الأصولية العنيفة بين الوهج والانهيار

من شكري مصطفى... إلى «داعش»

جندي عراقي يعتقل عنصراً محتملاً من {داعش} (أ.ف.ب)
جندي عراقي يعتقل عنصراً محتملاً من {داعش} (أ.ف.ب)
TT

الأصولية العنيفة بين الوهج والانهيار

جندي عراقي يعتقل عنصراً محتملاً من {داعش} (أ.ف.ب)
جندي عراقي يعتقل عنصراً محتملاً من {داعش} (أ.ف.ب)

ربما من المثير التذكير أن جماعة «التكفير والهجرة» وزعيمها شكري مصطفى طلبا من الحكومة المصرية - حسب شهادة للمحامي محمود عزام خال أيمن الظواهري، السماح له ولجماعته بالهجرة للشام أو للعراق، حتى يؤسس هناك «خلافة» للمسلمين، كما هو الوعد القديم في روايات آخر الزمان تمهيدا لقدوم «المهدي المنتظر» وهو نفس ما روجه تنظيم «داعش» في مرحلة وهجه الذي خبا، وبريقه الذي زال بعد ذلك، وهكذا كانت «دابق» عنوانا لمجلته بالإنجليزية وجذبا للمقاتلين الأجانب لصفوفه انتصارا للحسم الذي زال بسقوطها ثم زال تماما.
من المثير أيضا أن نجد قضية «كتكفير المعين» أو «عدم العذر بالجهل»، وهي السبب الرئيسي للخلاف الراهن والمحتدم الآن بين الأجنحة المتنازعة في «داعش»، تيار «الحازميين» من جهة وتيار «البنعلية» من جهة أخرى، هي السبب أيضا الذي دفع المهندس شوقي الشيخ - بقرية كحك بمحافظة الفيوم المصرية - زعيم ما عرف بالشوقيين أواخر الثمانينات في مصر للانشقاق عن «الجماعة الإسلامية» المصرية وإمارة عمر عبد الرحمن، بعد أن كفر الأخير كما كفر بعض الحازميين «داعش» وأميرها أبو بكر البغدادي الآن.
وبعيدا عن هذه الدائرية والتكرار الحديث، وعودا للغلاة الأول عند الخوارج كانت البيعة والتحكيم وتكفير القاعديين، والتكفير بالمعصية، من أسباب تشتت فرقهم، كذلك كانت واحدة من تصدعات «داعش» النظرية وخلافات أفرادها قبل السقوط الميداني بقليل ومعه.
يبدو أن انتهاج آيديولوجيا التكفير لامتلاك وتصنيف وتصفية الأمة والطائفة، وطموح الخلافة والإمامة لامتلاك السلطة جعل القضايا نفسها وبنفس الطريقة والتأثير عند جماعات التطرف المعاصرة ومجموعاته الصغرى والكبرى في كل حين، بشكل لا شعوري ولا تاريخي يجهل التاريخ ودروسه في إصراره على رفض الوسط والوسطية، والاحتكام وفقط لما يفهمه ولما يراه النص وهو فهمه له.
من هنا، مثلت صراعات المتطرفين الآيديولوجية فيما بينهم أكثر من 70 في المائة، اتهاما وسجالا وردا ودفاعا، من مجموع مؤلفاتهم ومضامين وغايات خطاباتهم تقريبا، وتسير معهم، سواء منذ تأسيساتهم أو انشقاقاتهم البكر أو في مسار واقعهم وتاريخهم، السابق والراهن، ويحتفظون بها في المجتمع كما في السجون.
وكان الانشقاق هو السمة الأغلب والأوضح في مسار وتاريخ الجماعات المتطرفة دائما، وخصوصا تلك التي ولدت في أزمات عميقة كالأزمة السورية أو الليبية أو العراقية بدرجة ما، وإن كان يقلل وجود الانشقاق وظهور جماعات كثيرة «جهادية» وجود المضاد الطائفي الحافز للتوحد أحيانا.
ويتضح في مختلف محطات وتاريخ حركات التطرف العنيف غلبة الانشقاق على التوحد أو الاندماج، وفي تاريخها المصري نجد أنه حتى أغسطس (آب) عام 1993 ميلادية فقط بلغت حالات الانشقاق في الجماعات الدينية المتطرفة أكثر من 93 حالة انشقاق في مشهد الجماعات المتطرفة حينها، وتشظت المجموعات المقاتلة في سوريا والعراق وليبيا إلى مئات بل آلاف رغم ادعائها جميعا وحدة الهدف والعدو؟
ويمكننا أن نوجز أسباب الانشقاق داخل الجماعات المتطرفة فيما يلي:
1- التكفير والتوسع فيه: وهو ماثل ومشاهد الآن في المشهد الداعشي، فأمثال الراحل تركي البنعلي وأبو جعفر القحطاني وأبو ميسرة الشامي وقبلهم أبو بكر ناجي أو الحكايمة الذين أصروا على تكفير كل مخالفيهم، من الإخوان للقاعدة، يصلون نار التكفير من تيار الحازميين الآن، ويكفي أن نذكر عناوين بعض مقالات الحازميين الحالية:
2- وهذه بعض عناوين تلك المقالات تغني عن محتواها: «القول الندي في كفر دولة البغدادي» «و«فساد عقيدة أبو محمد العدناني» و«بيان طاغوتية البغدادي» و«الرد على دولة الأصنام في قضية سب الله وتارك الصلاة» و«طواغيت دولة الأصنام في العراق وجدالهم عن الطواغيت» و«سل الحسام على دولة الأصنام» و«إعلان النكير على فرقة البنعلي الجهمية الحمير» إلى غيرها من المقالات والمنشورات التي يتداولها الحازميون في مواقعهم وحساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
ونذكر شبيها سابقا بتيار الحازميين ما عرف بتيار الشوقيين الذي ظهر في مصر أواخر الثمانينات، في انشقاق عن الجماعة الإسلامية المصرية، وكفر أميرها حينئذ الراحل عمر عبد الرحمن، واعتمد على فتاوى أميره شوقي الشيخ، حتى كفر بعض مقرئي القرآن الكريم، ونذكر في هذا السياق القضية رقم 2471 لسنة 1989 فهي أكثر غرابة إذ عاقب أنصار شوقي الشيخ بقالاً يدعى شعبان أبو طالب لأنه دأب على سماع القرآن الكريم بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وكان شوقي يعتبر أن المقرئين المشهورين «كفرة» لأنهم يتعاملون مع النظام القائم.
3- إشكاليات فقهية «كالعذر - أو عدم العذر - بالجهل»: وكما كان سبب الخلاف بين المجموعات المتطرفة المصرية في السجن بعد مقتل السادات سنة 1981، ازدادت حدته وصار سببا للخلاف بين أجنحة «داعش» الآن، وخصوصا بين «الحازميين» الذين يرفضون العذر بالجهل ويكفرون من لم يكفر من كفروه، وبين البنعليين الذين لا يعذرون بالجهل ولكن لا يكفرون من يقول بعدم التكفير به..
4- الإمارة ونزاعها: مثل جدل إمارة الأمير وإمارة الأسير في تاريخ الحركة الجهادية المصرية أو الجزائرية، وصولا لاشتراط تنظيم «داعش» البيعة من كل مخالفيها، وإلا كان مصيرهم الحكم بالردة واستحلال القتل، وهو ما سبق أن مارسته تنظيمات التكفير والهجرة والشوقيين في مصر أو الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر.
5- كثرة المفتين وفوضى الإفتاء: التخوين والاتهام بالعمالة عند أدنى اختلاف أو اعتراض، وهو ما ينتجه ويساهم فيه كثرة المفتين وثقة المتطرف وجسارته على الإفتاء في المسائل الخطيرة، ولافتته في تطهير الصف وتصحيح ومصلحة التوحيد وما شابه مما يجعل إمكانية نشوء مجموعات جديدة قائما دائما.
6- طبيعة التطرف الانقسامية: ويلاحظ في تاريخ جماعات «الجهاد المصري» مثلا، أنها ولدت مجموعات صغيرة، ولم تتوحد إلا مرة واحدة إعدادا لاغتيال السادات في عملية «الجهاد» الكبرى سنة 1981 ثم تفككت بعد ذلك، إلا في المهجر تحت قيادة الظواهري وليس كل المجموعات «الجهادية»، ثم انطوت وانضوت تحت لواء «القاعدة» وشبكتها فيما بعد.
العوامل الحاكمة للانشقاق والاتحاد بين الجماعات
يختلف معدل الانشقاق من جماعة إلى أخرى، من كونها دينية دعوية إلى كونها «جهادية»، وحسب حجمها وعمرها الزمني وهيكلها التنظيمي وسيطرته.
عرف تاريخ التنظيمات المتطرفة دائما، محاولات للاندماج أو عمليات للانشقاق، ولكن الأولى قد تقف عند حدود التنسيق أو الشكل الجبهوي سياسيا أو «جهاديا»، وهو ما يكون عند وجود تحديات أو طموحات مشتركة، كما كان في تحالفات الإسلاميين الانتخابية، في مصر في الثمانينات أو في الجزائر مع جبهة الإنقاذ سنة 1989 أو في غيرهما، أو في مجلس شورى «المجاهدين» الذي أسسه الزرقاوي سنة 2004 ليضم مختلف الفصائل «الجهادية»، كما عرفناه فيما بعد الثورات العربية في أشكال مختلفة سياسية و«جهادية» وعنفية، حيث تم اندماج مجموعات أصغر وتشكلت جبهات أكبر مختلفة خاصة في الساحتين السورية والليبية، حيث وحدهم جميعا طموح الدولة والإمارة لتكوين جبهات متوحدة، كما شاهدنا ونشاهد في بؤر الصراع في سوريا وليبيا بالخصوص.
لكن كان الخلاف والانشقاق والصدام بين الجماعات دائما أكثر تكرارا من محاولات التنسيق، سواء على المستوى النظري أو العملي، بدءا من الصراع على إمامة المساجد حتى الصراع على إمارة الجماعة والناس.
وكثيرا ما وصل الخلاف بين تنظيمات التطرف العنيف، لحد القتل والاستحلال المتبادل والخيانة ومحاولات الاغتيال، وسبق أن اتهم بعض مؤرخي الإخوان التنظيم الخاص بقتل حسن البنا، ووصفه الظواهري في الطبعة الأولى من «الحصاد المر» بشيء من ذلك، كما قتلت مجموعة «الجهاد المصري» في بني سويف أحد قيادييها الذي فكر في الانشقاق سنة 1986 يدعى (حسام البطوجي)، أو تاريخ العشرية السوداء في الجزائر حين أعدم عنتر زوابري 500 «جهادي» كانوا معه من تيار الجزأرة لمجرد تفكيرهم في المصالحة، كان في مقدمتهم قائده الدكتور محمد سعيد، وغير هذا كثير، أو ما أثير مؤخرا من تسريبات بعض قيادات جبهة فتح الشام في سوريا من تبييتهم النية لاستئصال شأفة حركة أحرار الشام وآخرين وأدت للانشقاقات الأخيرة فيها.
إن جماعات التطرف بطبيعتها تطهيرية وانقسامية وانشقاقية وتتناسب درجة انقسامها طرديا مع درجة تشددها، فأكثرها غلوا تكون أكثرها انقساما، كما تتناسب عكسيا مع قصر وطول عمرها، فالحركات طويلة العمر نسبيا أقل درجة من التعرض للانشقاق.
ومثالا على ذلك أنه في الانقسام الداعشي الحالي الراهن، بين الحازمية والبنعلية، لم يتصور أحد أن تكون بداية تفكك هذا التنظيم العسكري العتيد من مسألة منهجية دقيقة تجاوزها العقل المسلم مع ما تجاوزه من مسائل العقيدة والكلام في عصر التحديات الحضارية والصراعات الوجودية التي تعيشها الأمة، ولم يستطع التنظيم رغم بطشه وسطوته حسم هذه المسألة ودياً بين أنصاره وعناصره، ولم تفلح دعواته المتكررة لجنوده و«رعاياه» إلى عدم الخوض فيها والنقاش حولها، ومكمن الخطورة في هذه المسألة - أو على الأرجح كما يتصورها تنظيم داعش - أن المواقف المترتبة عنها لا تتوزع بين: رأي صحيح ورأي خاطئ، بل تتراوح بين رأي سني ورأي كفري! بمعنى إما أن تأخذ برأيي في المسألة فتسمى مسلماً أو تصر على رأيك فتبقى كافراً مرتداً.
ختاماً، يزخر مشهد التطرف العنيف المعاصر بتناقض غريب بين خطاب المتطرفين الداعي للوحدة في سوريا والعراق وليبيا ومصر وغيرها، والمحتكر للفرقة الناجية والصحة وبين واقع صراعاتهم، عالميا أو إقليميا أو وطنيا، من فرق الخوارج العشرين، إلى الشوقيين والجماعة الإسلامية المصرية التي انشقوا عنها، إلى الجولاني وأبي هاشم الشيخ الشركاء السابقين في جبهة فتح الشام إلى قنبلة العذر بالجهل القديمة بين الجماعة الإسلامية المصرية ومجموعات «الجهاد المصري»، ثم بين الحازميين والبنعليين في صفوف «داعش»، وهكذا يفقد الوهج الآيديولوجي اللاتاريخي مع اختبارات التاريخ بريقه ويسقط نظرا وواقعا مع الوقت.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟