الأصوليون المسيحيون... وإسرائيل

مساق طويل من دعم الإنجيليين لها مالياً وأدبياً

أصوليون مسيحيون موالون لإسرائيل في إحدى مظاهراتهم بأميركا («الشرق الأوسط»)
أصوليون مسيحيون موالون لإسرائيل في إحدى مظاهراتهم بأميركا («الشرق الأوسط»)
TT

الأصوليون المسيحيون... وإسرائيل

أصوليون مسيحيون موالون لإسرائيل في إحدى مظاهراتهم بأميركا («الشرق الأوسط»)
أصوليون مسيحيون موالون لإسرائيل في إحدى مظاهراتهم بأميركا («الشرق الأوسط»)

وسط زحام مثير لأحداث الشرق الأوسط خلال الأسابيع الأخيرة، جرت ملامحه ومعالمه في القدس الشريف المغتصب خلال احتفالات اليهود بأحد أعيادهم المهمة «عيد العرش» أو «عيد المظال»، امتلأت شوارع البلدة العتيقة بآلاف المسيحيين الإنجيليين، ذلك التيار الأصولي المسيحي المغرق في حب إسرائيل.
قصة الإنجيليين الداعمين لدولة إسرائيل ليست حديثة، ومع تولي دونالد ترمب الرئاسة الأميركية، يبدو أن البعض يعود لذلك الاتجاه الذي يخلط بين السياسة والدين خلطاً مقصوداً يؤثر على اتجاهات العملية السلمية بنوع خاص بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

القدس تغص بالأصوليين الإنجيليين
أوائل شهر أكتوبر (تشرين الأول) الجاري يوافق حسب التقليد اليهودي «عيد العرش» أو «عيد المظال» والأصل في فكرة هذا الاحتفال –حسب التقويم اليهودي- هو تقديم الشكر لله الذي أعان بني إسرائيل على الخروج من أرض مصر، حيث لم يتسنّ لهم بناء بيوت حقيقية بالطريق، بيوت من الأحجار والقش، بل اكتفوا بالمظال والبيوت المؤقتة التي فوقها مظلة.
الذين قُدِّر لهم مشاهدة احتفالات العيد هذا العام تابعوا وصول الآلاف من المسيحيين الإنجيليين الأصوليين لا من الولايات المتحدة الأميركية فحسب بل من عدد كبير من الدول ومن قارات الأرض، حيث يوجد هذا التوجه المسيحي الخارج فكرياً عن أطر الكنائس التقليدية كالكاثوليكية والأرثوذكسية ومفاهيمها عن اليهود قديماً وحديثاً، والعيد بلا شك عيد يهودي، وعليه يصح التساؤل عن سبب احتفال المسيحيين الإنجيليين به؟
الجواب في حقيقة الأمر يحتاج إلى مؤلَّف مطوَّل، لكن باختصار نشير إلى أن «قائد» الانشقاق المسيحي الذي جرت به المقادير في القرن السادس عشر، الألماني مارتن لوثر كان هو مَن بذر بذور العودة المسيحية إلى الأحضان اليهودية عبر كتابه المعنون «عيسى وُلد يهودياً» والذي أصدره عام 1523 قبل أن يعود عام 1543، أي بعد عقدين تقريباً، ليكتب كتابه الآخر «اليهود وأكاذيبهم» وفيه يمحو أي إثر إيجابي لكتابه الأول من نفوس المسيحيين الذين اتبعوا طريقه الفكري.
لكن كان من الواضح أن الموعد قد فات، وأن تعميق اليهودية بشكلها الأصولي في قلوب المسيحيين البروتستانت قد تجاوزه الزمن.

المؤتمر المسيحي الصهيوني
في مؤلفه «الاختراق الصهيوني للمسيحية» يحدثنا القس الدكتور إكرام لمعي المنتمي إلى الكنيسة الإنجيلية المصرية، عن المؤتمر المسيحي الصهيوني الأول الذي جرت وقائعه في إسرائيل عام 1988 شهر أبريل (نيسان)، وفي العاشر منه تحديداً، حين ألقى إسحق شامير رئيس وزراء إسرائيل، كلمة افتتاحية اتسمت بالعاطفة والحماسة دعا فيها مسيحيي العالم لتعضيد دولة إسرائيل، انطلاقاً من فكرتين رئيسيتين هما «علاقة إسرائيل الخاصة بالله كشعب» والثانية «أن عودة اليهود إلى فلسطين وتأسيس الدولة -حسب فكر هؤلاء الأصوليين من المسيحيين الإنجيليين- يعجّل بالمجيء الثاني للمسيح، الذي أحد شروط مجيئه تأسيس دولة إسرائيل، ليحكم من أورشليم العالم ولمدة ألف سنة».
والثابت أن هذا الطرح استغلته إسرائيل عنصرياً، الأمر الذي نبّه إليه عدد بالغ من المفكرين الغربيين أمثال مالكولم هيدنغ وجون وليم فان دي هوفن، ومن العالم العربي العلامة المصري الراحل الأب متّى المسكين، وجميع هؤلاء توقفوا أمام التلاعب اليهودي الإسرائيلي بالمقدرات الإيمانية للمسيحية حول العالم، في حين يبقى السؤال: كيف استطاعت تل أبيب استقطاب الآلاف، بل وربما الملايين، إلى هذا الفكر غير الخلاق؟ والأخطر هو: كيف انطلت تلك الخدعة وجاز ذلك الاختراق على عقول المسيحيين الغربيين وباتوا كأنهم منقادون انقياداً أعمى؟

مسيحيون يدعمون إسرائيل
المؤكد أن العمل الذي جرى لاكتساب هؤلاء، كان عملاً منظماً وكبيراً وأخذ عقوداً طوالاً لكي نصل إلى صورة المسيحيين الإنجيليين الذي يحملون أغصان السعف في شوارع إسرائيل احتفالاً بعيد العرش، وقد كان الاهتمام بهذا العيد قليلاً فيما سبق ولكن طرأ تغيير مهم بعد أن بدأت السفارة المسيحية العالمية في القدس «إقامة مؤتمر للمسيحيين هناك في فترة عيد العرش». كان المؤتمر الأول الذي عُقد عام 1980 يحفل بنحو 400 مسيحي من 45 دولة، والآن بلغ العدد الآلاف.
أما تلك «السفارة» فهي هيئة غير كنسية، مركزها القدس وتتبنى الآراء المتطرفة التي تدعو لزخم الشعب اليهودي، وقد جرى اختراقها فكرياً وروحياً بالمطلق إلى درجة اتباعها أنه من دون المساهمة اليهودية لم تكن لتنشأ المسيحية، وعليه فإن اليهودية لا تحتاج إلى المسيحية لتوضيح وجودها، بل العكس هو الصحيح، وهذا ما يعطينا فكرة أولية جذرية عن شكل العلاقة بين الطرفين ومن له اليد العليا في المشهد.
غير أن «السفارة» هذه في واقع الحال ليست الجماعة الأصولية المسيحية الوحيدة التي تدعم يهود إسرائيل، بل هناك العديد منها، أشارت إلى بعضها الكاتبة الأميركية أليكس هالسل في كتابها الشهير «النبوءة والسياسة»، ويبلغ عددها نحو 250 منظمة نشير باختصار إلى بعضها:
> ؤتمر القيادات المسيحية الوطني لإسرائيل: والذي رأسه في فترة سابقة البروفسور فرانكلين ليتل، المسيحي الأصولي الصهيوني الذي يؤمن إيماناً لا يطاوله شك بأن «كون المرء مسيحياً يعني أنه يهودي، وأن الواجب الأول لكل مسيحي هو أن يضع دعم أرض إسرائيل فوق كل وأي اعتبار آخر».
> المؤتمر المسيحي الوطني: ولقد وُلد ذلك المؤتمر من رحم «مؤتمر القيادات المسيحية الوطني لإسرائيل» أيام الهياج الذي أحدثته المنظمات الموالية لإسرائيل بشأن بيع طيارات الأواكس للمملكة العربية السعودية، وكانت الذريعة يومذاك أن تلك الطائرات تشكل تهديداً خطيراً لأمن إسرائيل، ووقتها انبرى القس المنهجي فرانكلين ليتل الذي أعلن أن تشكيل «المؤتمر المسيحي الوطني» استهدف توحيد الطوائف المسيحية ومنظماتها في سياق انشغالها بأمن إسرائيل وسلامة الوطن اليهودي، فقرر أن بيع تلك الطائرات «شكّل أخطر لحظة في تقويم البقاء الإسرائيلي».
> منظمة «تاف» لقساوسة الإنجيليين: «تاف» هو الحرف الأخير من الأبجدية العبرية، وربما اختاره القساوسة الإنجيليون اسماً لمنظمتهم إفصاحاً عن وضعهم كـ«ذيل» تحركه الصهيونية بعقلية لوثر الذي يرى أن اليهود هم أصحاب المائدة وبقية شعوب العالم -مسيحيين وغير مسيحيين- ليسوا أكثر من كلاب قابعة تحت تلك المائدة تنتظر الفتات المتساقط من الأرباب.
وفي أساس الإيمان الذي تروجه المنظمة ويعظ به أعضاؤها نجد هذه الأهداف التي أوجزها أحد كبار المنظّرين الآيديولوجيين للحركة الأصولية الأميركية «هال ليندسي» صاحب الكتاب الذي خلب لب رونالد ريغان الرئيس الأميركي الأسبق، وعنوانه «الراحل كوكب الأرض 1980»، ولقد حفظه ريغان عن ظهر قلب، كما خلب ألباب عشرات الأميركيين الذين جعلهم ريغان يمشون طوالاً رافعي الرؤوس.
يقول هال: «إننا يجب أن نكون محددين تماماً فيما نقوله عن إسرائيل بوصفها من علامات الساعة، ففيما يخص دور إسرائيل في المصير المحدد للأرض هناك 3 أشياء ينبغي أن تحدث:
أولها، أن تولد الأمة اليهودية من جديد على أرض فلسطين. وثانيها، أن يستعيد اليهود كل أورشليم وكل المواقع المقدسة فيها وأولها «جبل الهيكل». وثالثها، أن يعيد اليهود بناء هيكلهم المقدس على موقعه التاريخي «الأرض المقام عليها المسجد الأقصى». ويضيف: «وأياً كانت العقبات، من المقطوع به أن الهيكل سيعاد بناؤه» حيث يجب أن يقام.
يضيق المسطح المتاح للكتابة عن ذكر تلك المنظمات، لكن شفيق مقار في مؤلفه العمدة «المسيحية والتوراة... بحث في الجذور الدينية لصراع الشرق الأوسط»، يحدثنا عن العديد من المنظمات الأخرى المسيحية المتخصصة في دعم إسرائيل والترويج لها بين المؤمنين الأميركيين، مثل منظمة «المائدة المستديرة الدينية»، ومنظمة «الصوت المسيحي»، ومنظمة «الإذاعيين الدينيين» وعشرات غيرها.
والذي لا شك فيه هنا أمران:
الأول، أن الإيمان الديني قد أضحى سلاحاً ماضياً، وبخاصة في تشكيل مواقف واعتقادات شعب «طيب» كالشعب الأميركي شديد الاعتداد بسموه الروحي وقوي الإيمان بـ«رسالته» التي وضعتها العناية الإلهية على كاهله، ولقد كانت هذه دائماً حقائق أميركية عرفها وأجاد استخدامها الساسة ورجال الأعمال وصناع الرأي الأميركيون.
الآخر، أن تيار الأصولية المسيحية الأميركية بات وبالاً على شعوب وسكان الشرق الأوسط عامة، وعلى أصحاب الأرض الحقيقيين في فلسطين من مسلمين ومسيحيين عرب تعود جذورهم لعدة آلاف من السنين، ويبقى دعم هؤلاء لإسرائيل عاملاً مثبطاً لكل الجهود السلمية التي تسعى للتوصل إلى حلول عادلة وشاملة للقضية الفلسطينية أو لإحلال السلام في الشرق الأوسط.

طوق نجاة لإسرائيل
عن أبعاد الدور الخدمي الذي لا يقدَّر بثمن والذي يقدمه الأصوليون الإنجيليون لدولة إسرائيل، نقول: إنه في أواخر العام 2014 أجرت مؤسسة «بيو» للأبحاث في واشنطن، وهي أحد أهم مراكز الأبحاث الموثوقة، استطلاعاً للرأي أشارت نتائجه إلى أن 82 في المائة من الإنجيليين البيض في أميركا يعتقدون أن إسرائيل عطية من الله للشعب اليهودي مقابل 40 في المائة، وقال نحو 60 في المائة منهم -وفقاً لاستطلاع آخر أجرته وكالة «نورمبرغ» عام 2015- إنهم «سيدعمون إسرائيل بغض النظر عن المصالح الاقتصادية لبلادهم...». هل يقدم هؤلاء دعماً مالياً لإسرائيل؟
وتقول الوكالة الأخيرة إن المسيحيين الإنجيليين في الولايات المتحدة وحدها يقدمون دعماً سنوياً لإسرائيل يقدَّر بنحو نصف مليار دولار من خلال المساعدات المباشرة والجولات السياحية التي ينظمونها.
على أن المسألة في واقع الأمر تتجاوز الدعم المالي بكثير، فإسرائيل، حكماً، وإن كانت تهتم بالأموال إلا أن حاجتها الرئيسية في الداخل الأميركي هي إلى الدعم الآيديولوجي والفكري والسياسي والعسكري، وهذه هي العناصر التي كفلت للدولة العبرية بقاءها حتى الساعة.
إسرائيل اليوم في حاجة إلى الدعم الأدبي من الأصوليين الإنجيليين، سيما أنها تواجَه برفض كبير من قبل جماعات مسيحية أخرى داخل أميركا ترفض وحشيتها في التعاطي مع الفلسطينيين، وتأبى بقاء الاحتلال إلى أمد طويل على النحو الذي نراه، بل وصل أمر بعضها إلى سحب استثماراتها من داخل إسرائيل وحث مؤمنيها على مقاطعتها. يخدم الأصوليون الإنجيليون إسرائيل من خلال العمل على وقف نمو الجماعات المساندة للفلسطينيين في الداخل الأميركي، سواء من طلاب الجامعات أو أساتذتها وبقية المراكز البحثية والأكاديمية. بل إن الناظر إلى جماعة الضغط المساندة لإسرائيل اليوم في أميركا يجد أن نسبة معتبرة من الـ«أيباك» من هؤلاء الأصوليين وليست من يهود أميركا الذين انشقوا على أنفسهم وأسسوا لاحقاً جماعة أخرى تعرف بـ«جي ستريت».
في هذا السياق يمكننا فهم حرص نتنياهو في ختام جولته في أوروبا الشرقية، في يوليو (تموز) الماضي، على مخاطبة مؤتمر نظمته جماعة القس الإنجيلي جون هاغي «المسيحيون المتحدون لدعم إسرائيل» في الولايات المتحدة، حيث ظهر رئيس الوزراء الإسرائيلي على شاشتين عملاقتين يخاطب المجتمعين من العاصمة المجرية (بودابست) ويقول لهم «ليس لدينا أصدقاء أفضل منكم».

مفارقة دينية ما الذي يتبقى قبل الانصراف؟
من ناحية أخرى تلفت النظر هنا المفارقة العجيبة في النظرة اليهودية إلى هؤلاء الأصوليين، ويبدو أن كل ما يهم حكومة تل أبيب هو الحصول على أكبر عدد من الحلفاء في ظل تنامي الأصوات المنادية أوروبياً وأميركياً بإنهاء سياساتها العنصرية في الأراضي الفلسطينية... هل يعني ذلك أن يهود إسرائيل لا يثقون بالنيات النهائية للإنجيليين الأميركيين ومن لفّ لفّهم؟
يبدو أن ذلك كذلك، فالشك يبقى مسيطراً على العقلية اليهودية دائماً أبداً... إنهم يفهمون جيداً أن الدعم الأصولي المسيحي لإسرائيل، ليست الدولة العبرية هي المقصودة به تحديداً، وإنما الأصل أنها معبر وجسر لتحقيق النبوءات المسيحية عن المجيء الثاني ونهاية الأزمنة وخلاص العالم.

هذا التحليل يستقيم مع تصريحات الحاخام شلومو أفنير «من بيت آيل» قرب القدس، وهو حاخام نافذ، فقد قال مؤخراً: «ليس هناك شيء يُدعى (مسيحيون يحبون إسرائيل)»، ويضيف: «لسوء حظنا فإن المسيحيين لا يتركوننا وإنما يبحثون باستمرار عن طرق مبتكرة لإدخال دينهم (المسيحية) إلى إسرائيل... إنهم ينظمون شعائر مسيحية جماعية مفتوحة لليهود في حائط المبكى... أضم صوتي إلى دعوات الحاخامات الرئيسيين لمنع أي نشاط لهم».
لكن هذه الأصوات غير مؤثرة، إذ تستمر السفارة المسيحية الدولية في إسرائيل في دعم المنتجات الإسرائيلية على خلفية المقاطعة الأوروبية لاستيراد المنتجات الإسرائيلية من جميع أنحاء العالم. كارثة الأصولية الدينية الإنجيلية أنها دوغمائية مطلقة، تتطلع إلى الأخرويات، وتتجاوز حسابات السياسة والجغرافيا ومن هنا ينشأ ارتباطها العضوي بإسرائيل في الحال والاستقبال، حتى وإن رفضها اليهود موضوعاً وقبِلها بعضهم مثل نتنياهو شكلاً.



«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
TT

«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)

ارتبط مسمى «حزب الله» بنوعين؛ أعلام صفراء في لبنان، وحسن نصر الله أمين عام حزب الله، لبنان، لكن النوع العقائدي الأكبر خطورة يسير في دماء العراق، حزب هو بذات الاسم، عقائديون أكبر أثراً في سفك الدماء، حيث يرعون الأمر أكبر من مجرد حزب أصفر له الضاحية الجنوبية في لبنان؛ مسكن ومقر ومشيعون.
بين دجلة والفرات، حزب يسمى كتائب «حزب الله العراق»، له أكثر من 13 عاماً وهو في تشكيله الحالي، ليس بالهين عوضاً عن ميليشيات «الحشد الشعبي» التي أخذت كل الوهج الإعلامي كونها مرتبطة بنظام إيران، لكن «حزب الله العراق» وكتائبه تمر في أزقة السواد وبأخطر من دور ميداني تمارسه «الحشد الشعبي»، لأن العقائدية ونشرها أشد خطورة من ميدان يتقهقر فيه الأضعف، نظراً للضربات الآمنة التي يقودها الحلفاء أولو القوة من غرب الأرض لوقف تمدد النزيف، دائماً ما يكون مصنع الوباء يمر بحزب الله العراق.

قبل أشهر، كان الحزب تعرض لواحدة من أعنف الغارات على مواقعه، بعد هجوم صاروخي استهدف قاعدة التاجي في العراق، وقتل فيها جنديين أميركيين وبريطانياً، وجاء الرد خلال ساعات قليلة بفعل غارات أميركية - بريطانية مشتركة، ضد منشآت لميليشيات حزب الله العراقي في محافظتي بابل وواسط ومنطقة سورية محاذية للحدود العراقية.
نظرة سريعة على حزب الله العراق، من التاريخ، كان عماد مغنية (قتل في 2008 بغارة إسرائيلية في دمشق) الإرهابي اللبناني التابع لإيران، وحزب الله لبنان، كان أحد صنّاع هيكل هذا الحزب في العراق، حيث بدأ في العمل وفقاً لتوجيهات وأوامر نظام الملالي في تكوين حزب يشبه حزب الله اللبناني، وهو ما يبدو أن الأوامر جاءته في تجويد هذا الحزب ليكون بذراعين: عسكرية وعقائدية، ويبدو أن مغنية تجاوز أخطاء عديدة في تشكيل ووهج حزبه اللبناني، فصنع بهدوء هيكلة مختلفة للحزب، جعلت كل المساجد والحسينيات وقوداً يضخ فيها البذور التي يرغبها أولو العمائم.
ظهر الحزب بحضوره الأول بقوام تجاوز 4 آلاف شخص، منتمين بعضويات عدة داخله، وتنامى العدد حتى قبل تصنيف الولايات المتحدة له كـ«تنظيم إرهابي»، لكنه جعل دوره التسويقي للحشد والتنظيم أكبر من مجرد عسكرة، بل فكرة أكثر ارتباطاً في نشر آيديولوجيا عبر مواقع عدة، ومنها تفريخ عناصر في قطاعات مهمة داخل العراق؛ منها وزارة التعليم ووضع لبنات التعاون مع أحزاب دينية؛ منها «الحزب الإسلامي» الذي يتغذى بمنهج الإخوان المسلمين.
ربما ما يدور أن الحزب هو جزء في تكوين «الحشد الشعبي» لكن ذلك يمر بتقاطعات، حيث يشير عبد القادر ماهين، المتخصص في شؤون التنظيمات الإرهابية، إلى أن الحزب يظهر كونها جزءاً من تكوين الحشد، لكنه جزء يصنع الكعكة الميليشياوية ويشارك في تسميمها ويعمل على توزيعها في المناطق المجاورة.
يشير ماهين في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط» إلى أنه لا أمين عاماً للحزب أسوة بحزب الله اللبناني، حيث يظهر فيه حسن نصر الله، مبرراً ذلك أن الفرق بين تكوين الحزبين هو الحاجة والدور، حيث يتمركز في جنوب العراق بعتاد عسكري، له هدف في وضع حضور طاغٍ يحاول تفخيخ الحدود، لأن الهدف يرتبط مع إمبراطورية إيران الكبرى الممتدة، ولا يظهر له الأثر السياسي كممثلين له كما هو الحزب اللبناني ليكون أثره في تشكيل الحكومات والبرلمانات.

إذن ما الدور الذي يلعبه الحزب؟

الحزب كما يرى ماهين، أنه ذو دور عسكري في الأصل، لكن الترتيبات ما بعد 2009 جعلته أكثر قدرة في تكوين فريق احتياط عسكري ليس أكثر وفق الحاجة، يدعم التوجهات والسياسات الإيرانية، لكن ما أخل بتلك القاعدة مشاركته المباشرة في دعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وأصبح أكثر من 4 أو 5 آلاف جندي مشاركين في السيطرة على مدن سورية تحت إمرة إيران في سوريا التي تتشكل من 4 فصائل مسلحة.
الحزب ليس عسكرياً فقط؛ كان ولا يزال صاحب دور في الترويج العقائدي، وتصوير الحضور الإيراني بشكل إيجابي مزعوم، إضافة إلى عمله الاقتصادي، حيث يدخل عناصره الكبرى في مفاصل مهمة في الاقتصاد العراقي، من شركات اتصالات وشركات نفطية، وأخرى ذات علاقة بقطاع الطيران، وإدارة المطارات والمنافذ، وبعض الأشخاص أبرزهم هادي العامري الذي كان صاحب صولات وجولات حين حمل حقيبة وزارة النقل العراقية في وقت سابق، وكان أبرز مهددي الاستمرار الكويتي في بناء ميناء مبارك الكبير، حيث هددت كتائب الحزب الشركات من الاستمرار بالعمل، وحينها ظهر العامري بأن ذلك المشروع «يغلق القناة الملاحية لموانئ العراق».
مرحلة مختلفة ظهرت، حين عاودت الآلة العسكرية الحزبية لكتائب حزب الله العراق، بالعمل من خلف الصفوف، حيث كانت أبرز مهددي السفارات وأكثر ملغمي مسارات الحلول السياسية، بل ومن رمى بقادة العراق اليوم في تحدي أن يرضخوا أمام شعب بدأ في كراهية الحضور الإيراني، وكان الحزب أبرز علامات استهداف المتظاهرين في العراق في كل البلاد، بغية كسر حدة السيوف الشعبية لتصبح مجرد مقبض دون رأس حربة كي يحافظ الحزب على الوجود الإيراني، خصوصاً أنه أبرز متلقٍ للأموال من نظام إيران وأكثرها غناءً.
الدور الاقتصادي لكتائب حزب الله العراق أصبح أكثر وضوحاً، حيث كان أكبر المنتفعين في عام 2015، من «الفدية القطرية» التي وصلت إلى أكثر من مليار دولار، مقابل إطلاق سراح قطريين كانوا يقضون وقتهم في الصيد جنوب العراق، ورغم أن الأنباء قالت إن الخاطفين لعدد من أبناء الأسرة الحاكمة القطرية ومعاونيهم الذي بلغ 28 شخصاً، كانوا من تنظيم «داعش»، لكن التقارير المسربة لاحقاً في بدايات 2016 حيث جرى تخليصهم وعودتهم إلى قطر، كانوا يتبعون لكتائب حزب الله العراق، وهو ما ينافي الرواية الرسمية القطرية التي تقول إنها دفعت المبلغ للحكومة العراقية.
الدور المستقبلي لن ينفك عن منهجية تتقاطع مع حزب الله اللبناني، حيث لدى الحزب اليوم الرؤى ذاتها، خصوصاً في اعتماد سياسة «افتعال الأزمات»، كي لا ينكسر الحضور الإيراني ونفوذه في المؤسسات الدينية وبعض السياسية، التي يجد فيها بعضاً من رجاله الذين يقبعون في سياسة تخفيف الضغط على النظام السياسي ومحاصصته التي تستفيد منها ميليشيات إيران في العراق، وما بعد مقتل قاسم سليماني، غربلة يعيشها الحزب الذي يجرب يوماً بعد آخر أسلوب التقدم خطوة بخطوة، مستفيداً من تكتيك الفأر في نشر طاعون على أرض هي الأهم لإيران.