نحو إعادة فهم لعلاقة الدين بالدولة

عالم الأنثروبولوجيا الأميركي طلال أسد يعيد طرح الأسئلة الصعبة

جينالوجيا الدين: الضبط وأسباب القوة في المسيحية والإسلام - المؤلف: طلال أسد - ترجمة: محمد عصفور - دار المدار الإسلامي، 2017 --- لوحة تعبر عن دور الكنيسة في القرون الوسطى
جينالوجيا الدين: الضبط وأسباب القوة في المسيحية والإسلام - المؤلف: طلال أسد - ترجمة: محمد عصفور - دار المدار الإسلامي، 2017 --- لوحة تعبر عن دور الكنيسة في القرون الوسطى
TT

نحو إعادة فهم لعلاقة الدين بالدولة

جينالوجيا الدين: الضبط وأسباب القوة في المسيحية والإسلام - المؤلف: طلال أسد - ترجمة: محمد عصفور - دار المدار الإسلامي، 2017 --- لوحة تعبر عن دور الكنيسة في القرون الوسطى
جينالوجيا الدين: الضبط وأسباب القوة في المسيحية والإسلام - المؤلف: طلال أسد - ترجمة: محمد عصفور - دار المدار الإسلامي، 2017 --- لوحة تعبر عن دور الكنيسة في القرون الوسطى

هل يمكن فهم تاريخ العلاقة بين الدين والسياسة والقوة في العالم الإسلامي على ضوء الخبرة التاريخية الأوروبية؟ وهل إشكالية علاقة الدين بالدولة قابلة للتعميم على الشعوب غير الغربية؟ أي دور تؤديه الطقوس والرموز والشعائر الدينية في الضبط الاجتماعي؟ وما علاقة ذلك بتاريخ التحول الفكري الديني نحو العلمانية؟ ولماذا تجد الشعوب من غير البلاد الغربية نفسها مضطرة لقراءة تاريخ الغرب في ذلك في حين لا يشعر الغربيين بالحاجة إلى قراءة تاريخ الآخرين؟ هل يمكن أن نقرأ تاريخ الفكر الديني غير الغربي بمعزل عن التاريخ الغربي وخبرته؟ ولماذا ينظر إلى التاريخ الغربي على أنه تاريخ عالمي في حين ينظر إلى تاريخ الشعوب الأخرى على أنه تاريخ محلي؟ هل ذلك مرتبط بعلاقات القوة؟
تشكل هذه الأسئلة الكبرى أساساً لموضوعات هذا الكتاب البحثية لعالم الأنثروبولوجيا الأميركي الشهير في جامعة نيويورك طلال أسد، الخبير بالفكرين الإسلامي والمسيحي، فخلفية تكوينه ورحلاته العلمية تسمح له بقراءة فريدة لهذين الموضوعين من منظور أنثربولوجي؛ إذ تتناول فصول الكتاب موضوعات تاريخية تتباين في الزمان والمكان، وتشمل أموراً تتعلق بالمسيحيين الأوروبيين في القرون الوسطى وبعض العرب المسلمين، وما يجمعها هو الاعتقاد بأن التاريخ الغربي أدى دوراً بالغ الأهمية في تشكيل العالم الحديث، وأن الجيولوجيا الفكرية للتاريخ المسيحي والإسلامي لها دلالات عميقة على الطرق التي تمكّنَ أنماط من التراث غير الغربي بواسطتها من النمو والتغير.
ينظر أسد بشكل تقليدي إلى القوة الرأسمالية الطاغية على أنها هي التي تضع الحبكة الأساسية للقصة، وما تفعله الشعوب المحلية (شعوب الأطراف) هو أنها تأتي بتفسيراتها هي في الصيغ المحلية منها، وهو ما يعني أن الشعوب المحلية هي في أفضل الأحوال عوامل ثانوية ومتلقٍ سلبي، والتخلص من هذه النظرة التقليدية السائدة إلى حد بعيد، ورؤية التاريخ الخاص للشعوب ودينامياته الخاصة في النمو والتغير يكمن في دراسة تاريخ الشعوب المحلية بمشاركة علوم إنسانية متعددة.
يذهب طلال أسد إلى ضرورة فهم كل ذلك في إطار علاقات القوة؛ إذ يمكن أن يكون تغيير الناس أسهل عندما يتم إزاحة ذواتهم عن المركز (الحضاري والثقافي الخاص بهم) عندما يكونون مقتلعين جسمانياً وأخلاقياً، وعندما يكون تحريكهم (تغييرهم) سهلاً؛ فإن ذلك يسهل جعلهم زائدين عن اللزوم جسمانياً وأخلاقياً أيضاً، وبالتالي يكون ممكناً إحلال غيرهم محلها، وجعل الدوافع التي تدفعهم موافقة لأصحاب هذه القوة. إن المسألة لا يمكن اختزالها في «استعارة ثقافية» وحسب، بل يجب فهمها على أنها جزء من إطار أكبر له علاقة بالقوة، فحتى هذه الاستعارة تأخذ معناها ليس من مدلولها الذاتي فقط، إنما من علاقات القوة والإخضاع الواسعة القائمة خلفها.
عدم الرضا عن السرد التاريخي للبلاد غير الغربية التي يحتل فيها الأوروبيون مكاناً بارزاً أكثر من اللازم (بصفتهم فاعلين أو ممثلين لما هو معياري) تخفي فهماً لصنع التاريخ يتطفل على التواريخ الأخرى ويحجبها، فكل ظاهرة تاريخية يتحدد مسارها بالطريقة التي تشكلت فيها، وبعض عناصرها جوهرية لهويتها التاريخية وبعضها ليس بالضرورة كذلك. التحديث (التحول إلى النمط الغربي) مشروع يتضمن صنع التاريخ من دون شك، لكنه مشروع لا يتمتع فيه الفاعلون فيه بالاستقلال الذاتي الكامل، ولا بالوعي الكامل لأبعاده؛ فهو يسمح بفهم جديد للتاريخ وأزمنته ويعيد صياغتها على أساس أن ثمة هوية غربية جماعية تنظر إلى نفسها بالرجوع إلى تاريخية فريدة بالمقارنة مع الهويات الأخرى، وهي تاريخية تتحول من مكان إلى آخر – اليونان، روما، المسيحية اللاتينية، الأميركيتين - إلى أن تنتشر في أنحاء العالم.
إن الأفكار الكبرى التي يستخدمها الأنثربولوجيون ولدت من التقاء أوروبا بالشعوب غير الأوروبية (مثل وصف تلك المجتمعات بأنها «غير حديثة»: «محلية»: «تقليدية»)، فهي تعتمد إلى اليوم على موازنة هذه الصفات مع الحداثة الغربية التي تكتسب صفة معيارية، في حين أن الأساس السليم للمقارنة هو الإصرار على وحدة التجربة الإنسانية وعلى تنوعها في آن معاً.
يخلص المؤلف إلى أن علم الأنثروبولوجيا مشغول بالتعريفات المتعلقة بالغرب، بينما تعمل المشروعات الغربية على تغيير الشعوب، وإذا ما أراد علم الأنثروبولوجيا أن يفهم المجتمعات المحلية و«شعوب الأطراف» الذين «يدخلون» عصر الحداثة أو حتى «يقاومونه» فمن الأفضل أن يعمِّق فهمه للغرب أولاً على أنه ليس مجرد آيديولوجيا قديمة، وسيتضمن ذلك فهم تاريخيه الخاصة والقوى المتحركة التي شيدت بنيانه ومشروعاته ورغباته، حيث الدين هو جزء أساسي من عملية التشييد تلك، والمضي قدماً نحو علم أنثروبولوجيا تاريخي يجعل من الهيمنة الغربية الثقافية موضوعا له، أي الطرق التي تحدد فيها المفاهيم والممارسات الغربية في المجال الديني أشكال صنع التاريخ.
لكن كيف نفهم الدين أولاً لنقوم بذلك؟ ينطلق أسد من أن التوصل إلى تعريف شمولي للدين غير ممكن، ليس لأن مكوناته وعلاقاته متعينة تاريخياً فقط، بل لأن التعريف ذاته ناتج تاريخي لطرق معينة في الخطاب. إن فهم ما يعينه الدافع الديني والشعور الديني الوجداني، وكيف تتشكل عبر الرموز الدينية يقود إلى مفهوم «القوة» الدينية ومفهوم «الحقيقة» الدينية، والعلاقة بينهما وما يعرف بمفهوم «الضبط» بمعناه الذاتي والاجتماعي.
إن الرموز الدينية ليست هي وحدها ما يزرع المشاعر الدينية المسيحية الصادقة مثلاً، بل القوة التي تشملها القوانين (الحكومية أو الكنسية) والعقاب والثواب (نار جهنم، الموت، الخلاص، السمعة الطيبة، السلام...الخ)، وعوامل الضبط التي تفرضها المؤسسات الاجتماعية (العائلة، المدرسة، المدينة، الكنيسة)، وتلك التي تفرض على الأجسام البشرية (الصيام، الصلاة، الطاعة، التوبة)، أي القوة المتأتية من شبكة كاملة من الممارسات القائمة على دوافع خاصة بها، تتخذ شكلاً دينياً. وما حصل الآن ليس سوى أن أنماط القوة وتشكيلاتها تتغير من حقبة إلى أخرى، فما كان في العصور المسيحية الوسطى تغير جذرياً الآن، لكن المبدأ بقي هو ذاته.
إن شعوراً معيناً يمكننا أن نصفه بأنه شعور ديني إنما يكمن في كونه يحتل مكاناً خاصاً في تصور لنا عن الإطار الكوني، والسؤال هو كيف تحتل تلك الرموز والمعاني هذا الموقع الديني وتكتسب الصفة المرجعية للدين؟ من الذي يحدد تلك الصفة؟ إن هذا السؤال سيقود لا محالة إلى إعادة تعريف الفضاءات الدينية وتحديدها في تاريخ المجتمع الغربي، وما يعنيه ذلك من العودة إلى العلاقة السلطات المتعددة والمتحكمة بالفضاء العام وتغيرها. لقد أعيد رسم الخط الفاصل بين الديني والدنيوي مرات عدة قبل «حركة الإصلاح الديني»، لكن السلطة الكنسية الرسمية ظلت هي المرجعية السائدة، وفي القرون التي أعقبت ذلك ومع نشوء العلم الحديث ووسائل الإنتاج الحديثة وولادة الدولة الحديثة اتضح للكنيسة أن هناك حاجة إلى فصل الديني عن الدنيوي، بحيث اتجه وزن الدين باتجاه الحالات الوجدانية الفردية للفرد المؤمن ودوافعه الشخصية، وأدى ذلك إلى أن يهجر الانضباط (الفكري والاجتماعي) الحيز الديني تدريجياً لتحل محله أمور أخرى مثل «الاعتقاد» و«الضمير» و«رهافة الحس».
النظرية الدينية لا تنفصل عن الممارسة، هي في جوهرها مسألة تدخل، مسألة تشكيل الدين في العالم (وليس في الذهن) من خلال الخطابات التعريفية وتفسير المعاني «الصحيحة» واستبعاد بعض الأقوال والممارسات وضمّ سواها. هنا ينشأ السؤال: كيف تشكل القوة الدين؟
هنا تأتي وظيفة الطقوس والشعائر الدينية بما هي أفعال رمزية هي توليد القناعة الدينية، وفقا لبعض الأنثربولوجيين، لكن أسد يذهب إلى أنها هي محل عرض الإيمان لا إنتاجه، وهو أمر يعيد جذرياً التفكير في دور الطقوس والشعائر تلك، فهذا يعين على فهم تلك الظواهر وعلاقتها بالظواهر الاجتماعية الأخرى، بل وتأثير القوى التاريخية في تشكيلها، وبذلك يمكن فهم الطقوس على أساس أنها جزء من نظام «الضبط» الديني، حيث يمكن فهم إمكانية الانفصال بين «الشعائر الدينية» عن «المشاعر الدينية»، هنا أمكن للكنيسة المسيحية مثلا في العصور الوسطى أن تستعمل الشعائر وسيلة لضبط المجتمعات عبر القوة ومفهوم «الدين الصحيح». وأيضاً هذا ما يمكننا من فهم كيف صارت الطقوس الدينية مناسبات رمزية أمراً مقبولاً في المجتمع الحديث، حيث يتخذ المسيحيون مواقف أخلاقية متباينة ويعيشون أنماطاً لا تختلف اختلافاً بينا عن أنماط الحياة لدى غيرهم، ينطبق ذلك على الطقوس والشعائر في الإسلام أيضاً، فهي تفهم على أنها إحياء لحقيقة عميقة في نظر من يؤديها، وهي تتضمن إدراكاً بكون الدين نموذجاً للعالم ونموذجاً من أجل العالم في الوقت نفسه، أي أن وظيفة الضبط تقريباً هي ذاتها في المسيحية.
يقوم الضبط على نوعين من الإجراءات «طرق تشكيل الذات» (الفرد) و«طرق التحكم بالآخرين» (المجتمع)، وهما شكلان من أشكال القوة، أحدهما يتصل بتنمية الفضائل والآخر بتطبيق الشريعة، عبر مبدأين: العقاب، والتعذيب أو العذاب. حيث يحتل مفهوم الألم مكاناً أساسياً في مفاهيم الدين وتقنيات الضبط فيه وتحقيق «الطاعة» لما يعتقد أنها الحقيقة، الضبط الذاتي المسمى «تهذيب النفس» في الفكر الإسلامي أو «إذلال النفس» في الرهبنة المسيحية يقومان على المبدأ ذاته.
لقد استطاع أسد بجدارة إثارة إشكالية وضع تعريف أنثروبولوجي للدين بإلإحالة التاريخية للمعرفة والقوة اللتين شكلتا العالم الحديث. وبالمضي في هذا المنهج لا يمكن عزو المصاعب الكبرى التي يواجهها العالم العربي مثلاً إلى ديمومة التدين في أو إلى صحوة دينية جديدة. كذلك، فإن الفكرة القائلة إن الدولة الحديثة تتطلب فصلاً جديداً بين «الدين» والسياسة» تغدو فكرة غير صحيحة من الناحية المفاهيمية وفقاً لطلال أسد، الذي يرى أن فهم ذلك يتطلب التفكير في السياسة بمنأى عن الثنائيات البسيطة التي لجأنا إليها زمنا أطول من اللازم، ففكرة «الدولة الإسلامية» هي وليدة التفكير القائم على الثنائيات، وهو تفكير يعتقد بأن «الدين» يجب أن يسود الدولة الحديثة ويوجهها، كذلك فإن دعاة الدولة العلمانية يقدمون أفكارهم على أساس هذه الثنائيات، ويصرون على أن الدولة يجب أن تكبح جماح «الدين».
بعض الكتب تشعر المرء بفداحة ما تعانيه الدراسات العربية من فقر وتواضع، وكتاب طلال أسد هذا، الذي يثير الإعجاب في نقده العميق وقدرته الفذة على طرح الأسئلة الصعبة، لا شك أنه واحد منها.

- كاتب سوري


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر
TT

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

هي رواية تتنقل بخفة ولغة ساخرة بين المعاناة والحب والسياسة والفانتازيا والأساطير، تحمل اسم «عورة في الجوار»، وسوف تصدر قريباً عن دار «نوفل» للنشر والتوزيع، وتقع في 140 صفحة.

عن عوالمها وفضائها السردي، يقول تاج السرّ لـ«الشرق الأوسط»: «تروي هذه الرواية التحولات الاجتماعية، وحياة الريف المكتنز بالقصص والأساطير، وانتقال البلد إلى (العصرنة) والانفتاح ورصد التأثيرات الثقافيّة التي تهبّ من المدن إلى الأرياف، لكنها ترصد أيضاً تأثير الأوضاع السياسية المضطربة في السودان على حياة الناس العاديين وما تسببه الانقلابات العسكرية من معاناة على السكان المحليين، خاصة في الأرياف... إلى جانب اهتمامها بتفاصيل الحياة اليومية للناس، في سرد مليء بالفكاهة السوداء».

حمل غلاف الرواية صورة الكلب، في رمزية مغوية إلى بطل الرواية، الذي كان الناس يطلقون عليه لقب «كلب الحرّ» كتعبير عن الشخص كثير التنقلّ الذي لا يستقرّ في مكان. كان كثير التنقّل حيث يعمل سائق شاحنة لنقل البضائع بين الريف والعاصمة وبقية المدن، والزمان هو عام 1980، وفي هذا الوقت يلتقي هذا السائق، وكان في العشرينات من عمره بامرأة جميلة (متزوجة) كانت تتبضع في متجر صغير في البلدة التي ينحدرُ منها، فيهيمُ فيها عشقاً حتى إنه ينقطع عن عمله لمتابعتها، وتشمم رائحتها، وكأنها حلم من أحلام الخلود.

وعن الريف السوداني الذي توليه الرواية اهتماماً خاصاً، ليس كرحم مكاني فحسب، إنما كعلاقة ممتدة في جسد الزمان والحياة، مفتوحة دائماً على قوسي البدايات والنهايات. يتابع تاج السر قائلاً: «الريف السوداني يلقي بحمولته المكتنزة بالقصص والأساطير حتى الفانتازيا في أرجاء الرواية، حيث ترصد الرواية ملامح وعادات الحياة الاجتماعيّة... لتنتقل منها إلى عالم السياسة، والانقلابات العسكرية والحروب الداخلية، حيث تسجل صراعاً قبلياً بين قبيلتَين خاضتا صراعاً دموياً على قطعة أرض زراعية، لا يتجاوز حجمها فداناً واحداً، لكنّ هذه الصراعات المحلية تقود الكاتب إلى صراعات أكبر حيث يتناول أحداثاً تاريخيّة كالوقائع العسكريّة والحروب ضدّ المستعمِر الإنجليزي أيّام المهدي محمد أحمد بن عبد الله بن فحل، قائد الثورة المهديّة، ومجاعة ما يعرف بـ(سنة ستّة) التي وقعت عام 1888، حيث تعرض السودان عامي 1889 – 1890 إلى واحدة من أسوأ المجاعات تدميراً».

وعلى الصعيد الاجتماعي، ترصد الرواية الغزو الثقافي القادم من المدن إلى الأرياف، وكيف استقبله الناس، خاصة مع وصول فرق الموسيقى الغربية، وظهور موضة «الهيبيز»، وصولاً إلى تحرر المرأة.

رواية جديدة تتنقل بخفة ولغة ساخرة بين المعاناة والحب والسياسة والفانتازيا والأساطير، سوف تصدر قريباً عن دار «نوفل» للنشر.

يشار إلى أن أمير تاج السر روائي سوداني ولد في السودان عام 1960، يعمل طبيباً للأمراض الباطنية في قطر. كتب الشعر مبكراً، ثم اتجه إلى كتابة الرواية في أواخر الثمانينات. صدر له 24 كتاباً في الرواية والسيرة والشعر. من أعماله: «مهر الصياح»، و«توترات القبطي»، و«العطر الفرنسي» (التي صدرت كلها عام 2009)، و«زحف النمل» (2010)، و«صائد اليرقات» (2010)، التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية عام 2011، تُرجمَت أعماله إلى عدّة لغات، منها الإنجليزيّة والفرنسيّة والإيطاليّة والإسبانيّة والفارسيّة والصينيّة.

نال جائزة «كتارا» للرواية في دورتها الأولى عام 2015 عن روايته «366»، ووصلتْ بعض عناوينه إلى القائمتَين الطويلة والقصيرة في جوائز أدبيّة عربيّة، مثل البوكر والشيخ زايد، وأجنبيّة مثل الجائزة العالميّة للكتاب المترجم (عام 2017 بروايته «العطر الفرنسي»، وعام 2018 بروايته «إيبولا 76»)، ووصلت روايته «منتجع الساحرات» إلى القائمة الطويلة لجائزة عام 2017.

صدر له عن دار «نوفل»: «جزء مؤلم من حكاية» (2018)، «تاكيكارديا» (2019) التي وصلتْ إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب (دورة 2019 – 2020)، «سيرة الوجع» (طبعة جديدة، 2019)، «غضب وكنداكات» (2020)، «حرّاس الحزن» (2022). دخلت رواياته إلى المناهج الدراسيّة الثانويّة الإماراتيّة والبريطانيّة والمغربية.