إدوارد سعيد رأى الإمبراطورية برمّتها عارية

في ذكرى رحيل صاحب «الاستشراق» و«الثقافة والإمبريالية»

إدوارد سعيد
إدوارد سعيد
TT

إدوارد سعيد رأى الإمبراطورية برمّتها عارية

إدوارد سعيد
إدوارد سعيد

إدوارد سعيد (1935 - 2003)، الأكاديمي الفلسطيني - الأميركي الرّفيع، عدو السرديّات الملفقة وصائد مثقفي الاحتلالات، صاحب النصوص المؤسِسة لدراسات ما بعد الكولونياليّة (الاستعماريّة) في جامعات العالم، الذي كان وكأنه جيش من رجل واحد اخترق أقوى حصون الإمبراطوريّات المتقاعدة، وتجرّأ من قلب وارثتها الإمبراطوريّة الأميركيّة على أن يصرخ بالمصفقين جميعاً أن إمبراطوريتكم هذه عارية. يدخل غيابه في سنته الخامسة عشرة، لتصير خسارته لمعركته الأخيرة مع الموت المحتّم حضوراً في وجدان الفكر العالمي، حضوراً ما يلبث يتوهج أضاف عليه الغياب ألقاً يليق بحكماء البشريّة وأبطالها وشهدائها معاً.
سعيد الذي عاش يفاعته في الشرق بين فلسطين ولبنان ومصر، انتقل شاباً إلى العالم الجديد، فدرس الأدب المقارن، وغرق فيه كأي أكاديمي آخر يعيش أيامه متمهلاً في أروقة جامعات أميركا الراقية. لكنه في هدوء السنوات الأولى ومنطلقاً من قراءته النقديّة لأعمال الروائيين الكلاسيكيين كان يصوغ نظريته - العاصفة التي نشرها في «الاستشراق» (1978)، فتغيّر العالم الفكري والثقافي بعدها، ولم يعد أبداً كما كان.
كان سعيد في الاستشراق والنظريّة الثقافيّة كما غاليليو أو تشارلز دارون، أو كارل ماركس، أو أنطونيو غرامشي، مؤسس «برادايم جديد» ونسقٍ مغاير كليّاً لكيفية رؤية العالم.
كتاب «الاستشراق» وبعده «الثقافة والإمبريالية» (1993) يمثلان في مجموعهما ما يمكن اعتباره النص المؤسِس لنظريّة ما بعد الاستعماريّة في دراسات الثقافة التي أزاحت تراكمات من الانحيازات المركبة جعلت من الخطاب الغربي عن المشرق كأنّه جزء لا يتجزأ من المجهود الحربي الموجه للسيطرة على المنطقة والهيمنة عليها وإعادة تشكيلها بما يتوافق مع صورة نقيضة للذات الغربيّة في صورتها وفكرتها الكليّة وشخصيتها الجمعيّة وتجربتها التاريخيّة. ووفقاً لسعيد، فإن المشرق كما يُقرأ في الغرب لم يكن إلا اختراعاً أوروبياً محضاً ليس له رصيد فعلي من الواقع، وهو صريح في اتهامه للغرب بأنه احتاج إلى الممارسة الاستشراقيّة أساساً بحكم حاجته إلى بلورة هويّة ذاتيّة من خلال وضعها مقابل الشرق - الآخر المختلف والهلامي والجمعي.
بالطبع فإن سعيد الذّي استخلص استشراقه من قراءة الأدب المتعلق بالشرق، انتقل في مطاردته للسرديات الغربيّة شديدة الأدلجة في كتابه الأقوى (الثقافة والإمبرياليّة) إلى قراءة نسق أكثر شموليّة في فهم العلاقات بين الغرب المتحضر الحديث وأصقاعه الواقعة ما وراء البحار. عند سعيد الاستشراق نظام من «السرد الآيديولوجي» متداخل مع مسألة السلطة، والهيمنة وعلاقات القوّة. إنه إحدى أهم الآليات التي يكرس بها الغرب نفوذه على الشرق، وهي تتحوّل بحكم تعقدها الشديد إلى «نظام للحقيقة» يعتنقه الطرفان بوعي أو من غير وعي، لتترتب عليه إجراءات ماديّة تكرّس هذه «الحقيقة المتخيّلة»، ليصير لها تاريخها الذاتي الواقعي ولتأخذ مواقع مستقرة في العقل الجمعي للمجتمع.
تطورت النظريّة كما في «الاستشراق» بعد سعيد، وأصبحت نسقاً فكريّاً ومنهجاً له تطبيقات عامة ليست مقتصرة على علاقات الغرب - شرق، بل قراءة ممكنة لكل هويّة متخيّلة على أساس التناقض مع الآخر المختلف، وتعددت تطبيقاتها الإقليميّة في قراءة تواريخ مناطق من العالم وفق ذات الجدليّة من الهند إلى الصين فأوروبا الشرقيّة وأميركا اللاتينيّة، كما توسعت في تعريف مفهوم السرديّة المؤدجلة إلى ما بعد الأنواع الأدبيّة ومختلف أدوات التواصل الإنساني من فنون ومسرح وسينما وعمارة ولغة وموسيقى وثقافات شعبيّة ومرويات دينيّة (لا سيما تلك التوراتيّة)، وحتى تجارة واستراتيجيا وإعلام، لدرجة أنه لم يعد ممكناً مثلاً فهمُ كيف يرى الإسرائيليون جيرانهم الفلسطينيين، أو ذوو البشرة البيضاء أبناء مجتمعهم السود دون منهجيّة منطلقة من استشراق سعيد لتفكيك الهويّات الجمعيّة المتخيّلة التي لا تتشكل إلا من خلال تلفيق هويّة ذلك المختلف عنهم كآخر كلّي يفتقد إلى الملامح الفرديّة، فيبقى باهتاً وبعيداً وقابلاً دوماً لإعادة التشكيل ضمن تحوّلات معادلة علاقات القوّة في المجتمعات.
سعيد الذي انتزعته من برجه الأميركي العاجي المترف صدمته من السرديّة الغربيّة لأحداث عام 1967، كما كانت تروى على الملأ في وسائل الإعلام الأميركيّة، تحوّل بفضل تطوره الفكري بشأن «الاستشراق» إلى ناشط سياسي من الطراز الأول في مواجهة الصياغات الغربيّة والإسرائيليّة العمياء للمسألة الفلسطينيّة. وهو وإن بقي دائماً متحديّاً عنيداً ضد أوهام الإمبراطوريّة الأميركيّة تحديداً، فإنه اختار أن يقاتل من داخل أرض العدو وبلغته وأدواته، الأمر الذي اعتبره البعض تناقضاً حاول هو التّصدي له في كتابه عن «تمثلات المثقف» (1994)، وإن كان جداله بقي دون صرامة غرامشي في تعريفه المثقف العضوي الذي لا يمكنه إلا أن ينحاز في المطلق لطبقة ما ويصبح خادماً ثقافيّاً لمصالحها بشكل أو بآخر.
كان سعيد رغم دماثته الشخصيّة، وتمكنه الأنيق من اللغة، واشتغاله بالموسيقات الكلاسيكيّة، يطلق نيراناً لا ترحم على تجار الاستشراق ومثقفي السّلطة والمتعلمين أذناب الاحتلالات الذين كانوا يسترزقون من خلال نسج الثياب الموهومة للإمبراطوريّة التي كانت تدفع لهم مقابل خداعهم أجوراً طائلة. وحده هو كان في مواجهتهم جميعاً، صارخاً بأعلى صوته بأن الإمبراطوريّة عارية، وأن سوءاتها بادية للجميع، ولذا فأنت تجد أكواماً من التضليل والكذب والمبالغات في نصوص كتبها متضررون ضد سعيد. يقول غوديث بتلر الفيلسوف البريطاني المعاصر إن رؤى سعيد العميقة وامتلاكه قدرة استثنائيّة على تخيّل عوالم بديلة ممكنة للصور الديماغوجيّة التي تروجها الإمبراطوريّات هي التي مكّنته من كشف آليات الاستشراق المعقدّة، ولاحقاً من تقديم حلول واقعيّة للقضيّة الفلسطينيّة في ضوء الاستحالة الأكيدة لإمكان الإلغاء التام لأي من طرفي معادلة الصراع. لكن ذلك تسبب له بأعداء من قصار النظر على الجانبين. ورغم الفتوحات المجيدة لسعيد في تقويض التصورات الاختزاليّة المتوارثة والصور النمطيّة عن الآخر، فإنه كذلك أصبح هدفاً لمثقفين اتهموه بتجاهل حقيقة أن الهويّات الموهومة التي يختلقها البشر لنزع الأنسنة عن الآخر المختلف إنما هدفت دائماً لتبرير الاستغلال الاقتصادي أساساً، وخلق نوع من تحالفات عابرة للطبقات تكرّس أسس الهيمنة القائمة وتضمن استدامتها من خلال نسج عدو مشترك - نقيض. وقال آخرون إنه جعل من الشرق بمثابة ضحيّة بلهاء، تسبب بتخلفِها المستعمر المقبل من وراء البحار، لا عهود متطاولة من التخلّف الاجتماعي والثقافي والصراعات السياسيّة والآيديولوجيّة الدمويّة العقيمة. سعيد رحل دون أن يردّ شخصيّاً على كثرة من هؤلاء. لكنّ ما حققه في حياته كان أكبر من أن يُساء إليه في تفصيل جانبي هنا أو هناك. لقد علّمنا هذا الرّجل أن نمتلك العقل النقدي والقدرة على تحدي السرديّات المسمومة في مواجهة غطرسة الإمبراطوريّات، وأنه يمكننا دائماً تخيّل عوالم ممكنة لا تحكمها التصورات المسبقة ومصالح المهيمنين. كما نجح وحيداً تقريباً في فرض صورة أكثر صدقاً في ذهن المجتمع الغربي عن المشروع الاستعماري الإسرائيلي في قلب فلسطين الذي تمتع قبل سعيد باحتكار تام للسرديّة، وبالتالي للتحالفات وردود الأفعال الممكنة. وفوق ذلك كله، فإن أفكاره صارت اليوم ملجأ لتحالف المتضررين العريض من سياسة الإمبراطوريّة المعولمة الغاشمة ونقطة انطلاقه لتفكيك الخطابات الاستعمارية والشعبوية والعنصرية في صيغها المتجددة.
نُقل عن إدوارد سعيد قوله: «أنا مجرد أستاذ يعلّم استخدامات اللغة وسوء استخداماتها أيضاً». وكأنه يقول إن الإمبراطوريات تكبر في فضاء سوء الاستخدام المتعمد للكلمات. أليست تلك هي خلاصة التاريخ البشري كلّه؟



الحجار يستعيد وهج «تترات المسلسلات» بالأوبرا المصرية

الفنان علي الحجار وأغانٍ متنوعة في حفل له بالأوبرا (دار الأوبرا المصرية)
الفنان علي الحجار وأغانٍ متنوعة في حفل له بالأوبرا (دار الأوبرا المصرية)
TT

الحجار يستعيد وهج «تترات المسلسلات» بالأوبرا المصرية

الفنان علي الحجار وأغانٍ متنوعة في حفل له بالأوبرا (دار الأوبرا المصرية)
الفنان علي الحجار وأغانٍ متنوعة في حفل له بالأوبرا (دار الأوبرا المصرية)

قدّم الفنان المصري علي الحجار مجموعة من شارات الأعمال الدرامية، التي غنّاها من قبل، في حفل احتضنه المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية، الخميس، ليستعيد وهج «تترات المسلسلات» وسط حضور جماهيري حاشد.

واستعاد الفنان خلال الحفل العديد من الأغاني، التي أثّرت في وجدان محبي الدراما والغناء الأصيل، والتي قدّمها عبر مشواره الفني، وجسّدت كثيراً من المعاني والقيم الإنسانية السامية والمثل العليا.

تفاعل الفنان مع الجمهور الذي احتشد في المسرح الكبير، وبصوته المميز وإحساسه الصادق تغنى بمقدمة ونهاية مسلسلات «المال والبنون»، و«أولاد آدم»، و«رحلة السيد أبو العلا البشري»، و«اللقاء الثاني»، و«كناريا»، و«الأيام»، و«السيرة الهلالية».

جانب من حفل علي الحجار بالأوبرا (دار الأوبرا المصرية)

وعدّ الناقد الموسيقي المصري، أحمد السماحي، أن «نجاح حفل علي الحجار بعد تقديمه العديد من تترات المسلسلات يؤكد ريادته لهذا اللون الغنائي». وقال لـ«الشرق الأوسط»: «نجح علي الحجار وقلة من الأصوات الطربية التي تميزت بجمال الصوت وقوته في هذا النوع، في حين لم يصمد غيره من المطربين في هذا الأمر، فما يقدمه الحجار له طابعه الخاص، لما يمتلكه من إمكانات صوتية عالية، فهو يستطيع تلوين صوته درامياً، وأصبحت الأعمال الدرامية التي قدّم الحجار تتراتها علامة مميزة في تاريخ الدراما المصرية».

وأوضح: «لو تحدثنا علمياً فسنجد أن أهم مزايا صوت علي الحجار هو اتساع مساحته، والميزة الثانية تحدي صوته لقوانين الطبيعة، فهو في نهاية الستينات ويغني بإجادة رائعة وخبرة عظيمة، فما زال صوته يلمع ويمتلئ بالإبداع».

وبدأت مسيرة الحجار الغنائية عام 1977 بأغنية «على قد ما حبينا» من كلمات عبد الرحيم منصور، وألحان بليغ حمدي، وأولى شارات المسلسلات التي قدّمها كانت «تتر مسلسل الأيام» وأغاني المسلسل من كلمات سيد حجاب وألحان عمار الشريعي، كما قدّم العديد من الألبومات الغنائية مثل «متصدقيش» و«مبسوطين» و«لم الشمل» و«مكتوبالي».

علي الحجار قدّم العديد من أغاني تترات المسلسلات (دار الأوبرا المصرية)

ويرى السماحي أن «الشهرة الكبيرة التي يتمتع بها علي الحجار ألقت بعض الظلال على القيمة الحقيقية لصوته، بدلاً من أن تلقي عليها الضوء، فأحياناً أشعر أن معظم الناس من فرط ما أصبح الاستماع إلى صوت الحجار عادة وتقليداً محبباً في حياتنا اليومية، بوسعهم أن يتتبعوا ملامح الجمال في أي صوت جديد، مثلما فعلوا ذلك مع علي الحجار».

موضحاً أن «الحجار صوته أصبح جزءاً من تراثنا الفني، ويستحوذ على المستمع بملكاته وقدراته الكبيرة التي تؤكد ريادة وتفرّد هذا الصوت».

وتضمن حفل الأوبرا العديد من أغاني الحجار القديمة، مثل «يا مصري ليه»، و«عارفة»، وكذلك أغنية «يا أبو الريش»، وأغاني مسلسلات «الشهد والدموع»، و«النديم»، و«وجع البعاد»، و«الرحايا»، و«عمر بن عبد العزيز»، و«جزيرة غمام»، و«الليل وآخره»، وأغنية «بنت وولد» من فيلم «إسكندرية نيويورك»، وأغنية «في هويد الليل» من مسلسل «غوايش»، و«ذئاب الجبل»، و«مسألة مبدأ»، و«بوابة الحلواني».