الأصولية العنيفة بين الوهج والانهيار

من شكري مصطفى... إلى «داعش»

جندي عراقي يعتقل عنصراً محتملاً من {داعش} (أ.ف.ب)
جندي عراقي يعتقل عنصراً محتملاً من {داعش} (أ.ف.ب)
TT

الأصولية العنيفة بين الوهج والانهيار

جندي عراقي يعتقل عنصراً محتملاً من {داعش} (أ.ف.ب)
جندي عراقي يعتقل عنصراً محتملاً من {داعش} (أ.ف.ب)

ربما من المثير التذكير أن جماعة «التكفير والهجرة» وزعيمها شكري مصطفى طلبا من الحكومة المصرية - حسب شهادة للمحامي محمود عزام خال أيمن الظواهري، السماح له ولجماعته بالهجرة للشام أو للعراق، حتى يؤسس هناك «خلافة» للمسلمين، كما هو الوعد القديم في روايات آخر الزمان تمهيدا لقدوم «المهدي المنتظر» وهو نفس ما روجه تنظيم «داعش» في مرحلة وهجه الذي خبا، وبريقه الذي زال بعد ذلك، وهكذا كانت «دابق» عنوانا لمجلته بالإنجليزية وجذبا للمقاتلين الأجانب لصفوفه انتصارا للحسم الذي زال بسقوطها ثم زال تماما.
من المثير أيضا أن نجد قضية «كتكفير المعين» أو «عدم العذر بالجهل»، وهي السبب الرئيسي للخلاف الراهن والمحتدم الآن بين الأجنحة المتنازعة في «داعش»، تيار «الحازميين» من جهة وتيار «البنعلية» من جهة أخرى، هي السبب أيضا الذي دفع المهندس شوقي الشيخ - بقرية كحك بمحافظة الفيوم المصرية - زعيم ما عرف بالشوقيين أواخر الثمانينات في مصر للانشقاق عن «الجماعة الإسلامية» المصرية وإمارة عمر عبد الرحمن، بعد أن كفر الأخير كما كفر بعض الحازميين «داعش» وأميرها أبو بكر البغدادي الآن.
وبعيدا عن هذه الدائرية والتكرار الحديث، وعودا للغلاة الأول عند الخوارج كانت البيعة والتحكيم وتكفير القاعديين، والتكفير بالمعصية، من أسباب تشتت فرقهم، كذلك كانت واحدة من تصدعات «داعش» النظرية وخلافات أفرادها قبل السقوط الميداني بقليل ومعه.
يبدو أن انتهاج آيديولوجيا التكفير لامتلاك وتصنيف وتصفية الأمة والطائفة، وطموح الخلافة والإمامة لامتلاك السلطة جعل القضايا نفسها وبنفس الطريقة والتأثير عند جماعات التطرف المعاصرة ومجموعاته الصغرى والكبرى في كل حين، بشكل لا شعوري ولا تاريخي يجهل التاريخ ودروسه في إصراره على رفض الوسط والوسطية، والاحتكام وفقط لما يفهمه ولما يراه النص وهو فهمه له.
من هنا، مثلت صراعات المتطرفين الآيديولوجية فيما بينهم أكثر من 70 في المائة، اتهاما وسجالا وردا ودفاعا، من مجموع مؤلفاتهم ومضامين وغايات خطاباتهم تقريبا، وتسير معهم، سواء منذ تأسيساتهم أو انشقاقاتهم البكر أو في مسار واقعهم وتاريخهم، السابق والراهن، ويحتفظون بها في المجتمع كما في السجون.
وكان الانشقاق هو السمة الأغلب والأوضح في مسار وتاريخ الجماعات المتطرفة دائما، وخصوصا تلك التي ولدت في أزمات عميقة كالأزمة السورية أو الليبية أو العراقية بدرجة ما، وإن كان يقلل وجود الانشقاق وظهور جماعات كثيرة «جهادية» وجود المضاد الطائفي الحافز للتوحد أحيانا.
ويتضح في مختلف محطات وتاريخ حركات التطرف العنيف غلبة الانشقاق على التوحد أو الاندماج، وفي تاريخها المصري نجد أنه حتى أغسطس (آب) عام 1993 ميلادية فقط بلغت حالات الانشقاق في الجماعات الدينية المتطرفة أكثر من 93 حالة انشقاق في مشهد الجماعات المتطرفة حينها، وتشظت المجموعات المقاتلة في سوريا والعراق وليبيا إلى مئات بل آلاف رغم ادعائها جميعا وحدة الهدف والعدو؟
ويمكننا أن نوجز أسباب الانشقاق داخل الجماعات المتطرفة فيما يلي:
1- التكفير والتوسع فيه: وهو ماثل ومشاهد الآن في المشهد الداعشي، فأمثال الراحل تركي البنعلي وأبو جعفر القحطاني وأبو ميسرة الشامي وقبلهم أبو بكر ناجي أو الحكايمة الذين أصروا على تكفير كل مخالفيهم، من الإخوان للقاعدة، يصلون نار التكفير من تيار الحازميين الآن، ويكفي أن نذكر عناوين بعض مقالات الحازميين الحالية:
2- وهذه بعض عناوين تلك المقالات تغني عن محتواها: «القول الندي في كفر دولة البغدادي» «و«فساد عقيدة أبو محمد العدناني» و«بيان طاغوتية البغدادي» و«الرد على دولة الأصنام في قضية سب الله وتارك الصلاة» و«طواغيت دولة الأصنام في العراق وجدالهم عن الطواغيت» و«سل الحسام على دولة الأصنام» و«إعلان النكير على فرقة البنعلي الجهمية الحمير» إلى غيرها من المقالات والمنشورات التي يتداولها الحازميون في مواقعهم وحساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
ونذكر شبيها سابقا بتيار الحازميين ما عرف بتيار الشوقيين الذي ظهر في مصر أواخر الثمانينات، في انشقاق عن الجماعة الإسلامية المصرية، وكفر أميرها حينئذ الراحل عمر عبد الرحمن، واعتمد على فتاوى أميره شوقي الشيخ، حتى كفر بعض مقرئي القرآن الكريم، ونذكر في هذا السياق القضية رقم 2471 لسنة 1989 فهي أكثر غرابة إذ عاقب أنصار شوقي الشيخ بقالاً يدعى شعبان أبو طالب لأنه دأب على سماع القرآن الكريم بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وكان شوقي يعتبر أن المقرئين المشهورين «كفرة» لأنهم يتعاملون مع النظام القائم.
3- إشكاليات فقهية «كالعذر - أو عدم العذر - بالجهل»: وكما كان سبب الخلاف بين المجموعات المتطرفة المصرية في السجن بعد مقتل السادات سنة 1981، ازدادت حدته وصار سببا للخلاف بين أجنحة «داعش» الآن، وخصوصا بين «الحازميين» الذين يرفضون العذر بالجهل ويكفرون من لم يكفر من كفروه، وبين البنعليين الذين لا يعذرون بالجهل ولكن لا يكفرون من يقول بعدم التكفير به..
4- الإمارة ونزاعها: مثل جدل إمارة الأمير وإمارة الأسير في تاريخ الحركة الجهادية المصرية أو الجزائرية، وصولا لاشتراط تنظيم «داعش» البيعة من كل مخالفيها، وإلا كان مصيرهم الحكم بالردة واستحلال القتل، وهو ما سبق أن مارسته تنظيمات التكفير والهجرة والشوقيين في مصر أو الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر.
5- كثرة المفتين وفوضى الإفتاء: التخوين والاتهام بالعمالة عند أدنى اختلاف أو اعتراض، وهو ما ينتجه ويساهم فيه كثرة المفتين وثقة المتطرف وجسارته على الإفتاء في المسائل الخطيرة، ولافتته في تطهير الصف وتصحيح ومصلحة التوحيد وما شابه مما يجعل إمكانية نشوء مجموعات جديدة قائما دائما.
6- طبيعة التطرف الانقسامية: ويلاحظ في تاريخ جماعات «الجهاد المصري» مثلا، أنها ولدت مجموعات صغيرة، ولم تتوحد إلا مرة واحدة إعدادا لاغتيال السادات في عملية «الجهاد» الكبرى سنة 1981 ثم تفككت بعد ذلك، إلا في المهجر تحت قيادة الظواهري وليس كل المجموعات «الجهادية»، ثم انطوت وانضوت تحت لواء «القاعدة» وشبكتها فيما بعد.
العوامل الحاكمة للانشقاق والاتحاد بين الجماعات
يختلف معدل الانشقاق من جماعة إلى أخرى، من كونها دينية دعوية إلى كونها «جهادية»، وحسب حجمها وعمرها الزمني وهيكلها التنظيمي وسيطرته.
عرف تاريخ التنظيمات المتطرفة دائما، محاولات للاندماج أو عمليات للانشقاق، ولكن الأولى قد تقف عند حدود التنسيق أو الشكل الجبهوي سياسيا أو «جهاديا»، وهو ما يكون عند وجود تحديات أو طموحات مشتركة، كما كان في تحالفات الإسلاميين الانتخابية، في مصر في الثمانينات أو في الجزائر مع جبهة الإنقاذ سنة 1989 أو في غيرهما، أو في مجلس شورى «المجاهدين» الذي أسسه الزرقاوي سنة 2004 ليضم مختلف الفصائل «الجهادية»، كما عرفناه فيما بعد الثورات العربية في أشكال مختلفة سياسية و«جهادية» وعنفية، حيث تم اندماج مجموعات أصغر وتشكلت جبهات أكبر مختلفة خاصة في الساحتين السورية والليبية، حيث وحدهم جميعا طموح الدولة والإمارة لتكوين جبهات متوحدة، كما شاهدنا ونشاهد في بؤر الصراع في سوريا وليبيا بالخصوص.
لكن كان الخلاف والانشقاق والصدام بين الجماعات دائما أكثر تكرارا من محاولات التنسيق، سواء على المستوى النظري أو العملي، بدءا من الصراع على إمامة المساجد حتى الصراع على إمارة الجماعة والناس.
وكثيرا ما وصل الخلاف بين تنظيمات التطرف العنيف، لحد القتل والاستحلال المتبادل والخيانة ومحاولات الاغتيال، وسبق أن اتهم بعض مؤرخي الإخوان التنظيم الخاص بقتل حسن البنا، ووصفه الظواهري في الطبعة الأولى من «الحصاد المر» بشيء من ذلك، كما قتلت مجموعة «الجهاد المصري» في بني سويف أحد قيادييها الذي فكر في الانشقاق سنة 1986 يدعى (حسام البطوجي)، أو تاريخ العشرية السوداء في الجزائر حين أعدم عنتر زوابري 500 «جهادي» كانوا معه من تيار الجزأرة لمجرد تفكيرهم في المصالحة، كان في مقدمتهم قائده الدكتور محمد سعيد، وغير هذا كثير، أو ما أثير مؤخرا من تسريبات بعض قيادات جبهة فتح الشام في سوريا من تبييتهم النية لاستئصال شأفة حركة أحرار الشام وآخرين وأدت للانشقاقات الأخيرة فيها.
إن جماعات التطرف بطبيعتها تطهيرية وانقسامية وانشقاقية وتتناسب درجة انقسامها طرديا مع درجة تشددها، فأكثرها غلوا تكون أكثرها انقساما، كما تتناسب عكسيا مع قصر وطول عمرها، فالحركات طويلة العمر نسبيا أقل درجة من التعرض للانشقاق.
ومثالا على ذلك أنه في الانقسام الداعشي الحالي الراهن، بين الحازمية والبنعلية، لم يتصور أحد أن تكون بداية تفكك هذا التنظيم العسكري العتيد من مسألة منهجية دقيقة تجاوزها العقل المسلم مع ما تجاوزه من مسائل العقيدة والكلام في عصر التحديات الحضارية والصراعات الوجودية التي تعيشها الأمة، ولم يستطع التنظيم رغم بطشه وسطوته حسم هذه المسألة ودياً بين أنصاره وعناصره، ولم تفلح دعواته المتكررة لجنوده و«رعاياه» إلى عدم الخوض فيها والنقاش حولها، ومكمن الخطورة في هذه المسألة - أو على الأرجح كما يتصورها تنظيم داعش - أن المواقف المترتبة عنها لا تتوزع بين: رأي صحيح ورأي خاطئ، بل تتراوح بين رأي سني ورأي كفري! بمعنى إما أن تأخذ برأيي في المسألة فتسمى مسلماً أو تصر على رأيك فتبقى كافراً مرتداً.
ختاماً، يزخر مشهد التطرف العنيف المعاصر بتناقض غريب بين خطاب المتطرفين الداعي للوحدة في سوريا والعراق وليبيا ومصر وغيرها، والمحتكر للفرقة الناجية والصحة وبين واقع صراعاتهم، عالميا أو إقليميا أو وطنيا، من فرق الخوارج العشرين، إلى الشوقيين والجماعة الإسلامية المصرية التي انشقوا عنها، إلى الجولاني وأبي هاشم الشيخ الشركاء السابقين في جبهة فتح الشام إلى قنبلة العذر بالجهل القديمة بين الجماعة الإسلامية المصرية ومجموعات «الجهاد المصري»، ثم بين الحازميين والبنعليين في صفوف «داعش»، وهكذا يفقد الوهج الآيديولوجي اللاتاريخي مع اختبارات التاريخ بريقه ويسقط نظرا وواقعا مع الوقت.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.