فقدت «داعش» بريقها وجاذبيتها بعد هزائمها المتتالية، في سوريا والعراق، وغدت طاردة بعد أن كانت دار هجرة، لتترك المقاتلين الأجانب فيها يبحثون عن ملاذ لهم بخيارات محدودة ومخاطر تظل محتملة، بعد أن كانت ملاذهم. في البداية نشير إلى تراجع أعداد المقاتلين إلى بضعة آلاف قليلة، خلال المعارك الأخيرة، قبل وبعد سقوط الرقة في 17 أكتوبر (تشرين الأول) من العام الحالي، في يد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بعد مرور نحو أربعة أعوام على إعلان عاصمة لخلافة التنظيم المزعومة، وبعد عام من سقوط «دابق» التي كانت وعد حروب آخر الزمان، والتي جندت به «داعش» الآلاف من المقاتلين الأجانب لصفها، وجعلته اسما لمجلتها بالإنجليزية التي تستهدفهم، والتي توقفت لبعض الوقت بعد خسارتها لكثير من كوادرها.
بدأت عمليات قوات سوريا الديمقراطية في الرقة «قسد» في 6 يونيو (حزيران) 2017، حتى نجحت في السيطرة على معظم قرى وبلدات المحافظة، وبينما تنجح العناصر والكوادر المحلية التي انضمت للتنظيم في الذوبان في مجتمعهم أو العودة لمناطقهم، وهو ما حدث في ليبيا بعد سقوط سرت، حيث ذاب المقاتلون المحليون في بلادهم ووسط قبائلهم، بينما تم القبض على بعض الأجانب، وتوجه البعض بعملياته وخططه إلى مصر كما يرجح في تفسير بعض العمليات الأخيرة.
هكذا، يواجه المقاتلون الأجانب الذين عاشوا في جيتوهات «داعش» وكتائبها الموزعة على الجنسيات صعوبة بل استحالة في هذا الذوبان! لاختلاف اللغات والثقافات والأشكال، وأيضا للقسوة التي عرف بها كثير منهم وتمنع إمكانية التعاطف معهم في الآن نفسه، وهو ما يتضح في عدم شمول الاتفاق بالعفو عن الأجانب أو السماح لهم بخيار العودة السهلة، والذي قاده وتوسط فيه بعض وجهاء وشيوخ العشائر في المدينة، بل انحصر في المقاتلين المحليين وبعض المدنيين فقط.
تراجع في الأعداد
وصلت أعداد المقاتلين الأجانب عامي 2014 و2015 إلى 25 ألف مقاتل أجنبي هاجروا إليها من مائة دولة حتى وصلوا الأراضي التي تسيطر عليها «داعش» في سوريا والعراق، لكن هذه الأرقام تراجعت كثيرا، منذ بدايات 2016.
تراجعت أعداد المقاتلين الأجانب مع تراجع جاذبية الهزائم وفقدانه بريقه، منذ أواسط العام 2016 وصعود الخلافات الداخلية داخلها، فبينما كان التدفق عبر الحدود التركية السورية يصل إلى 2000 مقاتل شهريا وصل في يونيو سنة 2016 إلى 50 مقاتلاً فقط كل شهر حسب تقرير للاستخبارات الأميركية، ويرجح أنه يكاد ينعدم خلال الشهور القليلة الماضية.
سقط الحلم، وهمدت العاطفة الإيمانية، فأغلب المقاتلين الأجانب كانوا فارغين من العلم الديني، حسب دراسة حديثة لمكتب مكافحة الإرهاب في الأمم المتحدة صدرت في أغسطس (آب) الماضي 2017 وشملت 43 عنصرا عائدا لوطنه من 12 دولة مختلفة أغلبهم يعاني من نقص المعرفة الأساسية بالإسلام ومبادئه ولكن أغرتهم العاطفة، ووعود الخلافة المزعومة فقط.
ويثبت هذا النقص في المعرفة أن 25 في المائة من مقاتلي «داعش» كانوا من المتحولين الجدد إلى الإسلام، الذين لم يسبق لهم التعرف على الإسلام الوسطي، والتقطتهم عناصر «داعش» عبر الغرف والمواقع التفاعلية على شبكة الإنترنت، إغراء بدار الإسلام وتحقق يثرب الجديدة أو وعود الزواج للنساء والصغيرات بالخصوص كما شهدنا في حالة حسناء «داعش» الألمانية التي بلغت من العمر 16 عاما وقبض عليها في الموصل.
تقلص الخيارات
تحفز مستمر ودائم للخلايا النائمة وفلول العناصر المقاتلة المهزومة، ففي سوريا بعد سقوط الرقة تقوم قوات سوريا الديمقراطية، كما سبق أن قامت القوات العراقية بالبحث عن بعض «الخلايا النائمة» ومطاردة المشبوه فيهم، خصوصاً أن «الخلايا النائمة» في التنظيمات العنقودية كـ«داعش»، تفاجئ دائما أعداءها بما هو غير متوقع، كما تطارد «قسد» بعض العناصر التي رفضت الاستسلام وما زالت تتحصن داخل بعض الأماكن مع عائلاتها رغم محدودية الخيارات المتاحة أمامه في كل الأحوال، كذلك تتحفز دول المقاتلين الأجانب ومواطنهم الأصلية لمخاطر عودتهم بكل استعداد أمني، وتتوجس خيفة من كل من يمكن أن يكون مشتبهاً به، أكان مواطناً أصلياً أو مهاجراً، وقد قامت ألمانيا بعد قرار المحكمة العليا بتهجير عدد من اللاجئين لشبهة الإرهاب خلال الأسابيع القليلة الماضية.
إن أوضاع المقاتلين الأجانب أخطر بكثير من المواطنين المحليين، فالأخيرون يمكن إدماجهم أو اندماجهم واختفاؤهم وسط مجتمعاتهم، هذا ما حدث بعد تحرير الموصل في يونيو سنة 2017 بعد سقوط سرت بيد قوات مصراتة في ليبيا في أكتوبر الماضي، ويبدو أنه ما سيحدث في سوريا بعد الرقة ولكن المقاتلين الأجانب أمامهم إما العودة لبلدانهم وإما مواصلة الحرب إن استطاعوا أو الاستسلام.
يبدو أن الموقف صعب وتضاربت الأنباء بخصوص الأجانب، ورغم ظهور تقارير كثيرة تشير إلى خروج بعض المقاتلين الأجانب في إطار الاتفاق الأخير وتصريحات بعض المسؤولين المحليين في الرقة، فإن المجلس المدني بالرقة، الذي يضم ممثلين عن العشائر، في 15 أكتوبر 2017، نفى خروج هؤلاء وأكد أن «المقاتلين الأجانب ليسوا ضمن اهتمامات المجلس المدني ولجنة العشائر، ولا يمكن الصفح عنهم»، مضيفاً أن «المستسلمين هم فقط سوريون وعددهم مع عوائلهم 275 شخصاً».
ولن يتكرر هذا المرة اتفاق «حزب الله» و«داعش» على السماح لمجموعات من مقاتلي «داعش» للدخول إلى الحدود السورية مع العراق، رغم رفض العراق وإعلان تحفظه والنقد الدولي لهذا التصرف الغريب، وهو ما حدا بالتحالف الدولي للحرب على «داعش» على لسان المتحدث باسمه العقيد رايان ديلون، غداة «تحرير الرقة» أن يؤكد أن «التحالف لن يسمح للمقاتلين الأجانب في (داعش) بمغادرة الرقة»، بما يعني - كما ذكر تحليل لمركز المستقبل للدراسات المتقدمة في أبوظبي - أن القوى الدولية المنخرطة في الحرب ضد التنظيم تبدي اهتماماً خاصاً بتلك القضية، التي ترى أنها فرضت تداعيات مباشرة على أمنها خلال المرحلة الماضية، بعد العمليات الإرهابية التي وقعت في كثير من العواصم الغربية، على غرار باريس وبروكسل ولندن. ويبدو أن ذلك سوف يسهم بدوره في تحديد الخيارات المتاحة أمام المقاتلين الأجانب الذين ما زالوا موجودين داخل الرقة.
إن الجميع يتوجس خيفة من عودة المقاتلين الأجانب الذين يتميزون بكفاءات عالية، وبعضهم من قيادات «داعش» الأساسية، والأكثر قدرة على تنفيذ عمليات إرهابية غير تقليدية كالعمليات الانتحارية أبرز ما استخدمه التنظيم من أسلحة، أو قدرتهم على التجنيد والتشبيك كدور يوسف الهندي وزير صحة «داعش» الذي ظهر في فيديو له قبل فترة ويدعى «أبو مقاتل الهندي»، الذي جند عددا كبيرا من الأطباء من الهند وباكستان وسريلانكا للعمل مع القطاع الصحي لـ«داعش»، ويعتبر مع طبيب هندي آخر من ولاية كيرلا المسؤول الرئيسي عن عدد من عمليات «داعش» في الهند خلال الأسابيع الأخيرة.
ولم تكن العمليات الإرهابية التي نفذها «داعش» في أوروبا وخاصة فرنسا والولايات المتحدة وغيرها إلا عبر عدد من المقاتلين الأجانب الذين تمكنوا من العودة لبلدانهم الأصلية، كما تعاني مصر من عودة بعض المقاتلين المنسوبين لـ«داعش» من ليبيا ومن سوريا والعراق. إن الجميع يتحسب ويشعر بالخطر من عودة المقاتلين الأجانب كما يشعر به جبهات عدائهم في الداخل السوري والعراقي.
ثلاثة بدائل ضيقة جداً
حدد «مركز المستقبل للدراسات المتقدمة» في أبوظبي عددا من البدائل الضيقة، لمصير المقاتلين الأجانب في سوريا بعد تحرير الرقة، انطلاقا من حرص «قوات سوريا الديمقراطية» على تأمين تحريرها وأمان خطر فلول «داعش»، في مسارات ثلاثة تمثل خيارات محدودة وبدائل ضيقة للتنظيم هي كما يلي حسب التحليل المشار إليه:
1 - مواصلة الانخراط في مواجهات مسلحة: خاصة في ضوء الأهمية الخاصة التي يبديها بعض مقاتلي التنظيم لمحافظة الرقة تحديداً، التي مثلت المعقل الرئيسي للتنظيم وعاصمته، بشكل سوف يدفع الكثير منهم إلى تفضيل البقاء داخل المدينة على الخروج منها إلى مناطق أخرى يسيطر عليها التنظيم. بل إن بعضهم قد يستمر في قتال عناصر ميليشيا «قسد» تجنباً للوقوع في الأسر.
2 - الهروب من المدينة: ربما يحاول بعض المقاتلين الأجانب الهروب من المدينة والانتقال إلى المناطق الأخرى التي يوجد بها التنظيم أو إلى أي منطقة أخرى، خاصة أن بعضهم لم ينضم إلى الأخير بسبب توجهاته الفكرية، وإنما لاعتبارات أخرى يأتي في مقدمتها الحصول على موارد مالية. ومن هنا، فإن هذا الفصيل قد يسعى إلى تجنب خياري الأسر أو القتل، من خلال العمل على البحث عن مسارات للخروج من المدينة، إلا أنه قد يواجه صعوبات في هذا السياق بسبب الحصار الذي تفرضه ميليشيا «قسد» على المدينة.
3 - الاستسلام لميليشيا «قسد»: لا سيما أن الأخيرة نجحت في السيطرة على معظم أنحاء المحافظة، وقد أشار المرصد السوري لحقوق الإنسان بالفعل إلى أن ما بين 130 إلى 150 مقاتلاً أجنبياً استسلموا لميليشيا «قسد» قبل انتهاء المعارك. وترجح تقارير كثيرة أن تقوم الميليشيا الكردية بفتح قنوات تواصل مع الدول التي ينحدر منها هؤلاء المقاتلون من أجل البحث في الآليات المتاحة لإعادتهم إليها من أجل محاكمتهم.
لا شك أن ظاهرة «المقاتلين الأجانب» وعودتهم أو «العائدين من مناطق الصراع»، تهدد العالم أجمع، وليس فقط أعداءهم المحليين، وقد انتبه الاتحاد الأوروبي لذلك في أكثر من مرة خلال الشهور الماضية حسب عدد من التقارير، ولكن نظن أن فلول «داعش» التي فقدت كل أساس جاذبية لها، المكان والزمان، سيكونون أقل خطرا من العائدين من أفغانستان عقب الجهاد الأفغاني أو فروع «القاعدة» التي لم تستغرق ولم تعد منسوبيها بمثل ما ادعت «داعش»، ويبدو أن دراسة مكتب مكافحة الإرهاب بالأمم المتحدة الأخيرة تثبت أن جميع من عادوا هم في مرحلة المراجعة والندم أكثر منهم في مرحلة التحفز لعمليات جديدة، بعد سقوط التنظيم ودولته المزعومة، ولكن لا ينفي هذا الاستعداد لاحتمال الخطر.