمال سيناء (300 كيلومتر شمال شرقي القاهرة)، وفقاً لما تذكره البيانات الصحافية للمتحدث العسكري، فإن تلك العناصر تستطيع التحرك والتخفي داخل مدينة العريش (عاصمة الإقليم) وخارجها، لتنفيذ عمليات مسلحة خاطفة، ما يؤدي إلى مقتل أفراد من قوات الجيش والشرطة والمدنيين. كما لم يمنع حظر التجوال المفروض بالمحافظة الساحلية وقوع العمليات الإرهابية المتكررة شكلاً ومضموناً. ورصدت «الشرق الأوسط» جهود السلطات المصرية في مكافحة الإرهاب في شمال سيناء، بجانب تسليط الضوء على مراحل تطور التنظيمات الإرهابية، وطرق تخفيها، وتحركاتها بين القرى والمدن، بجانب تقييم تجربة حرب القبائل السيناوية على تلك التنظيمات المتطرفة، والتي بدأت قبل عامين.
كان شبه جزيرة سيناء، خالٍ تماماً من التنظيمات المتشددة قبل عام 2003، بينما بلغت تلك التنظيمات ذروة قوتها بعد عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي من منصبه في 3 يوليو (تموز) عام 2013، حيث شهدت محافظة شمال سيناء مئات العمليات الدامية بعد هذا التاريخ، وتحولت المنطقة إلى بؤرة ساخنة مليئة بالأحداث.
وأخيراً قتلت العناصر الإرهابية 9 سائقين، بعد إحراق شاحناتهم، بسبب نقلهم مواد إسمنتية من مصنع الإسمنت التابع للقوات المسلحة، وهذا تطور خطير يعكس تمادي تلك التنظيمات في استهداف النشاط الاقتصادي والعمال والمدنيين بشمال سيناء.
وشهدت السنوات الثلاث الأخيرة وقوع أكثر من 1165 عملية إرهابية، وفق دراسة حديثة قام بإعدادها مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وأفادت الدراسة بأن عام 2015، شهد ذروة هذه العمليات، ووقع به أكبر نسبة من عدد العمليات المسلحة، خصوصاً في الأشهر الثلاثة الأولى منه، فقد وقع في شهر يناير (كانون الثاني) 124 عملية إرهابية، ثم حدث انخفاض طفيف لتصل إلى 105 في شهر فبراير (شباط)، ثم بلغت ذروتها في مارس (آذار) بواقع 125 عملية، بينما انخفض عدد العمليات بشكل تدريجي، واستمر منحنى عدد عمليات العنف في التراجع خلال النصف الأول من عام 2016، ثم ارتفع معدل العمليات خلال الربع الأخير من العام نفسه، حيث بلغ عدد العمليات الإرهابية 104 عمليات.
ويسود محافظة شمال سيناء حالياً، هدوء نسبي وانخفاض ملحوظ في عدد العمليات الإرهابية مقارنةً بالسنوات الماضية، لكن الأجهزة الأمنية، وسكان الإقليم يستيقظون كل فترة على هجمات خاطفة ودامية، يسقط فيها عدد كبير من الجنود والضباط والمدنيين، كان أبرزها عملية السطو المسلح على فرع البنك الأهلي بوسط مدينة العريش، وقتل بعض أفراد الشرطة، وسرقة عدة ملايين من الجنيهات.
ثمة انتقادات وجّهها بعض خبراء الأمن المصريين، إلى الاستراتيجية الأمنية لمكافحة الإرهاب في سيناء، خصوصاً بعد تنفيذ عشرات العمليات بنفس الطريقة والتكتيك، دون الاستفادة من دروس العمليات السابقة والمتكررة. ورغم تعرض بعض الأكمنة الأمنية الثابتة لعشرات الهجمات مثل «حي المساعيد» و«كرم القواديس»، و«الريسة»، فإن استراتيجية التأمين لم تتغير حتى الآن، فضلاً عن استهداف الأكمنة المتحركة بنفس الطريقة، من خلال تفجير المعدات العسكرية الثقيلة بالعبوات الناسفة عن بُعد.
ومع أن معظم هذه الهجمات تعتمد على تنفيذ عمليات انتحارية بالسيارات المفخخة، بجانب زرع عبوات ناسفة وتفجيرها عن بُعد، فإن الإرهابيين يستهدفون عناصر الأمن المصرية في الأكمنة بالأسلحة الثقيلة، مثل «آر. بي. جي»، والقذائف الصاروخية، وحسب الخبراء الأمنيين والسياسيين، فإن تطوير آليات وتكتيكات المواجهة أصبح الخيار الوحيد الذي فرضه الواقع بجميع معطياته، للخروج من هذا المستنقع الذي كبّد شمال سيناء الكثير من الخسائر البشرية والمالية وحوّلها إلى محافظة طاردة للسكان يصعب العيش فيها.
قال العميد إيهاب يوسف، الخبير الأمني ورئيس جمعية صداقة الشرطة والشعب، لـ«الشرق الأوسط»: «في ضوء المعلومات المتاحة من الجهات الحكومية والبيانات الرسمية الصادرة عنها، نستطيع القول: إن أجهزة الأمن حققت نجاحات أمنية عدة، لكنها أقل من المتوقع والمستهدف خلال السنوات الأربع الأخيرة».
وأضاف يوسف قائلاً: «رغم مواجهة العناصر الإرهابية في شمال سيناء بمعدات عسكرية ثقيلة مثل الطائرات والدبابات والعربات المصفحة، فإن الرغبة أو القدرة على سد بعض الثغرات ليست كما يجب». واعتبر يوسف أن «تنفيذ عمليات إرهابية في جنوب سيناء عام 2006، في أثناء وجود (الدولة القوية)، مؤشر دقيق على وجود تنظيمات متشددة في المنطقة خلال السنوات العشرين الماضية، بعدما عادت للظهور بشكل قوى بعد جمعة الغضب عام 2011، لعدم نجاح الأجهزة الأمنية في القضاء عليها تماماً».
وأرجع الخبير الأمني تواصل العمليات الإرهابية في شمال سيناء حتى الآن، وقدرة العناصر المتشددة على التحرك وسط شوارع مدينة العريش بسهولة إلى «إلى فترة اختراق الحدود المصرية، شرقاً مع قطاع غزة، وغرباً مع ليبيا، حيث كانت تدفق الأسلحة من ليبيا عبر بحر الرمال العظيم، في الوقت الذي كانت تتسلل فيه بعض العناصر من قطاع غزة، واجتمعوا في شمال سيناء، مطمع تنظيم داعش الرئيسي في مصر».
وتابع يوسف: «وقائع وتفاصيل عملية البنك الأهلي، وسط مدينة العريش، تثبت أن العناصر الإرهابية في شمال سيناء على مستوى عالٍ من التدريب... خططوا ونفّذوا جيداً، لذلك يجب على الأجهزة الأمنية إعادة النظر في الخطة الموضوعة حالياً، ومراجعتها من أجل التصدي لتلك العناصر، وتنفيذ ضربات استباقية موجعة لهم».
وتسببت العمليات الإرهابية في تهجير عدد كبير من سكان منطقتي رفح المصرية والشيخ زويد، إلى مدينة العريش، بعد استهداف عدد كبير من المدنيين عمداً، وذبحهم في بيوتهم بادعاء التعاون مع القوات الأمنية، بجانب سقوط المدنيين خلال الاشتباكات، واختار السكان المهجّرون مدينة العريش، للإقامة بها بحثاً عن الأمان، وهو ما تحقق لعدة أشهر. لكن بانتقال الإرهابيين إلى العريش، والتمركز فيها أصبحت حياة المهجّرين مهددة مرة أخرى، حيث شهدت مناطق كثيرة بالمدينة وقوع عمليات كبيرة سقط على أثرها عدد كبير من شهداء الجيش والشرطة بجانب مدنيين، حيث تتعرض العمارات السكنية المجاورة للأكمنة الأمنية الثابتة والمتحركة لأضرار بالغة، جراء إطلاق الرصاص والقذائف من قبل العناصر المتشددة.
إبراهيم أحمد، 50 سنة، من مدينة الشيخ زويد، انتقل للعيش في حي المساعيد بمدينة العريش، بعد تردي الأوضاع الأمنية بمسقط رأسه، قبل 3 سنوات، حيث كانت تتمتع العريش بهدوء نسبي. يعلق إبراهيم على الحوادث الإرهابية داخل مدينة العريش قائلاً: «حادث اقتحام وسرقة فرع البنك الأهلي بالعريش استغرق 40 دقيقة فقط، قتلوا خلاله عدداً من أفراد الشرطة والمدنيين، وسرقوا خزينة البنك، وقدِم هؤلاء الإرهابيين إلى البنك في سيارات مدنية متنوعة، وزرعوا ألغاماً حول البنك، لمنع وصول دعم من قوات الشرطة».
وأضاف إبراهيم قائلاً: «عدد الإرهابيين كان يقترب من 30 إرهابياً، وبعد انتهاء سرقة البنك، سطوا على سيارات مواطنين عاديين، وركبوا فيها للتخفي في شوارع المدينة، وتركوها في شوارع مختلفة، ولاذوا بالفرار». وأكد إبراهيم أنهم يجيدون التخفي وسط المدنيين قبل وبعد تنفيذ العمليات، ويظهرون في الشوارع على أنهم أشخاص طبيعيون جداً، تصعب معرفتهم».
في نفس السياق لم يكتفِ تنظيم «بيت المقدس» بمواجهة قوات الجيش والشرطة، بطرق مفاجئة، وغير مباشرة، بل قام أيضاً باستهداف عشرات الأسر من الأقباط العزل بشمال سيناء. كما قام بتفجير عدد كبير من الكنائس بالقاهرة وطنطا والإسكندرية، وأجبر عشرات الأسر المسيحية على الهجرة من شمال سيناء، إلى مدينتي الإسماعيلية والقاهرة، عقب سلسلة من الاعتداءات، وعمليات القتل، والحرق، التي وُصفت بـ«البشعة والإجرامية»، أدت إلى مقتل أكثر من 10 مسيحيين، بينهم اثنان قُتلا حرقاً، والبعض الآخر قُتل ذبحاً بنفس طريقة «داعش» ليبيا وسوريا والعراق. ويعيش في شمال سيناء نحو 400 أسرة مسيحية، وفق تقديرات الكنيسة القبطية.
من جهته، قال الخبير الأمني خالد عكاشة: «إن سبب اختيار عناصر( داعش) شمال سيناء للتمركز به يرجع لبدايات عام 2003، بعد غزو العراق مباشرة، حيث تمددت التنظيمات الإرهابية في سيناء تماشياً مع تمددها في المنطقة، وقامت هذه التنظيمات بتفجيرات دهب وشرم الشيخ عام 2005، ولكن بعد ثورة يناير 2011 توسعت تلك التنظيمات، وساعدها في ذلك الدعم التقني واللوجيستي والفكري للتنظيمات السلفية المتاخمة لها في قطاع غزة، وانتشار تنظيمات أخرى رأت في شمال سيناء متسعاً وبيئة خصبة لها للتمدد مثل (جيش الإسلام، وجند الإسلام، ومجموعة ممتاز دغمش، ومجلس شورى المجاهدين)، وانتشرت فروع لتلك التنظيمات على أرض سيناء بعد وصول الإخوان للحكم، ولكن عقب عزل مرسي والإطاحة بالإخوان توحدت تلك التنظيمات تحت راية تنظيم أنصار بيت المقدس والذي بايع في النهاية (داعش) للحصول على الدعم المالي والعسكري للتنظيم».
وأضاف عكاشة في تصريحات صحافية قائلاً: «إن الطبيعة الديموغرافية لشمال سيناء سهّلت وجود وتمركز التنظيم بالمحافظة فهي مليئة بالسهول والوديان والدروب التي يسهل الاختفاء بها، كما أن أبناء سيناء المنضمين إلى التنظيم أكثر الناس إلماماً بها وبتفاصيلها وبطبيعتها، ويوفر هؤلاء حاضنة سكانية وملاذات آمنة وأغذية للعناصر الإرهابية».
وحسب خبراء الأمن والسياسيين فإن مواجهة الإرهاب تحتاج إلى مواجهة شاملة، وليست أمنية فقط، بجانب الاستعانة بوسائل حديثة، وليس بمعدات ثقيلة يسهل استهدافها، بجانب الحصول على معلومات استخباراتية مهمة، لضرب تلك التنظيمات بشكل استباقي.
أما من الداخل فقد شهدت التنظيمات الإرهابية عدداً من مراحل التطور والتغيير من حيث الاختلاف، والتماسك والتوحد والقوة والضعف، خلال السنوات الست الماضية، وفقاً لما قاله أحمد كامل البحيري، الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، الذي أضاف لـ«الشرق الأوسط»: «اتسمت الفترة الواقعة بين عامي 2011 و2013، بتنوع وتعدد التنظيمات في شمال سيناء، مثل (كتائب الفرقان، وأكناف بيت المقدس، وأنصار بيت المقدس، وجماعة التوحيد والجهاد، ومعتنقي فكر السلفية الجهادية)، وقامت تلك التنظيمات بتنفيذ عمليات مثل تفجير خط الغاز، ومذبحة رفح الأولى عام 2012، التي تبعها الهجوم على بوابة حدودية إسرائيلية. ووُصفت تلك الفترة بالفوضى الأمنية، بعد انهيار جهاز أمن الدولة المصري، والاعتماد في تأمين الجبهة الداخلية والخارجية على القوات المسلحة».
وأوضح البحيري أنه «في بداية عام 2012 تم الإعلان عن تشكيل تنظيمات (مجلس شورى المجاهدين)، و(التوحيد والجهاد)، و(أنصار بيت المقدس)، وتوحدت كل هذه التنظيمات في نهاية العام في تنظيم واحد قوي، هو تنظيم (أنصار بيت المقدس)، بعدما كانت 7 تنظيمات إرهابية على الأقل. واستطاع (بيت المقدس) استقطاب عدد من أهل سيناء، وقام بتنفيذ مذبحة رفح الثانية، التي سقط فيها 25 جندياً، بعدما وردت إليهم معلومات من بعض معاونيهم بمدينة العريش عن توجه الجنود إلى معسكرهم في رفح، وقيّدوهم، وأطلقوا عليهم الرصاص في الرأس على الطريق الدولي الساحلي».
ولفت إلى «أن نفس التنظيم قام بعمل مواءمة واتفاق مع جماعة الإخوان المسلمين، في أثناء توليها الحكم للإفراج عن جنود كانوا مخطوفين، ولم ينفّذ عمليات كبيرة خلال تلك الفترة، ووُصفت هذه المرحلة من مراحل تطور التنظيمات الإرهابية بمرحلة الهدوء».
المرحلة الثالثة للجماعات الإرهابية، اتسمت بالظهور القوي، وبدأت في أعقاب 30 يونيو (حزيران) 2013، بعد عزل محمد مرسي من منصبه، فقد أعلن تنظيم أنصار بيت المقدس، عن مواجهة قوات الجيش والشرطة في سيناء وخارجها، واستطاع بالفعل تنفيذ تفجير مديريات أمن شمال سيناء، والقاهرة، والدقهلية، وحاول اغتيال وزير الداخلية السابق محمد إبراهيم، واستهدف عدداً كبيراً من مقرات الشرطة. ووُصفت هذه المرحلة بمرحلة (القوة والنفوذ)، أو بـ«ربيع الإرهابيين في مصر»، وفقاً لما قاله البحيري.
وتابع الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية حديثه عن تطور تلك التنظيمات في شمال سيناء قائلاً: «المرحلة الأخيرة من مراحل تطور التنظيمات الإرهابية في سيناء بدأت منذ أوائل عام 2014 واستمرت حتى الفترة الحالية، بعدما أعلن (بيت المقدس)، عن بيعة تنظيم داعش والولاء له. وعقب البيعة اتخذ تنظيم بيت المقدس أنماطاً وخصائص متنوعة في مواجهة قوات الأمن في شمال سيناء، حتى شهد انقساماً داخلياً ترتب عليه انسحاب هشام عشماوي (ضابط مصري سابق متهم بالإرهاب) لاختلافه مع قيادات التنظيم على بيعة (داعش)، وانتقل تماماً من سيناء إلى الصحراء الغربية وليبيا».
أما مرحلة «دعشنة» التنظيمات الإرهابية في شمال سيناء، فيقول عنها البحيري: «بعد انسحاب عشماوي من تنظيم بيت المقدس، اعتمد التنظيم على عناصر سيناوية وأجنبية في تنفيذ عملياته، وشكّلت نسبة الأجانب به نحو 20 في المائة فقط، كان أغلبهم من الفلسطينيين من قطاع غزة». مشيراً إلى أن «التنظيم كان يعتنق قبل عام 2014 فكر مواجهة العدو البعيد (إسرائيل)، لكن (داعش) يعتمد استراتيجية مواجهة العدو القريب (الجيش، والشرطة، والصوفيين، والأقباط). وقام بتنفيذ عمليات ذبح بشعة لمدنيين أقباط، ومسلمين بتهمة التعاون مع قوات الأمن، بعد تنفيذ محاكمات ميدانية لهم، مثل التي كانت تجري في سوريا والعراق».
ورأى مراقبون أن يوم 11 أغسطس (آب) 2013، كان فرصة تاريخية للتخلص من مئات الإرهابيين من تنظيم «بيت المقدس» دفعة واحدة، في أثناء تشييع جنازة 4 منهم، لقوا مصرعهم إثر قصف جوي، حيث كانوا يتحركون في الشوارع والطرقات بشكل استعراضي رافعين أعلام التنظيم السوداء.
بينما أكد خبراء أمن وجماعات إسلامية، أن ذروة قوة تنظيم «ولاية سيناء» التابع لـ«داعش» كانت في عام 2015، عندما حاول التنظيم السيطرة على منطقتي رفح والشيخ زويد، بنفس الطريقة التي كان يسيطر بها على مناطق الموصل، والرقة، في العراق وسوريا، من خلال تنفيذ أكثر من 15 هجوماً متزامناً على أكمنة القوات المسلحة، لكن بسالة القوات المسلحة حالت دون ذلك، وتم سحقهم بالطائرات، وبذلك فشل مشروعهم السياسي في إقامة دولة لهم في سيناء، ما دفعهم إلى الانتقال إلى الخطة الثانية، وهي الخطة الأمنية (تنفيذ عمليات إرهابية متكررة)، لاستنزاف قوات الجيش والشرطة، وبث الفوضى والخوف.



السودان في 25 عاماً... حرب تلد حروباً

فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
TT

السودان في 25 عاماً... حرب تلد حروباً

فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)

لا يُعدّ دوي المدافع ولا انفجارات القذائف أو البراميل الناسفة القادمة، أو حتى الرصاصات العمياء، شيئاً جديداً في السودان، الجديد أنه انتقل من «الهوامش» إلى العاصمة الخرطوم، فاضطرت الحكومة وقيادة الجيش للانتقال إلى عاصمة بديلة تبعد نحو ألف كيلومتر على ساحل البحر الأحمر عند بورتسودان.

كان يُنظر للحروب السابقة على أنها تمرد ضد الدولة، لكن أسبابها تكمن في الصراع بين «المركز» الذي يحتكر كل شيء، و«الهامش» الذي لا يحصل على شيء، وأنها «حرب مطالب وحقوق».

لكن الحرب، خلال حكم الإسلاميين بقيادة الرئيس السابق عمر البشير البلاد، تحولت من حرب مطلبية إلى «حرب دينية» بين الشمال «المسلم»، والجنوب «المسيحي» أو «اللاديني»، وانتهت بـ«فصل جنوب السودان»، وإعلان ميلاد دولة جديدة انضمت للأمم المتحدة، فمن أين تأتي الحروب والعواصف لتدمر السودان؟

يرجع المحللون جذور الحروب السودانية إلى الافتقار لـ«مشروع وطني»، وإلى عدم الاعتراف بالتنوع الإثني والثقافي الناتج عن عدم وجود منظومة سياسية ثقافية اقتصادية موحدة تعترف بهذا التنوع.

ورغم أن الحرب الحالية هي حرب بين جيشين «نظاميين»، لكن جذورها تتصل «بمتلازمة التهميش وعدم الاعتراف بالتنوع»، التي أدت للتمرد الأول قبيل إعلان الاستقلال 1955 بقيادة قوات «أنانيا 1»؛ وهي تسمية محلية لثعبان الكوبرا.

الرئيس السوداني المعزول عمر البشير ملوحاً بعصاه إثناء إلقائه خطاباً في نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور في سبتمبر 2017 (أ.ف.ب)

اتفاق «نيفاشا»

انطفأت الحرب الأولى باتفاق أديس أبابا 1972، لكنها اشتعلت مرة أخرى في عام 1983، تحت راية «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، بقيادة الزعيم الجنوب سوداني الراحل جونق قرنق دمبيور، على أثر إعلان الرئيس الأسبق جعفر النميري «أحكام الشريعة الإسلامية».

وانتقلت من كونها ضد متمردين إلى حرب «جهادية»، جيش الإسلاميين المقاتلين على أساس ديني، ورفعوا رايات الجهاد ضد مَن وُصفوا بـ«أعداء الدين»، فاستمرت الحرب سنوات، وراح ضحيتها أكثر من مليونيْ مواطن.

لم يحقق الجيش ومؤيدوه «المجاهدون» انتصاراً حاسماً، فاضطروا إلى الرضوخ للضغوط الدولية، ووقَّعوا اتفاق سلام في ضاحية نيفاشا الكينية؛ «اتفاق السلام الشامل أو اتفاق نيفاشا».

قضى «نيفاشا» بمنح جنوب السودان «حق تقرير المصير»، وخيّره بين البقاء في السودان الموحد أو الانفصال، وحدد فترة انتقالية قدرها خمس سنوات.

خلال الفترة الانتقالية، شغل زعيم الحركة الشعبية الراحل جونق قرنق دمبيور منصب النائب الأول للرئيس لأيام قلائل، قبل أن يلقى مصرعه في حادثة تفجر المروحية الرئاسية الأوغندية الغامض، ليخلفه نائبه رئيس جنوب السودان الحالي سلفاكير ميارديت.

استفتي شعب جنوب السودان 2010 على الوحدة أو الانفصال، وجاءت النتيجة لصالح الانفصال، فولدت من رحِم الحروب جمهورية جنوب السودان، وخسر السودان ثلث مساحته الجغرافية، وربع عدد سكانه، و75 في المائة من ثرواته وموارده.

انتقلت النيران إلى إقليم دارفور غرب البلاد، وتمردت مجموعات جديدة تحت مزاعم التهميش والاضطهاد باسم «حركة تحرير السودان» في عام 2003.

وأخذت طابعاً «عِرقياً»، بعدما استعانت الحكومة في حربها ضد الحركات المتمردة ذات الأصول الأفريقية، بمجموعات قبلية عُرفت وقتها بمجموعة «الجنجويد» ذات الأصول العربية، ومِن قادتها، للمفارقة، محمد حمدان دقلو «حميدتي»، الذي أصبح قائد ما يُعرف بقوات «الدعم السريع».

راح ضحية حرب دارفور نحو 300 ألف، واتهمت الحكومة، برئاسة عمر البشير، بجرائم تطهير عِرقي وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، أصدرت بموجبها المحكمة الجنائية الدولية مذكرات قبض ضد الرئيس السابق عمر البشير، و3 من معاونيه الكبار وهم في الحكم، لا تزال سارية.

مقاتلون من «حركة تحرير السودان» في دارفور في مارس 2024 (أ.ف.ب)

تبضع بين العواصم

في مايو (أيار) 2006، وقّعت الحكومة الإسلامية اتفاق سلام في مدينة أبوجا مع «حركة تحرير السودان»، لكن الحركة انشقت إلى حركتين، يقود التي وقَّعت اتفاق أبوجا حاكم إقليم دارفور الحالي مني أركو مناوي.

رفض تيار عبد الواحد محمد النور الاتفاق، واعتصم بجبل مرة في وسط دارفور، وواصل الحرب ولا يزال، بينما حصل مناوي على منصب مساعد الرئيس عمر البشير، ثم عاد للتمرد زاعماً أنه كان مجرد «مساعد حلّة»، وليس مساعد رئيس، ومساعد الحلة هو معاون سائقي الشاحنات الذي يُعِدّ الطعام للسائق.

تنقلت المفاوضات مع الحركات الدارفورية المتشظية بين عدة عواصم، ففي يوليو (تموز) 2011 وقَّعت مع بعضها في قطر «وثيقة سلام الدوحة»، ونصت على تقاسم الثروة والسلطة، لكن الحرب لم تتوقف.

ثم وقَّعت حركات مسلَّحة مع الحكومة الانتقالية، في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 اتفاق سلام السودان في جوبا، أبرزها «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي، و«حركة العدل والمساواة» بقيادة جبريل إبراهيم، ونصَّ الاتفاق على تقاسم السلطة والثروة، وبموجبها تولَّى جبريل إبراهيم وزارة المالية، ومني أركو مناوي منصب حاكم إقليم دارفور.

جنود سودانيون من «قوات الدعم السريع» في ولاية شرق النيل بالسودان، يونيو 2019 (أ.ب)

الجنوب الجديد

كأنما لا بد من جنوب ليحاربه الشمال، اشتعلت حرب في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، وهما منطقتان منحهما اتفاق نيفاشا حق المشورة الشعبية، للبقاء في السودان أو الانضمام للجنوب، وعادت إلى الحرب «الحركة الشعبية لتحرير السودان - الشمال».

انشقت الحركة الشعبية الشمالية، التي تُعدّ امتداداً للجنوبية، وتضم مقاتلين سودانيين انحازوا للجنوب إبان الحرب الأهلية، إلى حركتين بقيادة نائب رئيس مجلس السيادة الحالي مالك عقار، الموقِّع على اتفاق سلام جوبا، بينما بقيت الأخرى، بقيادة عبد العزيز، تسيطر على منطقة كاودا بجنوب كردفان، وتَعُدّها «منطقة محرَّرة»، وتخوض معارك متفرقة ضد الجيش السوداني، ولا تزال.

لم يَسلم شرق السودان من متلازمة الحروب السودانية، فقد كان مرتعاً لحروب المعارضة المسلَّحة ضد حكم البشير في تسعينات القرن الماضي، ونشأت فيه مجموعات مسلَّحة مثل «مؤتمر البجا»، و«الأسود الحرة»، قاتلت هي الأخرى ضد المركز في الخرطوم، قبل أن تُوقِّع اتفاقاً في العاصمة الإريترية عُرف بـ«أسمرا لسلام شرق السودان»، ونال هو الآخر حصة في السلطة والثروة.

أطاح السودانيون بنظام حكم الإسلاميين، بقيادة الرئيس السابق عمر البشير في 11 أبريل (نيسان) 2019، عبر احتجاجات شعبية استمرت أشهراً عدة، وأجبروا قيادة الجيش على تنحية البشير.

ومع ذلك، تواصلت الاحتجاجات والاعتصامات، حتى قرر «المجلس العسكري الانتقالي»، برئاسة الفريق عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو «حميدتي»، فض الاعتصام باستخدام القوة، ما أسفر عن مقتل المئات من المعتصمين، ما عده كثيرون من «أفظع الجرائم» بحق المدنيين.

واستمر الضغط المدني السلمي، فاضطر العسكريون لتوقيع «وثيقة دستورية» نصّت على شراكة مدنية عسكرية، في أغسطس (آب) 2019، وجرى تشكيل حكومة برئاسة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وتكوين مجلس سيادة انتقالي برئاسة البرهان، ونائبه حميدتي.

البرهان وحميدتي يحضران حفل تخريج عسكري للقوات الخاصة، في الخرطوم في 22 سبتمبر2021 (غيتي)

حرب الجنرالات

في 25 أكتوبر 2021، أطاح قائد الجيش بحكومة حمدوك المدنية، بانقلاب عسكري، واضطر تحت الضغط الشعبي السلمي مرة أخرى، لتوقيع ما عُرف بـ«الاتفاق الإطاري» مع المدنيين، ونص على «حكم مدني» يعود بموجبه الجيش إلى ثكناته، وإزالة أي فرصة لـ«تمكين نظام الإسلاميين».

لكن أنصار النظام السابق أحبطوا «الاتفاق الإطاري»، واستخدموا آليات «الدولة العميقة» في تأجيج الخلافات بين الجيش و«الدعم السريع»، فاشتعلت الحرب.

لم تفلح جهود إزالة التوتر والتحشيد العسكري، وفي صبيحة السبت، منتصف أبريل 2023، فوجئ السودانيون بالرصاص «يلعلع» في جنوب الخرطوم عند «المدينة الرياضية»، معلناً الحرب المستمرة حتى اليوم.

يتهم «الدعم السريع» الجيش بمهاجمة معسكراته على حين غِرة، ويقول إن الجيش حاصر مطار مروي شمال البلاد، وإنه كان يخطط للانقضاض على السلطة، بينما «تسود رواية أخرى» بأن «خلايا الإسلاميين» داخل الجيش هاجمت «الدعم السريع»، ووضعت قيادته أمام الأمر الواقع؛ «الاستسلام أو الحرب».

حسابات خاطئة

كان مخططاً للحرب أن تنتهي في ساعات، أو على أسوأ تقدير أيام معدودات، بحساب التفوق التسليحي للجيش على «الدعم السريع»، لكن الأخير فاجأ الجيش وخاض حرب مدن كان قد تمرَّس عليها، ففرض سيطرته على معظم الوحدات العسكرية للجيش، وأحكم الحصار على البرهان في القيادة العامة، بل سيطر على المقرات الحكومية؛ بما فيها القصر الرئاسي والوزارات.

اضطرت الحكومة للانتقال إلى بورتسودان، واتخاذها عاصمة بديلة بعد سيطرة «الدعم السريع» على الخرطوم، بينما ظل قائد الجيش محاصَراً داخل قيادته لأكثر من ثلاثة أشهر، قبل أن يفلح في الخروج منها وينتقل إلى بورتسودان ليتخذها عاصمة له.

اتسعت سيطرة قوات «الدعم السريع» لتشمل إقليم دارفور، باستثناء مدينة الفاشر، حاضرة ولاية شمال دارفور، ومعظم ولايات الغرب باستثناء بعض حواضرها، ثم استسلمت له ولاية الجزيرة بوسط البلاد، وشملت عملياته ولايات أخرى، وسيطر تقريباً على نحو 70 في المائة من البلاد.

بعد نحو عامين من القتال، استعاد الجيش زمام المبادرة، وحقق تقدماً في بعض المناطق؛ الخرطوم، وأم درمان، والخرطوم بحري، وسنار، لكن «الدعم السريع» لا يزال مسيطراً على مساحات واسعة من البلاد، ويقاتل بشراسة في عدد من محاور القتال، وما زالت الحرب سجالاً.

جنوب الخرطوم مسرحاً دموياً للمعارك بين البرهان وحميدتي (أ.ف.ب)

أسوأ كارثة إنسانية

قتلت الحرب عشرات الآلاف وخلقت «أسوأ أزمة إنسانية في التاريخ»، وفقاً للأمم المتحدة، ونزح أكثر من 11 مليون شخص داخلياً، ولجأ نحو 3 ملايين لبلدان الجوار، ويواجه نحو 25 مليون شخص أكثر من نصف سكان البلاد، البالغ عددهم 45 مليوناً، حالة من «انعدام الأمن الغذائي الحاد».

أطراف الحرب لا يزالون يرفضون العودة للتفاوض، فمنذ فشل «إعلان جدة الإنساني»، فشلت محاولات إعادة الطرفين للتفاوض؛ لتعنُّت الجيش وأنصاره.

سيناريوهات

يرجع عضو مجلس السيادة السابق، ونائب رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية «تقدم» الهادي إدريس، اندلاع الحروب في السودان إلى عدم الاتفاق على «مشروع وطني نهضوي» لحكم البلاد منذ الاستقلال.

ويقول إدريس، لـ«الشرق الأوسط»، إن الأسباب الرئيسية لحروب السودان هي الفشل في إنفاذ برامج تنمية متوازنة، وتحقيق العدالة، وسيادة ثقافة الإفلات من العقاب، وعدم حسم القضايا الاستراتيجية مثل علاقة الدين بالدولة، والهوية الوطنية، وقضية الجيش الواحد وابتعاده عن السياسة.

ويرى إدريس أن العودة إلى «جذور الأزمة» مدخل صحيح لجعل «الحرب الحالية» آخِر الحروب. ويضيف: «علينا معالجة أسباب وجذور الحروب، في الاتفاق المقبل لإيقاف وإنهاء الحروب».

أما القيادي في «التجمع الاتحادي» محمد عبد الحكم فيرى أن جذور الحروب تتمحور حول «التنمية المتوازنة والمواطنة المتوازنة». ويضيف: «يظل عدم معالجة التهميش والتنمية المتوازنة وحفظ حقوق الشعوب، وتغيير الأنظمة الاستبدادية المتسلطة، بحكم ديمقراطي تعددي، أُسّاً لنشوبِ أعتى وأطول الحروب السودانية».

ويرهن عبد الحكم إنهاء الأزمات المتتالية في السودان بإصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية، عن طريق تكوين جيش مهني قومي موحد بـ«عقيدة قتالية» تُلزمه بحماية الدستور والنظام المدني، وتُخضعه للسلطة التشريعية والتنفيذية، وتُعلي قيم المحاسبة وردع محاولات تسييس الجيش.