الأصوليون المسيحيون... وإسرائيل

مساق طويل من دعم الإنجيليين لها مالياً وأدبياً

أصوليون مسيحيون موالون لإسرائيل في إحدى مظاهراتهم بأميركا («الشرق الأوسط»)
أصوليون مسيحيون موالون لإسرائيل في إحدى مظاهراتهم بأميركا («الشرق الأوسط»)
TT

الأصوليون المسيحيون... وإسرائيل

أصوليون مسيحيون موالون لإسرائيل في إحدى مظاهراتهم بأميركا («الشرق الأوسط»)
أصوليون مسيحيون موالون لإسرائيل في إحدى مظاهراتهم بأميركا («الشرق الأوسط»)

وسط زحام مثير لأحداث الشرق الأوسط خلال الأسابيع الأخيرة، جرت ملامحه ومعالمه في القدس الشريف المغتصب خلال احتفالات اليهود بأحد أعيادهم المهمة «عيد العرش» أو «عيد المظال»، امتلأت شوارع البلدة العتيقة بآلاف المسيحيين الإنجيليين، ذلك التيار الأصولي المسيحي المغرق في حب إسرائيل.
قصة الإنجيليين الداعمين لدولة إسرائيل ليست حديثة، ومع تولي دونالد ترمب الرئاسة الأميركية، يبدو أن البعض يعود لذلك الاتجاه الذي يخلط بين السياسة والدين خلطاً مقصوداً يؤثر على اتجاهات العملية السلمية بنوع خاص بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

القدس تغص بالأصوليين الإنجيليين
أوائل شهر أكتوبر (تشرين الأول) الجاري يوافق حسب التقليد اليهودي «عيد العرش» أو «عيد المظال» والأصل في فكرة هذا الاحتفال –حسب التقويم اليهودي- هو تقديم الشكر لله الذي أعان بني إسرائيل على الخروج من أرض مصر، حيث لم يتسنّ لهم بناء بيوت حقيقية بالطريق، بيوت من الأحجار والقش، بل اكتفوا بالمظال والبيوت المؤقتة التي فوقها مظلة.
الذين قُدِّر لهم مشاهدة احتفالات العيد هذا العام تابعوا وصول الآلاف من المسيحيين الإنجيليين الأصوليين لا من الولايات المتحدة الأميركية فحسب بل من عدد كبير من الدول ومن قارات الأرض، حيث يوجد هذا التوجه المسيحي الخارج فكرياً عن أطر الكنائس التقليدية كالكاثوليكية والأرثوذكسية ومفاهيمها عن اليهود قديماً وحديثاً، والعيد بلا شك عيد يهودي، وعليه يصح التساؤل عن سبب احتفال المسيحيين الإنجيليين به؟
الجواب في حقيقة الأمر يحتاج إلى مؤلَّف مطوَّل، لكن باختصار نشير إلى أن «قائد» الانشقاق المسيحي الذي جرت به المقادير في القرن السادس عشر، الألماني مارتن لوثر كان هو مَن بذر بذور العودة المسيحية إلى الأحضان اليهودية عبر كتابه المعنون «عيسى وُلد يهودياً» والذي أصدره عام 1523 قبل أن يعود عام 1543، أي بعد عقدين تقريباً، ليكتب كتابه الآخر «اليهود وأكاذيبهم» وفيه يمحو أي إثر إيجابي لكتابه الأول من نفوس المسيحيين الذين اتبعوا طريقه الفكري.
لكن كان من الواضح أن الموعد قد فات، وأن تعميق اليهودية بشكلها الأصولي في قلوب المسيحيين البروتستانت قد تجاوزه الزمن.

المؤتمر المسيحي الصهيوني
في مؤلفه «الاختراق الصهيوني للمسيحية» يحدثنا القس الدكتور إكرام لمعي المنتمي إلى الكنيسة الإنجيلية المصرية، عن المؤتمر المسيحي الصهيوني الأول الذي جرت وقائعه في إسرائيل عام 1988 شهر أبريل (نيسان)، وفي العاشر منه تحديداً، حين ألقى إسحق شامير رئيس وزراء إسرائيل، كلمة افتتاحية اتسمت بالعاطفة والحماسة دعا فيها مسيحيي العالم لتعضيد دولة إسرائيل، انطلاقاً من فكرتين رئيسيتين هما «علاقة إسرائيل الخاصة بالله كشعب» والثانية «أن عودة اليهود إلى فلسطين وتأسيس الدولة -حسب فكر هؤلاء الأصوليين من المسيحيين الإنجيليين- يعجّل بالمجيء الثاني للمسيح، الذي أحد شروط مجيئه تأسيس دولة إسرائيل، ليحكم من أورشليم العالم ولمدة ألف سنة».
والثابت أن هذا الطرح استغلته إسرائيل عنصرياً، الأمر الذي نبّه إليه عدد بالغ من المفكرين الغربيين أمثال مالكولم هيدنغ وجون وليم فان دي هوفن، ومن العالم العربي العلامة المصري الراحل الأب متّى المسكين، وجميع هؤلاء توقفوا أمام التلاعب اليهودي الإسرائيلي بالمقدرات الإيمانية للمسيحية حول العالم، في حين يبقى السؤال: كيف استطاعت تل أبيب استقطاب الآلاف، بل وربما الملايين، إلى هذا الفكر غير الخلاق؟ والأخطر هو: كيف انطلت تلك الخدعة وجاز ذلك الاختراق على عقول المسيحيين الغربيين وباتوا كأنهم منقادون انقياداً أعمى؟

مسيحيون يدعمون إسرائيل
المؤكد أن العمل الذي جرى لاكتساب هؤلاء، كان عملاً منظماً وكبيراً وأخذ عقوداً طوالاً لكي نصل إلى صورة المسيحيين الإنجيليين الذي يحملون أغصان السعف في شوارع إسرائيل احتفالاً بعيد العرش، وقد كان الاهتمام بهذا العيد قليلاً فيما سبق ولكن طرأ تغيير مهم بعد أن بدأت السفارة المسيحية العالمية في القدس «إقامة مؤتمر للمسيحيين هناك في فترة عيد العرش». كان المؤتمر الأول الذي عُقد عام 1980 يحفل بنحو 400 مسيحي من 45 دولة، والآن بلغ العدد الآلاف.
أما تلك «السفارة» فهي هيئة غير كنسية، مركزها القدس وتتبنى الآراء المتطرفة التي تدعو لزخم الشعب اليهودي، وقد جرى اختراقها فكرياً وروحياً بالمطلق إلى درجة اتباعها أنه من دون المساهمة اليهودية لم تكن لتنشأ المسيحية، وعليه فإن اليهودية لا تحتاج إلى المسيحية لتوضيح وجودها، بل العكس هو الصحيح، وهذا ما يعطينا فكرة أولية جذرية عن شكل العلاقة بين الطرفين ومن له اليد العليا في المشهد.
غير أن «السفارة» هذه في واقع الحال ليست الجماعة الأصولية المسيحية الوحيدة التي تدعم يهود إسرائيل، بل هناك العديد منها، أشارت إلى بعضها الكاتبة الأميركية أليكس هالسل في كتابها الشهير «النبوءة والسياسة»، ويبلغ عددها نحو 250 منظمة نشير باختصار إلى بعضها:
> ؤتمر القيادات المسيحية الوطني لإسرائيل: والذي رأسه في فترة سابقة البروفسور فرانكلين ليتل، المسيحي الأصولي الصهيوني الذي يؤمن إيماناً لا يطاوله شك بأن «كون المرء مسيحياً يعني أنه يهودي، وأن الواجب الأول لكل مسيحي هو أن يضع دعم أرض إسرائيل فوق كل وأي اعتبار آخر».
> المؤتمر المسيحي الوطني: ولقد وُلد ذلك المؤتمر من رحم «مؤتمر القيادات المسيحية الوطني لإسرائيل» أيام الهياج الذي أحدثته المنظمات الموالية لإسرائيل بشأن بيع طيارات الأواكس للمملكة العربية السعودية، وكانت الذريعة يومذاك أن تلك الطائرات تشكل تهديداً خطيراً لأمن إسرائيل، ووقتها انبرى القس المنهجي فرانكلين ليتل الذي أعلن أن تشكيل «المؤتمر المسيحي الوطني» استهدف توحيد الطوائف المسيحية ومنظماتها في سياق انشغالها بأمن إسرائيل وسلامة الوطن اليهودي، فقرر أن بيع تلك الطائرات «شكّل أخطر لحظة في تقويم البقاء الإسرائيلي».
> منظمة «تاف» لقساوسة الإنجيليين: «تاف» هو الحرف الأخير من الأبجدية العبرية، وربما اختاره القساوسة الإنجيليون اسماً لمنظمتهم إفصاحاً عن وضعهم كـ«ذيل» تحركه الصهيونية بعقلية لوثر الذي يرى أن اليهود هم أصحاب المائدة وبقية شعوب العالم -مسيحيين وغير مسيحيين- ليسوا أكثر من كلاب قابعة تحت تلك المائدة تنتظر الفتات المتساقط من الأرباب.
وفي أساس الإيمان الذي تروجه المنظمة ويعظ به أعضاؤها نجد هذه الأهداف التي أوجزها أحد كبار المنظّرين الآيديولوجيين للحركة الأصولية الأميركية «هال ليندسي» صاحب الكتاب الذي خلب لب رونالد ريغان الرئيس الأميركي الأسبق، وعنوانه «الراحل كوكب الأرض 1980»، ولقد حفظه ريغان عن ظهر قلب، كما خلب ألباب عشرات الأميركيين الذين جعلهم ريغان يمشون طوالاً رافعي الرؤوس.
يقول هال: «إننا يجب أن نكون محددين تماماً فيما نقوله عن إسرائيل بوصفها من علامات الساعة، ففيما يخص دور إسرائيل في المصير المحدد للأرض هناك 3 أشياء ينبغي أن تحدث:
أولها، أن تولد الأمة اليهودية من جديد على أرض فلسطين. وثانيها، أن يستعيد اليهود كل أورشليم وكل المواقع المقدسة فيها وأولها «جبل الهيكل». وثالثها، أن يعيد اليهود بناء هيكلهم المقدس على موقعه التاريخي «الأرض المقام عليها المسجد الأقصى». ويضيف: «وأياً كانت العقبات، من المقطوع به أن الهيكل سيعاد بناؤه» حيث يجب أن يقام.
يضيق المسطح المتاح للكتابة عن ذكر تلك المنظمات، لكن شفيق مقار في مؤلفه العمدة «المسيحية والتوراة... بحث في الجذور الدينية لصراع الشرق الأوسط»، يحدثنا عن العديد من المنظمات الأخرى المسيحية المتخصصة في دعم إسرائيل والترويج لها بين المؤمنين الأميركيين، مثل منظمة «المائدة المستديرة الدينية»، ومنظمة «الصوت المسيحي»، ومنظمة «الإذاعيين الدينيين» وعشرات غيرها.
والذي لا شك فيه هنا أمران:
الأول، أن الإيمان الديني قد أضحى سلاحاً ماضياً، وبخاصة في تشكيل مواقف واعتقادات شعب «طيب» كالشعب الأميركي شديد الاعتداد بسموه الروحي وقوي الإيمان بـ«رسالته» التي وضعتها العناية الإلهية على كاهله، ولقد كانت هذه دائماً حقائق أميركية عرفها وأجاد استخدامها الساسة ورجال الأعمال وصناع الرأي الأميركيون.
الآخر، أن تيار الأصولية المسيحية الأميركية بات وبالاً على شعوب وسكان الشرق الأوسط عامة، وعلى أصحاب الأرض الحقيقيين في فلسطين من مسلمين ومسيحيين عرب تعود جذورهم لعدة آلاف من السنين، ويبقى دعم هؤلاء لإسرائيل عاملاً مثبطاً لكل الجهود السلمية التي تسعى للتوصل إلى حلول عادلة وشاملة للقضية الفلسطينية أو لإحلال السلام في الشرق الأوسط.

طوق نجاة لإسرائيل
عن أبعاد الدور الخدمي الذي لا يقدَّر بثمن والذي يقدمه الأصوليون الإنجيليون لدولة إسرائيل، نقول: إنه في أواخر العام 2014 أجرت مؤسسة «بيو» للأبحاث في واشنطن، وهي أحد أهم مراكز الأبحاث الموثوقة، استطلاعاً للرأي أشارت نتائجه إلى أن 82 في المائة من الإنجيليين البيض في أميركا يعتقدون أن إسرائيل عطية من الله للشعب اليهودي مقابل 40 في المائة، وقال نحو 60 في المائة منهم -وفقاً لاستطلاع آخر أجرته وكالة «نورمبرغ» عام 2015- إنهم «سيدعمون إسرائيل بغض النظر عن المصالح الاقتصادية لبلادهم...». هل يقدم هؤلاء دعماً مالياً لإسرائيل؟
وتقول الوكالة الأخيرة إن المسيحيين الإنجيليين في الولايات المتحدة وحدها يقدمون دعماً سنوياً لإسرائيل يقدَّر بنحو نصف مليار دولار من خلال المساعدات المباشرة والجولات السياحية التي ينظمونها.
على أن المسألة في واقع الأمر تتجاوز الدعم المالي بكثير، فإسرائيل، حكماً، وإن كانت تهتم بالأموال إلا أن حاجتها الرئيسية في الداخل الأميركي هي إلى الدعم الآيديولوجي والفكري والسياسي والعسكري، وهذه هي العناصر التي كفلت للدولة العبرية بقاءها حتى الساعة.
إسرائيل اليوم في حاجة إلى الدعم الأدبي من الأصوليين الإنجيليين، سيما أنها تواجَه برفض كبير من قبل جماعات مسيحية أخرى داخل أميركا ترفض وحشيتها في التعاطي مع الفلسطينيين، وتأبى بقاء الاحتلال إلى أمد طويل على النحو الذي نراه، بل وصل أمر بعضها إلى سحب استثماراتها من داخل إسرائيل وحث مؤمنيها على مقاطعتها. يخدم الأصوليون الإنجيليون إسرائيل من خلال العمل على وقف نمو الجماعات المساندة للفلسطينيين في الداخل الأميركي، سواء من طلاب الجامعات أو أساتذتها وبقية المراكز البحثية والأكاديمية. بل إن الناظر إلى جماعة الضغط المساندة لإسرائيل اليوم في أميركا يجد أن نسبة معتبرة من الـ«أيباك» من هؤلاء الأصوليين وليست من يهود أميركا الذين انشقوا على أنفسهم وأسسوا لاحقاً جماعة أخرى تعرف بـ«جي ستريت».
في هذا السياق يمكننا فهم حرص نتنياهو في ختام جولته في أوروبا الشرقية، في يوليو (تموز) الماضي، على مخاطبة مؤتمر نظمته جماعة القس الإنجيلي جون هاغي «المسيحيون المتحدون لدعم إسرائيل» في الولايات المتحدة، حيث ظهر رئيس الوزراء الإسرائيلي على شاشتين عملاقتين يخاطب المجتمعين من العاصمة المجرية (بودابست) ويقول لهم «ليس لدينا أصدقاء أفضل منكم».

مفارقة دينية ما الذي يتبقى قبل الانصراف؟
من ناحية أخرى تلفت النظر هنا المفارقة العجيبة في النظرة اليهودية إلى هؤلاء الأصوليين، ويبدو أن كل ما يهم حكومة تل أبيب هو الحصول على أكبر عدد من الحلفاء في ظل تنامي الأصوات المنادية أوروبياً وأميركياً بإنهاء سياساتها العنصرية في الأراضي الفلسطينية... هل يعني ذلك أن يهود إسرائيل لا يثقون بالنيات النهائية للإنجيليين الأميركيين ومن لفّ لفّهم؟
يبدو أن ذلك كذلك، فالشك يبقى مسيطراً على العقلية اليهودية دائماً أبداً... إنهم يفهمون جيداً أن الدعم الأصولي المسيحي لإسرائيل، ليست الدولة العبرية هي المقصودة به تحديداً، وإنما الأصل أنها معبر وجسر لتحقيق النبوءات المسيحية عن المجيء الثاني ونهاية الأزمنة وخلاص العالم.

هذا التحليل يستقيم مع تصريحات الحاخام شلومو أفنير «من بيت آيل» قرب القدس، وهو حاخام نافذ، فقد قال مؤخراً: «ليس هناك شيء يُدعى (مسيحيون يحبون إسرائيل)»، ويضيف: «لسوء حظنا فإن المسيحيين لا يتركوننا وإنما يبحثون باستمرار عن طرق مبتكرة لإدخال دينهم (المسيحية) إلى إسرائيل... إنهم ينظمون شعائر مسيحية جماعية مفتوحة لليهود في حائط المبكى... أضم صوتي إلى دعوات الحاخامات الرئيسيين لمنع أي نشاط لهم».
لكن هذه الأصوات غير مؤثرة، إذ تستمر السفارة المسيحية الدولية في إسرائيل في دعم المنتجات الإسرائيلية على خلفية المقاطعة الأوروبية لاستيراد المنتجات الإسرائيلية من جميع أنحاء العالم. كارثة الأصولية الدينية الإنجيلية أنها دوغمائية مطلقة، تتطلع إلى الأخرويات، وتتجاوز حسابات السياسة والجغرافيا ومن هنا ينشأ ارتباطها العضوي بإسرائيل في الحال والاستقبال، حتى وإن رفضها اليهود موضوعاً وقبِلها بعضهم مثل نتنياهو شكلاً.



«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
TT

«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)

ارت طموحات تنظيم «داعش» الإرهابي للتمدد مجدداً تساؤلات كثيرة تتعلق بطبيعة «مساعيه» في الدول خلال العام الجاري. واعتبر مراقبون أن «(أزمة كورونا) جددت طموحات التنظيم للقيام بعمليات إرهابية، واستقطاب (إرهابيين) عقب هزائم السنوات الماضية ومقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي». ووفق خبراء ومتخصصين في الشأن الأصولي بمصر، فإن «التنظيم يبحث عن أي فرصة لإثبات الوجود»، مشيرين إلى «مساعي التنظيم في أفريقيا عبر (الذئاب المنفردة)، ومحاولاته لعودة نشاطه السابق في العراق وسوريا عبر تبني عمليات القتل»، موضحين أن «المخاوف من العناصر (الانفرادية) التي تنتشر في أوروبا وأميركا تتزايد، خاصة وأنها تتحرك بانسيابية شديدة داخل محيطهم الجغرافي».
وقال أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية، إن «(داعش) مثل تنظيمات الإرهاب تبحث عن فرصة مُناسبة للوجود، ومن الفُرص المُناسبة، وجود أي شكل من أشكال الفوضى أو الارتباك، وعندما تكون جهود الدول موجهة لمحاربة (كورونا المستجد)، فيبقى من الطبيعي أن يسعى التنظيم للحركة من جديد، وانتظار فرصة مناسبة لتنفيذ أهدافه، خاصة أن (داعش) في تعامله مع الفيروس روج لفكرة (أن كورونا عقاب إلهي لأعدائه، على حد زعم التنظيم)، خصوصاً أن (كورونا) كبد أوروبا خسائر كبيرة، وأوروبا في الدعايا الداعشية (هذا الغرب الذي يحارب الإسلام، على حد تصور الداعشيين)، لذا فـ(داعش) يستغل هذا، في مواجهة بعض الارتكازات الأمنية، أو الأكمنة، أو الاستهدافات بالشوارع، لإثارة فازعات، ومن الوارد تنفيذ بعض العمليات الإرهابية».
وأكد عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) استغل (أزمة الفيروس) بالادعاء في بيان له مارس (آذار) الماضي، بأن الفيروس (عذاب مؤلم من الله للغرب، خاصة للدول المشاركة في العمليات العسكرية ضده، على حد زعمه)، ويحاول التنظيم نشر الخوف من الوباء، والبحث عن إيجاد مصارف لتمويل العمليات الإرهابية».
ووفق تقرير سابق لمجموعة «الأزمات الدولية» في نهاية مارس الماضي، أشار إلى أن «التنظيم أبدى مع ظهور الفيروس (نبرة شماتة)، وأخبر عناصره عبر افتتاحية جريدة (النبأ) التابعة له في نهاية مارس الماضي، بضرورة استمرار حربهم عبر أرجاء العالم حتى مع تفشي الوباء... وادعى أن الأنظمة الأمنية والدولية التي تسهم في كبح جماح التنظيم على وشك الغرق، على حد قول التنظيم».
ويشير عبد المنعم في هذا الصدد، إلى أنه «بالعودة لزاوية (حصاد الأجناد) في عدد (النبأ) الأخير، زعم التنظيم أنه شن 86 هجمة إرهابية في شهر واحد، هو مارس الماضي، وهو أعلى رقم منذ نهاية نوفمبر (تشرين ثاني) الماضي، الذي سجل 109 هجمات، فيما عُرف بـ(غزوة الثأر) للبغدادي وأبو الحسن المهاجر اللذين قُتلا في أكتوبر (تشرين أول) الماضي في غارة جوية».
ووفق تقارير إخبارية محلية ودولية فإن «(داعش) يسعى لاستعادة سيطرته على عدد من المناطق في سوريا والعراق من جديد، وأنه يحتفظ بنحو من 20 إلى 30 ألف عضو نشط، ولا ينقصه سوى توفر المال والسلاح». وأشارت التقارير ذاتها إلى أن «التنظيم يحاول استغلال انشغال سوريا والعراق بمكافحة الفيروس، لاستعادة سيطرته على مناطق من الصحراء السورية في الغرب، إلى وادي نهر الفرات شرقاً، مروراً بمحافظة دير الزور والمناطق ذات الأغلبية السنية في العراق، والتي لا يزال يوجد فيها بعض عناصره».
ويشار أنه في أبريل (نيسان) الماضي، هاجم التنظيم بلدة السخنة في صحراء حمص، وأسفر عن مقتل 18. وفي دير الزور أعلن التنظيم مقتل اثنين... وفي العراق، قتل ضابط شرطة عند نقطة تفتيش في الحويجة غرب كركوك على يد التنظيم، كما قتل اثنان من مقاتلي البيشمركة الكردية في هجوم للتنظيم أبريل الماضي، كما أسفر هجوم للتنظيم على مطار الصادق العسكري عن مقتل اثنين.
وفي هذا الصدد، قال عمرو عبد المنعم، إن «أكثر هجمات (داعش) كانت في العراق أخيراً، وشهد التنظيم نشاطاً مكثفاً هناك»، مضيفاً: «في نفس السياق دعت فتوى نشرها التنظيم على (تلغرام) للهروب من السجون السورية، وهذا ما حدث، فقد هرب 4 نهاية مارس الماضي، من سجن تديره قوات سوريا الديمقراطية، وفقاً لتقارير إخبارية».
وسبق أن طالب أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» في سبتمبر (أيلول) الماضي، «بتحرير أنصار التنظيم من السجون ...»، وسبقه البغدادي «وقد حرض بشكل مُباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق».
وبحسب المراقبين «حاول (داعش) أخيراً زيادة حضوره الإعلامي على منصات التواصل الاجتماعي مجدداً، بعد انهيار إعلامه العام الماضي». ورصدت دراسة أخيرة لمرصد الأزهر لمكافحة التطرف في القاهرة «تداول التنظيم تعليمات لعناصره عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بالادعاء بأن الفيروس يمثل (عقاباً من الله، ويحتم اتخاذ خطوات لتكفير الذنوب)، وجعل التنظيم الإرهابي - على حد زعمه - السبيل الوحيد للخلاص من الفيروس، والقضاء عليه، هو (تنفيذ العمليات الإرهابية)، ولو بأبسط الوسائل المتاحة». اتسق الكلام السابق مع تقارير محلية ودولية أكدت «تنامي أعداد حسابات أعضاء التنظيم وأنصاره على مواقع التواصل خصوصاً (فيسبوك)، حيث تمكن التنظيم مجدداً من تصوير وإخراج مقاطع فيديو صغيرة الحجم حتى يسهل تحميلها، كما كثف من نشر أخباره الخاصة باستهداف المناطق التي طرد منها في العراق وسوريا، وتضمين رسائل بأبعاد عالمية، بما يتوافق مع أهداف وأفكار التنظيم».
ووفق عبد المنعم فإن «(داعش) يستغل التطبيقات الإلكترونية التي تم تطويرها في الفترة الأخيرة في المجتمع الأوروبي، والتي قدمتها شركات التكنولوجيا والذكاء الصناعي في أوروبا مثل تطبيق Corona-tracker لجمع البيانات عن المصابين، وتوجيه بعض الأسئلة لتحديد نسبة الخطورة، وفرض التنظيم على الأطباء والممرضين في الرقة الحضور اليومي الإجباري، ومن خالف تعرض لعقوبات شديدة».
وعن الواجهة التي يسعى «داعش» التمدد فيها خلال الفترة المقبلة. أكد الخبير أحمد بان، أن «أفريقيا هي الواجهة المفضلة لتنظيمي (داعش) و(القاعدة)، والفترة الأخيرة شهدت تصاعدا لعمليات في الغرب الأفريقي وداخل الساحل، وعمليات داخل موزمبيق، فـ(داعش) في حالة سباق لتصدر المشهد هناك، مع توفر آليات تساعده على ذلك من بينها، تهريب السلاح، وحركة العصابات». فيما أبدى عمرو عبد المنعم، تصوراً يتعلق بـ«زيادة العمليات الإرهابية في نيجيريا، وأنه طبقاً لبيانات صدرت أخيراً عما يُعرف باسم (ولاية غرب أفريقيا) أفادت بوجود أكثر من مائة مقاتل هاجروا لنيجيريا من سوريا والعراق».
وتجدد الحديث في فبراير (شباط) الماضي، عن مساعي «داعش» للوجود في شرق أفريقيا أيضاً، بعدما أظهرت صوراً نشرها التنظيم عبر إحدى منصاته تتعلق بتدريبات على أسلحة تلقاها عناصره في مرتفعات «غل غلا» الوعرة بولاية بونتلاند الواقعة شمال شرقي الصومال.
تعليقاً، على ذلك أكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) يهدف إلى السعي لمناطق بالقارة السمراء، بعيداً عن سوريا والعراق، لـ(تفريغ قدرات عناصره القتالية)، فضلاً عن تأكيد عبارة (أنه ما زال باقياً)».
تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية أشارت أيضاً إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال المراقبون إن «عودة هؤلاء أو ما تبقى منهم إلى أفريقيا، ما زالت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيراً منهم شباب صغير السن، وأغلبهم تم استقطابه عبر مواقع التواصل الاجتماعي».
فيما قال خالد الزعفراني، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، إن «مساعي التنظيم للتمدد داخل أفريقيا سوف تتواصل عبر (الذئاب المنفردة)»، مضيفاً أن «ما يقوم به التنظيم في أفريقيا، والعراق وسوريا أخيراً، لإثبات أن لديه قدرة على تحقيق إنجازات، وأنه (عابر للحدود)، وأنه غير مُتأثر بهزائم سوريا والعراق».
وكان أبو محمد العدناني، الناطق الأسبق باسم «داعش» قد دعا في تسجيل صوتي عام 2014 المتعاطفين مع التنظيم، إلى القتل باستخدام أي سلاح متاح، حتى سكين المطبخ من دون العودة إلى قيادة «داعش»... ومن بعده دعا البغدادي إلى «استهداف المواطنين». وتوعد التنظيم عبر مؤسسة الإعلامية «دابق» بحرب تحت عنوان «الذئاب المنفردة».
في ذات السياق، لفت أحمد بان، إلى أن «التنظيم يسعى لاكتشاف أي ثغرة لإثبات الوجود أو تجنيد عناصر جُدد، خاصة وأن هناك عناصر (متشوقة للإرهاب)، وعندما يُنفذ (داعش) أي عمليات إرهابية، تبحث هذه العناصر عن التنظيم، نتيجة الانبهار».
من جانبه، قال الخبير الأمني اللواء فاروق المقرحي، مساعد وزير الداخلية المصري الأسبق، إن «تنظيمات الإرهاب خاصة (داعش) و(القاعدة) لن تتوانى عن سياسة التجنيد، ومن هنا تنبع فكرة الاعتماد على (الذئاب المنفردة) أو (العائدين) بشكل كبير».
وبينما رجح زغلول «حدوث بعض التغيرات داخل (داعش) عام 2020». قال اللواء المقرحي: «لا أظن عودة (داعش) بفائق قوته في 2020 والتي كان عليها خلال عامي 2014 و2015 نتيجة للحصار المتناهي؛ لكن الخوف من (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، لاستنزاف القوى الكبرى»، لافتاً إلى أن «كثيرا من العناصر (الانفرادية) تتحرك في أوروبا وأميركا بانسيابية داخل الدول، وهذا هو الخطر».