إيران و«الإخوان»: الجذور الآيديولوجية للشراكة (الحلقة الأخيرة) : طهران تستعيد «فدائيين الإسلام» الذين «قضت» عليهم وأعدمت قياداتهم

حاولت أن توجد لها موطئ قدم بمصر في عهد مرسي

الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي يستقبل أحمدي نجاد في القاهرة أثناء فترة ولايته
الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي يستقبل أحمدي نجاد في القاهرة أثناء فترة ولايته
TT

إيران و«الإخوان»: الجذور الآيديولوجية للشراكة (الحلقة الأخيرة) : طهران تستعيد «فدائيين الإسلام» الذين «قضت» عليهم وأعدمت قياداتهم

الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي يستقبل أحمدي نجاد في القاهرة أثناء فترة ولايته
الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي يستقبل أحمدي نجاد في القاهرة أثناء فترة ولايته

بحلول عام 1965، كان عقد كامل قد مر على إعلان حكومة طهران «القضاء الكامل» على «فدائيي الإسلام»، أي النسخة الإيرانية من «الإخوان المسلمين»، وذلك في أعقاب إعدام قيادتها المعروفة. ومع ذلك، وفي 22 يناير (كانون الثاني)، عادت الجماعة التي كان يفترض أنها اختفت تماما إلى صدارة المشهد على نحو مباغت، باغتيالها رئيس الوزراء حسن علي منصور. ولاحقا، أخبر الشخص الذي اغتاله، وهو محمد بخاري، المحققين بأن جماعة «الفدائيين» تفرقت وانقسمت إلى جماعات عدة، وأنها «مستعدة لتنفيذ عمليات قتل وللموت أيضا». والأخطر من ذلك هو أن بخاري زعم أن اغتيال رئيس الوزراء كان «بتخويل» من فتوى أصدرها آية الله محمد هادي ميلاني من مشهد. لكنني أجريت حوارا مع ميلاني في عام 1970، في منزله، وعلق على ذلك الزعم قائلا إنه «باطل يستهدف الإساءة لرجال الدين».
على الرغم من أن ميلاني لم يكن متعاطفا مع الفدائيين، كان هناك العديد من رجال الدين الشيعة الآخرين الذين ينظرون لتلك الجماعة بمزيج من الخوف والاحترام. كان الفدائيون قد استعاروا مفهومين رئيسين من «إخوان مصر»؛ أولهما هو تحويل الإسلام من دين إلى آيديولوجيا سياسية، وكان ذلك جديدا تماما بالنسبة لإيران. فمنذ أن قام الصفويون بتحويل المذهب الشيعي الاثني عشري إلى الدين الرسمي لإيران، نأى رجال الدين، الذين جاء معظمهم من لبنان والعراق، بأنفسهم عن السياسة. وكان ذلك راجعا إلى أن العقيدة الشيعية تعتبر الحكومات التي تشكلت في غياب المهدي المنتظر حكومات غير شرعية. وما دام الإمام المنتظر لا يزال مختفيا، لا يجب على المؤمن أن يشارك في السياسة، وعليه أن يقيم أقل قدر ممكن من التواصل مع السلطات الحاكمة. ووفقا لمبدأ «الانتظار»، كانت المهمة الرئيسة للمؤمن هي إعداد نفسه لـ«الظهور».
لكن «الفدائيين»، وفروعهم التي ظهرت لاحقا، لم يكونوا يوافقون على ذلك المبدأ؛ فقد كانوا يصرون على أن المؤمن يجب أن يحاول بفعالية تعجيل «العودة»، ومن ثم فقد أسسوا مفهوم «التعجيل» في مواجهة مفهوم «الانتظار». وبينما كان ميلاني رجلا مؤمنا بـ«الانتظار»، كان الخميني، الذي كان منفيا في العراق، رجل «تعجيل». وكان يطلق على الجماعة التي ينتمي إليها قاتل منصور «تحالف المجتمعات الإسلامية». وهي جماعة ستلعب دورا محوريا في نظام الخميني بعد ذلك، حيث تمكن أحد قادتها، حبيب الله أصغر أولادي، في الاستمرار في العديد من الوزارات في عهد الخميني، وتمكن من جمع ثروة كبيرة وأنهى حياته الطويلة، وهو من أهم الشخصيات في نظام الخميني.
ولم يكن تحالف بخاري هو الفرع الوحيد لـ«الفدائيين»، فقد كانت هناك جماعة أخرى تطلق على نفسها «حزب الأمم الإسلامية»، يقودها عباس دوزدواني، الذي سيصبح، لاحقا، وزير الإرشاد الإسلامي في عهد الخميني، وكانت تلك الجماعة تحلم بـ«الجهاد» المسلح لتحويل العالم كله إلى المذهب الشيعي.
وكان هناك فرع آخر لـ«الفدائيين» هو حزب الله، الذي يقوده حجة الإسلام هادي الجعفري، وهو الرجل الذي قتل في عام 1979 رئيس الوزراء السابق، أمير عباس هويدا، أثناء اقتياده إلى محبسه بعد انتهاء إحدى جلسات المحاكمة. ومن قيادات حزب الله الآخرين، كان هناك آية الله صادق خلخالي، الذي كان مقربا من الخميني والذي قام باعتباره من كبار القضاة الإسلاميين، بالحكم على ما يزيد على خمسة آلاف سجين، بالإعدام مباشرة فور استيلاء الملالي على السلطة في عام 1979.
وبعد الثورة، أصبح إنشاء أفرع لحزب الله في الدول الإسلامية الأخرى ضمن البرامج الحكومية. ففي الفترة ما بين 1979 و1989، جرى إنشاء 17 فرعا، بما في ذلك فرع في لبنان، أسسه وأداره، في البداية، آية الله علي أكبر محتشمي. ولاحقا، خضعت الشبكة للهيمنة المباشرة للحرس الثوري.
ومن جهة أخرى، قرر بعض رجال الدين الذين كانوا يرتبطون، في البداية، بالفدائيين، أن يعقدوا صفقات مع نظام الشاه. ثم تبنوا، تدريجيا، موقفا بعيدا عن السياسة. ومن بينهم كان آية الله كاشاني، والواعظ بالإذاعة محمد تقي فلسفي، والملا شمس الدين قناة العبادي، والواعظ الشهير فخر الدين حجازي. ثم تحول عدد من مؤيدي «الفدائيين» إلى مجال المال والأعمال، من بينهم علي أكبر بهرماني، الذي استخدم الاسم المستعار «هاشمي رفسنجاني» واتجه للعمل كمقاول معماري. وسرعان ما اتجه شباب الملالي والطلاب الدينيون الذين كانوا لا يزالون موالين لـ«الفدائيين» إلى الإقرار بأن الخميني هو قائدهم - وأنه وريث حقيقي لنواب صفوي. وكان من بينهم أشخاص مثل علي خامنئي ومحمد خاتمي. وخلال العقود الثلاثة الماضية، كان من بقي من الفدائيين والمتعاطفين معهم، أو أقرباء لأعضاء التنظيم الأولين، يمثلون جزءا كبيرا من الأفراد الذين يعملون في نظام الخميني. وفي بعض الأحيان، ابتكر الأشخاص الذين كانوا أصغر من أن يكونوا قد لعبوا دورا في تاريخ الفدائيين، روايات تحاول إيجاد صلة بينهم وبين الفدائيين. وقد زعم حسن روحاني، الذي سيصبح، لاحقا، رئيسا للجمهورية الإسلامية، أنه عندما كان طالبا في المدرسة، كان يوزع منشورات نواب صفوي. وزعم الخميني أنه حضر العديد من المحاضرات التي ألقاها صفوي في طهران ومشهد.
وقد لجأ كبار رجال الدين، مثل أية الله أبو القاسم الخوئي (في النجف)، وكاظم شريعتمداري في قم، إلى اتخاذ وضعية رجال الدين الشيعة الأكثر هدوءا وبعدا عن السياسة.
ولكن التعامل مع الإسلام باعتباره أيديولوجيا بدلا من كونه دينا، مكن الإخوان والفدائيين من السعي للحصول على جمهور أوسع باسم الأهداف السياسية المشتركة. وهذا ما عبر عنه أية الله محمد قمي، في حوار أجري معه في 1984: «ففي مناقشة دينية، سرعان ما سيتضح أن هناك خلافا عميقا في فهم الإسلام بين السنة والشيعة، ولا يستطيع أي طرف أن يوافق على النقاط الرئيسة في موقف الآخر. ولكن عندما يأتي الأمر إلى السياسة، يمكنهما أن يتحدا وراء شعارات وأهداف مشتركة. وبمعنى آخر، بينما يفرق الدين المسلمين، تجمعهم الأيديولوجيات السياسية».
وكان الدرس الثاني الذي تعلمه الفدائيون من الإخوان، هو أهمية الفعل المباشر الذي يمكنه، في بعض الأحيان، أن يتحول إلى عنف وربما إلى إرهاب. ومع مرور السنوات، قامت مجموعة من الجماعات الإرهابية التي تعمل باسم الإسلام، أو باسم نسخ مختلفة من الماركسية، بقتل المئات من الأشخاص في إيران. وحتى بعدما جاء الملالي إلى السلطة، استخدم عدد كبير من خصومهم الاغتيالات والأشكال الأخرى من الإرهاب ضدهم، وجميعهم كان يتحرك باسم الإسلام. وفي عهد الخميني، ظهرت جماعة غامضة يطلق عليها «الفرقان»، واغتالت عددا من قيادات النظام الجديد، وبضمنهم رئيس الأركان، ولي الله قراني، وأية الله مرتضى مطهري، وأية الله محمد مفتح، فيما قتل كل من أية الله محمد بهشتي، والرئيس محمد علي رجائي، على يد «مجاهدي الشعب».
ولم يقتصر تسييس استخدام المفرادت الدينية على الفصائل التابعة مباشرة للإخوان و- أو الفدائيين، فقد استخدمت، لاحقا، حركة ماركسية لينينية أطلقت على نفسها «فدائيو خلق»، مصطلح الفدائيين. كما أن حاشية نواب صفوي، كانت تطلق عليه «المجاهد»، وفي الوقت نفسه، كان يطلق ذلك المصطلح على جماعة ماركسية - إسلامية تطلق على نفسها «مجاهدو خلق». وكانت هناك العديد من المصطلحات الأخرى في قاموس الفدائيين التي استخدمتها الجماعات السياسية غير الدينية، مثل مصطلح «الشهيد»، ومصطلح «المنافق». وتطلق تلك الجماعات على مؤيديها مصطلح «إخوة المجاهدين»، فيما تطلق على خصومها اسم «محاربو الله». وكانت هناك حقيقة أساسية ساهمت في التقارب والتعاون الوثيق، لاحقا، بين الإسلاميين المصريين والإيرانيين، وهي التوصل إلى اتفاق بين قم والأزهر في أواخر الأربعينيات، وذلك بمبادرة من أية الله بروجرودي الذي كان يؤمن بضرورة الوحدة بين الأمم المسلمة لكي يجدوا مكانا أفضل في النظام الدولي ما بعد الحرب. وبعد سنوات من المفاوضات، وافقت كل من قم والأزهر على الإقرار بشرعية خمسة مذاهب، وهي المذاهب السنية الأربعة، بالإضافة إلى الشيعة الجعفرية. كما اتفق الجانبان على ألا يرسل أي منهما بعثات إلى أرض الآخر للتبشير بعقيدته. ومن ثم، ففي الفترة من الأربعينيات إلى الخمسنيات، أرسل بروجرودي نحو مائة بعثة إلى أوروبا وآسيا، ولكنه لم يرسل بعثة واحدة إلى مصر. وسهل ذلك التقارب حقيقة أن الأسر المالكة المصرية والإيرانية، كانت تربطهما علاقة وثيقة نظرا لزواج الأميرة فوزية من شاه إيران.
وعلى الرغم من وجود تقلبات عديدة في علاقتهما، أدركت كل من حركة الخميني وجماعة الإخوان المسلمين حاجتهما لبعضهما البعض، على الأقل، كحلفاء لتحقيق أهداف تكتيكية. وكان كلا الفصيلين مناهضين للأوضاع الراهنة، يسعيان إلى تحطيم توازن القوى الذي تم تأسيسه في الشرق الأوسط، في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وكان كلاهما يرغب في انتزاع السلطة من النخب الحاكمة التي تعتمد على المؤسسة العسكرية. والأهم من ذلك، هو أن كلاهما كان حاسما في نبذ العالم الحديث، على الأقل ما يتعلق منه بالرسائل السياسية والثقافية. وبالتالي، فليس مفاجئا أن المؤلفات التي كتبها سيد قطب المصري، وأبو علاء المودودي الباكستاني، التي ترجم بعضها خامنئي، تم تقدميها باعتبارها «الفلسفة الإسلامية» في نظام الخميني.
كان نظام الخميني يحتاج إلى الإخوان لسببين:
أولهما، يرجع إلى السياسة الخارجية، حيث يتمتع الإخوان بحضور قوي في تركيا، ويمكن أن يساعدوا طهران في دق إسفين بين أنقرة وواشنطن. وهذا هو السبب الذي دفع نظام الخميني لأن يساند بقوة، حزب نجم الدين أرباكان «رفاه»، قبل وخلال هيمنة الحكومة التركية القصيرة عليه. وأثناء حديثه في جنازة أبيه في عام 2011، أثنى أرباكان على الجمهورية الإسلامية قائلا، إنها «أكثر رموز الإسلام القوي أهمية اليوم».
كما تحتاج طهران إلى العلاقات الطيبة مع الإخوان، لكي تجد موطئ قدم لها في مصر، وهذا هو السبب الذي دفع خامنئي إلى إرسال عدد من المبعوثين إلى محمد مرسي فور انتخابه كرئيس، كان على رأسهم الرئيس محمود أحمدي نجاد، لعرض «شراكة استراتيجية» تبدأ بحزمة مساعدات تقدر بنحو 2 مليار دولار. كما عرضت طهران، علانية، مساعدة الإخوان على «تطهير» مؤسسات الدولة المصرية، وخلق نسخة مصرية من الحرس الثوري لسحق الخصوم المحتملين. ولكن مرسي لم يوافق على ذلك، نظرا لوجود انقسامات داخل قيادة الإخوان حول سياستهم الخارجية.
كما كانت العلاقة بالإخوان ضرورية لإقناع الجماهير العربية بأن دعم إيران للقضية الفلسطينية هو دعم أصيل؛ حيث إن السنوات الطويلة من الاستثمارات الكبيرة في الجهاد الإسلامي، والفرع اللبناني «حزب الله»، لم تقنع العديد من العرب بأن طهران كانت مهتمة حقا بفلسطين.
وعلى النقيض، مكنت العلاقات القوية بحماس، الفرع الفلسطيني للإخوان، نظام الخميني من الحصول على مصداقية أكبر فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
تعد جماعة الإخوان حركة عالمية ماثلة في أكثر من مائة دولة، فيما تعد حركة الخميني حركة حديثة نسبيا، على المشهد العالمي للراديكالية الإسلامية. ومن ثم كان بإمكان الإخوان، من من نواحي عدة، مساعدة الخومينيين على إقامة صلات وإيجاد موطئ قدم لهم في عدد من البلدان، بما في ذلك أندونيسيا، والهند، وشمال أفريقيا، ويوغوسلافيا السابقة، وبالطبع أوروبا والولايات المتحدة. وفي بعض الأحيان، كان يقيم تلك الاتصالات، محمد علي تسخيري، مبعوث الخميني الخاص للتقارب الإسلامي. وفي أحيان أخرى، كان الجنرال قاسم سلماني، رئيس فيلق القدس التابع للحرس الثوري، مسؤولا عن تلك الاتصالات. وقبل عامين، أنشأ خامنئي، كيانا جديدا أطلق عليه «الصحوة الإسلامية»، بالتعاون مع وزير الخارجية السابق علي أكبر ولاياتي، الذي أصبح السكرتير العام لذلك التنظيم، بهدف تعزيز العلاقات مع الإسلاميين الراديكاليين على مستوى العالم. وكان أكثر من نصف الأشخاص الاربعمائة الذين حضروا أول مجلس للمنظمة الجديدة في طهران، من أعضاء جماعة الإخوان المسملين من جميع أنحاء العالم. وكان يترأس وفد الإخوان المصريين كمال الهلباوي، رجل الأعمال المقيم في لندن، الذي كان مدافعا دائما عن النفوذ الإيراني في مصر. كما يوفر تكوين علاقات قوية مع الإخوان لحركة الخميني، مساحة أيديولوجية أوسع يمكن عبرها السعي لتحقيق أهداف نظام طهران سواء السياسية أو الاستراتيجية.
وخلال العقود الماضية، نظم نظام طهران سلسلة من المؤتمرات الدولية، تحت شعارات مختلفة، إحياء لذكرى استحواذ الملالي على السلطة في فبراير (شباط) 1979. وحمل بعض تلك المؤتمرات، عنوان «عالم بدون أميركا»، أو «عالم بدون إسرائيل»، فيما كان يتم الترويج للبعض الآخر باعتباره ندوات لدراسة «الفلسفة الثورية» للخميني.
وكانت الصلات التي يتمتع بها الإخوان على مستوى العالم، قد ساعدت إيران، أيضا، في جهودها لتحقيق الهدف الصعب، وهو تقديم خامنئي كقائد أوحد للمسلمين في العالم. فعندما كان شابا، لم يكن خامنئي يعامل بجدية كقائد ديني مهم داخل إيران، أو حتى في العراق أو لبنان، خاصة وأنه كرجل سياسة، لا يوائم النموذج التقليدي للتراتبية الدينية الشيعية. ولم يترك آيات الله في قم والنجف، مساحة واسعة له لكي يقدم نفسه كزعيم ديني. ومع ذلك، فإذا ما نجح في الحصول على قدر من الاعتراف به من الجماعات الإسلامية خارج إيران، فربما يستطيع تعزيز وضعه الديني داخلها أيضا. ولتحقيق هذا الهدف، كان نظام الخميني بحاجة إلى الإخوان وكانوا هم في المقابل مستعدين للمساعدة.
ومن منظور أكثر شمولا، كان نظام الخميني يحتاج إلى الإخوان لتقليل عزلته في المجتمع الإسلامي، حيث ليس لهم حليف سوى نظام بشار الأسد الطغياني في دمشق. وبفضل العلاقات مع الإخوان، التي تمولها قطر، تستطيع طهران الآن، أن تقوم بمحاولات لتقسيم مجلس التعاون الخليجي كجزء من استراتيجيتها «لفنلندة» قطر وعمان، وتحدي الوضع القيادي للمملكة العربية السعودية في دول الخليج، فيما تعزز العلاقات مع الجماعات الإسلامية السنية في اليمن، ومن ثم تقليل الاعتماد على عملائها من الشيعة الزيدية.
وبإبراز قوتها أمام الشرق الأوسط، مرورا بالعراق وسوريا ولبنان، تستطيع الجمهورية الإسلامية تعزيز وضعها من خلال الظهور كمصدر لدعم الجماعات الإسلامية في الأردن وفلسطين والولايات المتحدة، أو حتى لعقد صفقة معها.
وبالتصرف على غرار القوى الانتهازية في التاريخ، حاولت الجمهورية الإسلامية تنويع محظفتها السياسية والاستثمارية؛ فطهران تدعم فصيل الأسد في سوريا، على الرغم من أنه ليست له علاقة وثيقة بالإسلام أو حتى بالشيعية. وفي العراق، كانت طهران تستثمر جهودها في السنة العرب العلمانيين والأكراد الاشتراكيين، إلى جانب فصائل الشيعة بأطيافهم المختلفة. وفي القوقاز، كانت طهران تدعم روسيا في حملتها للقضاء على الجماعات الإسلامية في الشيشان وداغستان وأنغوشيا. وفي القوقاز أيضا، كانت طهران تنحاز لأرمينيا المسيحية في مواجهة أذربيجان الشيعية. وفي كشمير، كان نظام الخميني يدعم الحكومة الهندية في مواجهة المتمردين المسلمين. ويوفر النظر للإسلام كأيدولوجيا سياسية بدلا من كونه دينا لنظام الخميني، فرصا واسعة للمناورة في الاتجاهات كافة.
وهناك ملاحظة أخيرة مهمة. وهي أن الإسلامية، التي تعني التعامل مع الإسلام كأيدويولجيا سياسية بدلا من كونه دين، هي حقيقة راسخة في حياة العديد من البلدان الإسلامية، بما في ذلك إيران ومصر. ولا يمكننا تجاهل تلك الحقيقة، أو تغييرها بالقوة. فقد جرى العديد من المحاولات لتغيير الوضع بالقوة، بما في ذلك حملات القمع الواسعة التي قام بها الشاه في إيران وناصر في مصر. يجب الإقرار بأن تسييس الدين، يروق لقطاعات من مجتمعاتنا يتراوح عددها بين 5 في المائة إلى 20 في المائة. ففي الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية المصرية، جذب مرسى نحو 5 ملايين صوتا تعادل نحو 9 في المائة من مجمل الأصوات التي يحق لها التصويت. فإذا أقام الخمينيون انتخابات نزيهة، كان يمكن لخامنئي أن يحصل على نسبة مشابهة من الأصوات. ويبقى السؤال متعلقا بكيف يمكن دمج تلك الأقليات في نسيج الحياة القومية، من دون سحقهم بالقوة أو السماح لهم بتدمير الأمة برمتها.



ربع قرن على عرش الكرملين

أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
TT

ربع قرن على عرش الكرملين

أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)

مع حلول نهاية عام 2024، يكون الرئيس فلاديمير بوتين قد قضى 25 سنة كاملة على عرش الكرملين. تغيرت خلالها كثيراً ملامحُ روسيا، كما تغير العالم من حولها. والرئيس الذي تسلم تركة ثقيلة، عندما عُيّن في عام 1999 رئيساً للوزراء من قبل الرئيس بوريس يلتسين، وجد نفسه أمام استحقاقات صعبة، ودخلت البلاد معه منعطفات حاسمة، وواجهت صعوبات كبيرة، لكنها استعادت قدرتها ورسخت مكانتها مجدداً بين الكبار في العالم.

أعلن يلتسين عن استقالته في 31 ديسمبر (كانون الأول) عام 1999 خلال خطاب ألقاه بمناسبة رأس السنة، وأصبح بوتين رئيساً بالنيابة. وفي شهر مارس (آذار) عام 2000 فاز أول مرة في انتخابات الرئاسة.

تولى بوتين قيادة البلاد منذ ذلك الحين، باستثناء المدة من عام 2008 إلى عام 2012، عندما كان ديميتري ميدفيديف رئيساً وكان بوتين رئيساً للوزراء. ويلاحظ كثير من الخبراء أنه حتى في ذلك الحين كان هو الذي اتخذ القرارات الرئيسية بشأن قضايا السياسة الداخلية والخارجية، وكان المقصود من انتخاب ميدفيديف احترام متطلبات الدستور الروسي، الذي لا يسمح لشخص واحد بأن يكون رئيساً أكثر من ولايتين متتاليتين.

بوريس يلتسين (يمين) يصافح بوتين (يسار) خلال حفل الكرملين في موسكو في ديسمبر 1999 (أ.ف.ب)

بوتين في ربع قرن

ربع قرن مدة طويلة إلى حد ما، وعدد محدود من القادة في التاريخ الروسي بقوا في السلطة لمدة أطول. لذا؛ فمن المنطقي أن نلخص النتائج لحكم فلاديمير بوتين.

لقد ورث دولة تعاني من كثير من المشكلات الداخلية، فالعواقب التي خلفها التخلف عن سداد الديون في عام 1998، والتحركات الانفصالية، والبطالة، والفقر... كانت مجرد قائمة صغيرة من التحديات التي كان على فلاديمير بوتين أن يواجهها على الفور.

في عام 1999، قبل أشهر قليلة من استقالة يلتسين، اندلعت حرب الشيشان الثانية في شمال القوقاز. تمكن الزعيم الروسي الجديد من إنهاء العمليات القتالية في أبريل (نيسان) عام 2000. ومع ذلك، باتت الحركة الإرهابية السرية تعمل في الشيشان لسنوات عدة أخرى.

فقط في عام 2009 رُفع نظام عمليات مكافحة الإرهاب هناك، وهو ما عُدَّ نهاية للحرب. والآن الشيشان هي محافَظة مستقرة وآمنة ومزدهرة ضمن الأراضي الروسية، ويزورها كثير من السياح كل عام للتعرف على التقاليد المحلية والتاريخ والمأكولات.

أيضاً، وفي بداية عهد فلاديمير بوتين، أضيفت حوادث طارئة مختلفة إلى حالة عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي، فضلاً عن العمليات العسكرية في شمال القوقاز. وكان أكثرها صدى في أغسطس (آب) 2000، عندما غرقت الغواصة النووية «كورسك»، وأودت هذه الكارثة بحياة 118 بحاراً، وكانت صدمة لروسيا بأكملها. بالنسبة إلى فلاديمير بوتين، أصبح ذلك تحدياً حقيقياً، وواجه حينها انتقادات لعدم استجابته بشكل كافٍ للحادثة.

تضاف إلى هذه الأحداث المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الخطرة التي كان على رئيس الدولة حلها. أما بالنسبة إلى السياسة الخارجية، فرغم أن موسكو لا تزال عضواً دائماً في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فإنه حينها لم يكن لها أي دور مهم في الشؤون الدولية. لقد كان العالم أحادي القطب لمدة طويلة؛ في الواقع، كانت الولايات المتحدة منخرطة في غالبية العمليات على المسرح العالمي.

سيدة تبيع قطعة لحم كبيرة وسط حشود من الناس على أمل التغلب على أزمة النقص وارتفاع الأسعار في موسكو خلال الحقبة السوفياتية (غيتي)

«خطاب ميونيخ»

نقطة التحول كانت في عام 2007 عندما ألقى فلاديمير بوتين خطابه الشهير خلال «مؤتمر ميونيخ للأمن»، وذكر فيه تهديدات صادرة من توسع حلف «الناتو»، كما أشار إلى عدم قبول الحالة أحادية القطب أو تجاهل القانون الدولي.

في الوقت نفسه، أشار الزعيم الروسي إلى أن موسكو ستتبع سياسة خارجية مستقلة، وإلى أن تطورات الأحداث على الساحة العالمية، بما في ذلك استخدام القوة، يجب أن تستند فقط إلى ميثاق الأمم المتحدة.

كان على روسيا أن تثبت هذه الأقوال بالأفعال في وقت قريب جداً. في أغسطس عام 2008 أرسلت جورجيا قواتها إلى أوسيتيا الجنوبية وقصفت قاعدة لقوات حفظ السلام الروسية هناك. وخلال الحرب التي استمرت 8 أيام، تمكنت موسكو من هزيمة تبيليسي، واعترفت بأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا دولتين مستقلتين.

مع هذا، فإنه لم يتبع ذلك هدوء طويل الأمد. في نهاية عام 2010، اندلع ما يسمى «الربيع العربي» في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. في السنوات الأولى، لعبت روسيا دوراً سياسياً ودبلوماسياً في هذه الأحداث، وعملت بنشاط على منصة مجلس الأمن، لكن كما معروف، كان على موسكو لاحقاً أن تثبت قوة أسلحتها.

قبل ذلك، بدأت حالة التوتر في أوكرانيا. في عام 2014، على خلفية الاحتجاجات والاشتباكات مع قوات الأمن، وقع انقلاب في كييف. أسقط ممثلو ما تسمى «المعارضة»، بدعم من الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، الرئيس فيكتور يانوكوفيتش. وذلك على الرغم من الاتفاقات لحل النزاعات وإجراء الانتخابات الرئاسية. وعارض سكان دونباس وشبه جزيرة القرم تطور الأحداث هذا.

في النهاية، أُجري استفتاء في القرم حول الانضمام إلى أراضي روسيا في مارس عام 2014، وأيد هذا القرار أكثر من 96 في المائة من الناخبين. ومنذ ذلك الحين، أصبحت شبه جزيرة القرم جزءاً لا يتجزأ من الأراضي الروسية.

كان دونباس أقل حظاً؛ إذ استمر لسنواتٍ القتالُ المسلح بين متطوعي هذا الإقليم من جهة؛ والقوات الأوكرانية من جهة أخرى، وكان القتال بدأ في ربيع عام 2014، وأودى بحياة آلاف الأشخاص؛ بينهم نساء وأطفال.

وحتى على الرغم من توقيع «اتفاقيات مينسك» في عامي 2014 و2015، التي كانت تهدف إلى وقف إطلاق النار وتسوية وضع دونباس، فإن قصف نظام كييف لم يتوقف حتى عام 2022. ورغم ذلك؛ فإن كثيرين بدأوا ينظرون إلى انضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا بوصفه تحدياً من موسكو للولايات المتحدة ومحاولة روسية قوية للعب دور بارز على الساحة الدولية.

قوات جورجية تطلق النار فوق جدار على الجبهة في شمال غرب جورجيا أثناء الحرب الأهلية في يوليو 1993 (غيتي)

سوريا ونفوذ روسيا

أثبتت روسيا هذا بشكل أقوى في عام 2015، عندما بدأت العملية العسكرية في سوريا. آنذاك تمركز مقاتلو المعارضة ومجموعات إرهابية في ضواحي دمشق. كان هناك وضع حرج يتطور بالنسبة إلى السلطات المركزية في دمشق. ومع ذلك، فقد أدى القصف الجوي الروسي المكثف إلى وقف تقدم المتطرفين، ودفعهم إلى الوراء، وبدء تحرير المناطق الرئيسية بالبلاد التي جرى الاستيلاء عليها تقريباً منذ بداية الأزمة السورية في عام 2011.

وأظهرت العملية العسكرية قدرات روسيا ونفوذها في الشرق الأوسط. فهذا النفوذ لم يعزز موقف موسكو في المنطقة فحسب؛ بل سمح أيضاً لفلاديمير بوتين بتقديم نفسه مدافعاً عن الاستقرار الدولي ضد التهديدات الإرهابية.

لكن سوريا لم تصبح نقطة أخيرة في تعزيز مواقف روسيا على الساحة الدولية. وعادت موسكو إلى أفريقيا، حيث كانت غائبة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. وفي عدد من الحالات، تمكن فلاديمير بوتين من طرد فرنسا والولايات المتحدة. حدث هذا في مالي والنيجر وبوركينا فاسو وجمهورية أفريقيا الوسطى.

تقليدياً، يُنظر إلى روسيا على أنها تعارض الاستعمار، أو بشكل أكثر دقة: الاستعمار الجديد. وهذا ما يؤتي ثماره. فقد تمكنت موسكو من بناء تعاون اقتصادي وعسكري مع الدول الأفريقية على أساس الاحترام المتبادل ودون التضحية بمصالحها الخاصة.

ولكن ربما كان التحدي الرئيسي الذي واجهه فلاديمير بوتين هو قرار إجراء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، التي بدأت في فبراير (شباط) 2022. ويستمر القتال لحماية سكان دونباس، فضلاً عن نزع السلاح وإزالة النازية من أوكرانيا، حتى يومنا هذا.

تمكنت روسيا من تحرير مناطق كبيرة وإنشاء ما يسمى «الجسر البري» إلى شبه جزيرة القرم. بالإضافة إلى ذلك، توسعت حدود البلاد بسبب الاستفتاءات التي أُجريت في جمهوريتَي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، وكذلك في منطقتَي خيرسون وزابوروجيا.

أوكرانيون يعبرون مساراً تحت جسر مدمر أثناء فرارهم من ضواحي كييف في مارس 2022. (أ.ب)

علاقات بديلة

ومع ذلك، أصبح على روسيا أن تدفع ثمناً كبيراً مقابل السياسة السيادية والمستقلة. ورغم عدم وجود تصريحات رسمية حالياً بشأن عدد الخسائر في صفوف الجيش الروسي، فإن الأدلة غير المباشرة من المسؤولين الروس تشير إلى أنها تجاوزت خسائر الاتحاد السوفياتي في حربه بأفغانستان. بالإضافة إلى ذلك، تعرضت موسكو لعقوبات وحشية وضغوطات سياسة واقتصادية من الولايات المتحدة والدول الأوروبية وحلفائها.

في جوهره، كان الأمر يتعلق بمحاولة عزل روسيا سياسياً واقتصادياً ومالياً. ومع ذلك، لم تستطع الدول الغربية تحقيق ذلك. تمكنت موسكو من بناء علاقات تجارية بديلة، والحفاظ على اتصالات وثيقة مع الدول الآسيوية؛ بما فيها دول الشرق الأوسط. وبشكل عام، فإن الاقتصاد الروسي، رغم كل التوقعات، لم يَنْهَرْ، بل يظهر نمواً.

كانت السنوات الخمس والعشرين التي قضاها فلاديمير بوتين في السلطة بمنزلة حركة تقدمية للخروج من حفرة الأزمات التي وجدت روسيا نفسها فيها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، نحو الاستقرار الداخلي وإحياء موسكو بوصفها لاعباً قوياً على الساحة الدولية.

وكما يعترف كثير من أولئك الذين ينتقدون سياسات فلاديمير بوتين، فإن شعب روسيا لم يَعِشْ بمثل هذا الثراء من قبل، ولم يَحْظَ سابقاً بمثل هذه الفرص للتنمية... سيارة شخصية، ورحلات إجازات في داخل البلاد وخارجها، وفرص شراء السلع الاستهلاكية دون أي قيود، والحصول على التعليم، وخلق مهنة في أي مجال... كل هذا أصبح ممكناً بالنسبة إلى كثير من سكان روسيا، رغم أنه قبل وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة لم يكن من الممكن تصور أي شيء كهذا.

في الوقت نفسه، أصبحت مسألة من سيحل محل بوتين، عندما تنتهي الفرصة التي يوفرها الدستور للاحتفاظ بالمنصب الرئاسي، ملحة بشكل متنامٍ، ولعل «اختيار مثل هذا الشخص وإعداده» هو التحدي الأهم الذي لم يواجهه فلاديمير بوتين بعد.

* كاتب روسي