مقنّعون ومتنكّرون يتحدون حظر النقاب في النمسا

مقنعون في النمسا يتحدون قرار الشرطة (رويترز)
مقنعون في النمسا يتحدون قرار الشرطة (رويترز)
TT

مقنّعون ومتنكّرون يتحدون حظر النقاب في النمسا

مقنعون في النمسا يتحدون قرار الشرطة (رويترز)
مقنعون في النمسا يتحدون قرار الشرطة (رويترز)

تصدّر حظر النمسا الجديد لغطاء الوجه بالكامل عناوين الصحف في العالم، بعدما غرمت الشرطة أخيراً، شخصاً كان متنكراً على شكل حوت للترويج لسلسلة إلكترونيات في فيينا.
وفي الوقت الذي يبدو فيه كأنّ الحادث يسلط الضوء على عبثية الحظر الذي دخل حيز التنفيذ قبل نحو شهر، فقد تبين أيضاً، أنّها حيلة تسويقية قامت بها شركة للعلاقات العامة وأنّها هي من استدعت الشرطة لافتتاح متجر الإلكترونيات.
وقالت «شبكة واردا» للعلاقات العامة بعد ذلك، على «فيسبوك»: «50 مليون مشاهد عبر الإنترنت (غرامة 150 يورو (174 دولاراً)»، مبتهجة بما حققته من عائد كبير مقابل استثمار متواضع نسبياً.
وبينما تسعى الشرطة لتنفيذ الحظر، فإنها تواجه قيوداً بأحكام وتفسيرات القانون الذي يهدف بصورة أساسية إلى حظر البرقع أو النقاب، كطريقة لكبح الاتجاهات المتطرفة، والأدوار التقييدية على أساس نوع الجنس.
ويحظر القانون تغطية الوجه بصورة كاملة في الأماكن العامة، بينما يتضمن استثناءات للأشخاص الذين يرتدون أقنعة كجزء من عملهم أو في الاحتفالات التقليدية - حتى إذا فعلوا ذلك بأسلوب قد يكون استفزازياً قليلاً.
وكان نادٍ شهير للموسيقى في فيينا، على سبيل المثال، قد أعلن عن إمكان ارتداء البرقع ضمن ملابس الاحتفال بالهالوين الذي جرى أخيراً.
وبهذه المناسبة، قال هيرالد سويروس المتحدث باسم شرطة فيينا: «ليست هناك حاجة لأن يخاف أي أحد من العقاب».
وعلى الرغم من الثغرات القانونية التي تخدم الممثلين والمحتفلين، فإنّ 3 من موسيقيي الشوارع في فيينا قد دخلوا في مشادة مع الشرطة. وقد أبلغ رجال الشرطة عازفي الأوكورديون الثلاثة أنّ أقنعتهم المميزة على شكل حصان تكون قانونية فقط أثناء عزفهم، وأنّ عليهم خلعها بعد انتهاء العزف.
وقد طبّق رجال الشرطة الملتزمون، القانون حتى في مبنى البرلمان. وفي مطلع أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أوقفت الشرطة تصوير فيلم ترويجي أمام مبنى البرلمان، وذلك من أجل فحص هوية ممثل يرتدي زي شخصية «ليسكو» الأرنب ذي اللون الأزرق الفاتح، الذي يمثل التميمة الرسمية للبرلمان.
وأشار سويروس إلى أن معظم هذه المواقف لا يكون سببها رجال الشرطة المتحمسون، وإنما المواطنون أنفسهم.
وقال لوكالة الأنباء الألمانية (د ب أ): «هناك أشخاص اتصلوا برقم الطوارئ الخاص بالشرطة وأبلغوا عن شخص يغطي وجهه»، مضيفاً أنّ رجال الشرطة مضطرون للتحقيق في الأمر في مثل هذه الحالات.
وعلى مدار الأسابيع الماضية، وُزّع دليل على رجال الشرطة خاص بفرض القانون الجديد. وبينما لم تُصدر السلطات أي بيانات حول عدد الحالات التي طالبت فيها الشرطة أفراداً بكشف وجوههم في الشهر الأول للحظر، فإن شرطة فيينا كانت قد نشرت بيانات تتعلق بأول أسبوعين من التطبيق.
وخلال هذه الفترة، كشف 21 شخصاً وجوههم بعدما طالبتهم الشرطة بذلك، من دون فرض أي غرامات، معظمهم من السياح، وعدد قليل منهم فقط من المسلمات.
ووفقاً للشرطة، فإن 8 أشخاص فقط رفضوا الامتثال وسيواجهون عقوبات، وأن اثنين منهم كانا «استفزازيين».
ومن بينهما نورا فويرست (28 سنة)، وهي باحثة في علم النفس من ألمانيا وتعمل في جامعة فيينا. وقد غُرّمت بعدما رفضت رفع شال تغطي به وجهها، على الرغم من أنّ الجو كان دافئاً.
وقال سويروس: «لقد كان من الواضح أنّه استفزاز»، موضحاً أنّ السيدة عمدت إلى إظهار نفسها بوضوح حتى يراها رجال الشرطة.
ويعتزم جورج زانجر محامي فويرست الطعن على الغرامة، وقال إن الشال لم يكن يغطي وجهها بصورة كاملة. ويوضح زانجر أيضاً أنّ هدفه الأوسع هو استصدار حكم قضائي يقود في النهاية إلى الإطاحة بحظر النقاب.
وقالت فويرست، التي لا تعتبر أنّها كانت مستفزة، لصحيفة «دير ستاندرد»، إنّه من تجربتها مع الشرطة فإنّ حظر غطاء الوجه لا يحرّر المرأة من القمع. مضيفة: «سَعَى الرجال إلى قانون من المفترض أن يحمي النساء. ولكنّني شعرت بالضعف والعجز في هذا الموقف».


مقالات ذات صلة

الشرطة الصومالية تصادر نقاب مئات النساء في كيسمايو

العالم العربي الشرطة الصومالية تصارد نقاب مئات النساء في مدينة كيسمايو الساحلية تطبيقاً لمنع النقاب المفروض منذ فترة طويلة (إ.ب.أ)

الشرطة الصومالية تصادر نقاب مئات النساء في كيسمايو

قالت الشرطة الصومالية الثلاثاء إنها صادرت نقاب مئات النساء في مدينة كيسمايو الساحلية تطبيقاً لمنع النقاب المفروض منذ فترة طويلة.

«الشرق الأوسط» (مقديشو)
يوميات الشرق محكمة ألمانية تحكم بتعويض مدرسة محجبة بعد رفض توظيفها

محكمة ألمانية تحكم بتعويض مدرسة محجبة بعد رفض توظيفها

قضت محكمة العمل في ولاية برلين الألمانية بإلزام الولاية بمنح تعويض لامرأة بعد رفض طلبها للتوظيف في مدرسة بسبب غطاء الرأس الذي ترتديه. وصرح متحدث باسم المحكمة، بأن المحكمة قضت بصرف قيمة راتب شهر ونصف الشهر للمرأة، أي ما يعادل 5159 يورو، مشيرا إلى أن المرأة جرى إهمالها بسبب ديانتها. في الوقت نفسه، لم تشكك المحكمة في قانون الحياد المعمول به في برلين، والذي يحظر على أفراد الشرطة وموظفي قطاع القضاء ومدرسي المدارس العامة ارتداء ملابس لها طابع ديني أثناء الخدمة. ورأت المحكمة أن غطاء الرأس في الواقعة محل الدعوى لا ينطوي على أي خطر يمكن إدراكه بالنسبة للسلم المدرسي أو الحياد العام. تجدر الإشارة إلى أن

«الشرق الأوسط» (برلين)
العالم بدء تطبيق حظر النقاب في الدنمارك

بدء تطبيق حظر النقاب في الدنمارك

بدأ اليوم الأربعاء تطبيق حظر استخدام النقاب في الأماكن العامة في الدنمارك. وكان البرلمان الدنماركي قد وافق على تطبيق الحظر في مايو (أيار) الماضي. ويشمل أيضا أغطية الوجه بالكامل، والنقاب، وأقنعة التزلج، وأقنعة الوجه، واللحى المزيفة، ولكن ليس الأقنعة الوقائية. ويتم تغريم من ينتهك الحظر 1000 كرون (156 دولارا).

«الشرق الأوسط» (كوبنهاغن)
الأخيرة حظر النقاب لم يؤثر سلباً على السياحة في النمسا

حظر النقاب لم يؤثر سلباً على السياحة في النمسا

قال بيتر كورت موشل، مدير شرطة مقاطعة بينزغاو في إقليم سالزبورغ، إنّ 95 في المائة من ضيوفهم العرب، ممن حلّوا سياحاً على المنطقة لقضاء عطلتهم، يلتزمون بقانون حظر النقاب والبرقع، وكل ما يخفي معالم الوجه الذي دخل حيّز التنفيذ في النمسا مطلع أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. ويأتي إقليم سالزبورغ في المرتبة الثانية بعد العاصمة فيينا، جذبا للسّياح، وهو أكثر المناطق المفضلة لدى العرب. في هذا السياق، أشار مدير الشّرطة إلى أنّ قانون حظر النّقاب لم يؤثّر على السياحة في البلاد، موضحاً أنّ النّاقلات الجوية العربية ضاعفت بعد انقضاء شهر رمضان من رحلاتها اليومية، وكذلك الخطوط النمساوية، فيما وُسّعت الحملات الإعلان

بثينة عبد الرحمن (فيينا)
العالم البرلمان الدنماركي اعتمد قانونا يحظر ارتداء النقاب في الأماكن العامة (أ.ف.ب)

الدنمارك تحظر النقاب في الأماكن العامة

اعتمد البرلمان الدنماركي اليوم (الخميس) قانونا يحظر ارتداء النقاب في الأماكن العامة ليحذو بذلك حذو دول أوروبية أخرى مثل فرنسا وبلجيكا. واعتمد النص بغالبية 75 صوتا مقابل 30 ويفيد «أن كل شخص يرتدي ملابس تخفي وجهه في الأماكن العامة عرضة لدفع غرامة».

«الشرق الأوسط» (كوبنهاغن)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)