في مكان ما بين دونالد ترمب وسيلفيو بيرلوسكوني، تجد آندري بابيش رئيس الحكومة المكلف في جمهورية تشيكيا. فهو مثل الرجلين، ملياردير تحوّل إلى السياسة. مثل الأول، نجح في الوصول إلى السلطة رغم مناخات الفضائح التي تلاحقه... وإن كانت فضائحه مختلفة. ومثل الثاني، صاحب إمبراطورية إعلامية... تسلق عليها للوصول إلى القمة.
ولكن الأهم أن بابيش ينتمي إلى فئة القادة الشعبويين الذين باتوا يشكلون تحدياً للتيارات السياسية التقليدية في أوروبا، والآخذين في الصعود، مستفيدين من أزمة اللاجئين والعمليات الإرهابية.
لم تشهد تشيكيا خلال الفترة الأخيرة أعمال إرهاب مرتبطة بالتطرف الديني. ومن ناحية ثانية، لا تعاني من أزمة لاجئين. فهي لم تستقبل إلا 12 لاجئاً سورياً بعد موجة «النزوح الكبير» التي شهدتها أوروبا قبل سنتين. ومع ذلك وجدت هذه النقاشات طريقها إلى الخطاب السياسي في العاصمة براغ.
لا يُعدّ السياسي الملياردير آندري بابيش، الذي فاز حزبه «أنو» – الكلمة تعني «نعم» – باللغة التشيكية، من المتطرفين سياسيا، إلا أنه تبنى الخطاب المتطرف في هذا الموضوع. وخلال صيف العام الماضي، كتب على صفحته على «فيسبوك»: «ما عدت أؤمن بالاندماج الناجح والتعدّدية الثقافية. علينا بذل جهدنا لرفض اللاجئين، حتى من ضمن الكوتا التي سأرفضها ولو على حساب العقوبات».
يومذاك تطرق بابيش إلى «الكوتا» (الحصة) التي فرضها الاتحاد الأوروبي على دوله للمساعدة بتحمّل أعباء استضافة اللاجئين. وكان الاتحاد قد طلب من كل دولة استقبال عدد معين تبعاً لنسبة السكان ومقاييس أخرى، وخصص للجمهورية التشيكية حصة 2691 لاجئاً. لكن الحكومة لم تمنح اللجوء لأكثر من 12 لاجئاً سورياً. وبعدها توقفت عن استقبال المزيد، أسوة بـ«جارتيها» المجر وبولندا اللتين رفضتا - في ظل حكم اليمين المتشدد - استقبال حتى لاجئ واحد.
ومن ثم، توسّعت دائرة انتقادات بابيش للاجئين الغائبين تقريباً عن تشيكيا، لتشمل الاتحاد الأوروبي... لكن من دون أن يذهب إلى أقسى الحدود بالمطالبة بالخروج من الاتحاد. ونقل عنه مرة تعليق على إمكانية مغادرة الأسرة الأوروبية، قوله: إن تشيكيا تستفيد من أموال الاتحاد الأوروبي؛ ولذلك، لا حاجة إلى المغادرة. ومن جانب آخر، ثمة أموال استفاد منها بابيش شخصياً وتسببت له في مواجهة تهم فساد، وإقالته من منصبه وزيرا للمالية في الحكومة.
بابيش البراغماتيكي
البروفسور لوبومير كوبيتشيك، أستاذ العلوم السياسية في جامعة مازاريك التشيكية، قال في اتصال أجرته «الشرق الأوسط» معه عن رئيس الوزراء المقبل «بابيش سياسي براغماتيكي وليس آيديولوجياً». وتابع مفسراً خطاب بابيش السياسي «إنه ليس معاديا للهجرة ولا للاتحاد الأوروبي، غير أنه يعرف ما الذي يريد ناخبوه، وبالتالي، يلعب على مخاوفهم».
وحقاً، لسبب ما يبدو الناخبون التشيكيون مأخوذين باللاجئين والمسلمين الذين لا تتعدى نسبتهم 1 في المائة من السكان. ويرى المراقبون أن تبني بابيش خطاب اليمين المتطرف ساعده كثيراً على كسب أصوات في الانتخابات. ولعل ما يؤكد أهمية هذا الملف بالنسبة للناخبين، الصعود الكبير الذي حققه أيضا حزب «الحرية والديمقراطية المباشرة» بقيادة توميو أوكامورا، المولود لأب ياباني ووالدة تشيكية. هذا الحزب الشعبوي مثله مثل الأحزاب اليمينية المتطرفة الأخرى في أوروبا، بنى حملته على التهجم على المسلمين الذين لا يزيد عددهم على نحو الـ3 آلاف من أصل ما يزيد على 10 ملايين تشيكي، وكذلك على اللاجئين غير الموجودين أصلا. ومن ثم، نجح أوكامورا خلال الانتخابات التي أجريت في وقت سابق من هذا الشهر بتحقيق نتائج تقارب ما حققته الأحزاب الوسطية (يميناً ويساراً) التقليدية.
متهم بالاحتيال... ويلاحق الفاسدين
غير أن اللاجئين والمسلمين ما كانوا وحدهم محور حملة بابيش ولا السبب الأوحد لفوزه. ذلك أدار حملته وأسس حزبه قبل ذلك عام 2011 انطلاقاً من شعارات مكافحة الفساد وإنعاش الاقتصاد. وجاء تأسيس حزبه في وقت كانت تشهد البلاد سلسلة فضائح لسياسيين جمعوا ثروات من الأموال العامة، ما أكسبه على الفور تأييداً شعبياً واسعاً. وللعلم، رفض بابيش عند تأسيس حزبه أن يصنفه يميناً أو يساراً، مفضلا بدلاً من ذلك الكلام عن «حركة سياسية ذات أهداف اجتماعية إنمائية». بيد أن المفارقة هنا، أن بابيش، نفسه، الذي يدعو إلى مكافحة الفساد وتجريد الساسة من حصاناتهم الدبلوماسية، هو نفسه يواجه اتهامات بالفساد والاحتيال.
والواقع أن «قصته» مع تهم الاحتيال كادت أن تسقط الحكومة، وأدت إلى إقالته منها في مايو (أيار) الماضي، أي قبل أشهر قليلة من الانتخابات الأخيرة. ولم يستطع صديقه الرئيس ميلوش زيمان الذي تربطه به علاقات تجارية تفيد الرجلين، من إنقاذه من الإقالة. وتبع ذلك تجريد بابيش من حصانته الدبلوماسية تمهيدا لمحاكمته. ويتهمه الادعاء بتلقي إحدى الشركات التي يملكها لمنحة مالية بقيمة مليوني يورو ضمن مساعدات يقدمها التكتل للشركات الصغيرة. وتقول ملفات الشرطة إن بابيش - الملياردير الذي يعد ثاني أغنى شخص في تشيكيا - نقل ملكية الشركة إلى غيره، ثم استعادها بعد مرور 5 سنوات كي يستوفي شروط المنحة.
... وشعبيته لا تتأثر
وغير هذه الاتهامات، ثمة اتهامات كثيرة أخرى تشبهها تحوم حول رئيس الحكومة المقبل، مثل التهرب من دفع أموال ضرائب وتطويع القوانين المالية لتستفيد منها شركته... لكنها كلها لم تؤثر على شعبيته التي ظلت مرتفعة، ثم قادته إلى الفوز بمقعده مرة جديدة حاملا معه حزبه أو تياره إلى المرتبة الأولى. وعلى الأقل مؤقتا... أغلق فوزه مجددا التحقيق بحقه بعد تجديد حصانته النيابية.
البروفسور كوبيتشيك يرى أن مؤيدي بابيش لا يأبهون بتهم الفساد الموجهة إليه. ويضيف موضحاً «إنهم يعتقدون أن الطبقة السياسية القديمة لا تستطيع المساس به. لقد صوّت مؤيدوه له لأنه نجح في رسم صورة الآتي من الخارج لمكافحة السياسيين الفاسدين. وبالتالي، فهم يعتقدون أنه قادر على إدارة البلاد بشكل أفضل». وبالمناسبة، فهو نفسه دائماً ما يتحدث عن «مؤامرات» للإطاحة به، وبالطبع، ينفي كل التهم الموجهة إليه ويتهم خصومه بفبركتها.
ترمب.. أم بافيت؟
من جهة أخرى، فإن اعتقاد ناخبيه بأن بابيش هو أفضل من قد يقود البلاد نابع أيضا من تجربته في الحكومة والنجاحات الاقتصادية التي قرنت بفترة تسلمه حقيبة المالية. فهو دخل الحكومة عام 2013 بعد تحقيق حزبه أول فوز له منذ تأسيسه، ودخوله البرلمان بأصوات كانت كافية لجعله شريكا في الحكومة الائتلافية. وحول هذا النقطة يعلّق كوبيتشيك بالقول إن «النجاحات الاقتصادية في الفترة الأخيرة، مربوط بأذهان مؤيديه به، رغم أن هذا غير صحيح بالضرورة؛ فالانتعاش الاقتصادي بدأ قبل دخوله الحكومة». مع ذلك يردد بابيش دائماً بأنه يريد إدارة البلاد كما يدير شركاته، وهي إدارة ناجحة بحق. إذ إنه بنى إمبراطوريته بنفسه من الصفر، ونجح بتحقيق ثروة قدرها أكثر من 4 مليارات دولار أميركي، حسب تقديرات مجلة «فوربز»، التي اعتبرته النسخة التشيكية من دونالد ترمب.
إلا أن بابيش نفسه لا يحبذ هذا التشبيه. بل نقل عنه قوله إنه رجل أعمال ناجح أفضل بكثير من ترمب. ذلك أنه – بعكس ترمب – لم يفلس ولو مرة واحدة، وليست له علاقته نسائية متعددة. وعليه فهو - كما يقال - يفضل تشبيهه بمليارديرات الاستثمارات الأميركي وارين بافيت.
بدايته مع الثراء
لكن، في المقابل، يقول منتقدو بابيش إن نجاحاته المالية يعود فضلها لعلاقاته الشائكة أيام الاتحاد السوفياتي. حينذاك، نحو العام 1978، كان يعمل في شركة «بيتريماكس» للتجارة الدولية المملوكة من سلوفاكيا الشيوعية. ولقد أمضى فترة ممثلا للشركة في إحدى دول شمال أفريقيا امتدت من العام 1985 حتى سقوط الاتحاد السوفياتي، ومن ثم انقسام تشيكوسلوفاكيا إلى دولتين.
في تلك الحقبة، كان الشاب الذي تعلم في مدارس جنيف وباريس ويتنقل مع والده الدبلوماسي، عضوا في الحزب الشيوعي منذ العام 1980، ولدى عودته من شمال أفريقيا استقر في جمهورية تشيكيا مع أنه مولود في سلوفاكيا. وهناك تسلم عام 1993 إدارة شركة «أغروفيرت» التي كانت فرعا لـ«بيتريماكس» الشيوعية، وأصبح لاحقاً مالكها الأوحد. ثم طوّرها حتى باتت واحدة من أكبر الشركات التجارية في البلاد لتجعله ثاني أغنى رجل في تشيكيا. وبقي مالكها الوحيد حتى قبل أشهر قليلة عندما أجبر على نقل إدارة «آغروفيرت» إلى شركة ائتمانية برئاسة زوجته تماشيا مع قوانين جديدة لفصل الأعمال الشخصية عن العمل السياسي. وإزاء هذه الخلفية، يتهمه خصومه بالاستفادة من علاقاته السابقة أيام الشيوعية لإنجاح شركته. أكثر من هذا، يتهمه البعض بالعمل ذات مرة مخبرا لدى الشرطة السرية في تشيكوسلوفاكيا الشيوعية، وهي اتهامات ينفيها طبعاً.
إمبراطورية تتوسع
خلال السنوات الأخيرة وسع بابيش إمبراطوريته ودخل عالم الإعلام، فاشترى وسائل إعلام متعددة، بينها واحدة من أعرق وأقدم الصحف التشيكية. وأدى استحواذه عليها في حينه إلى موجة استقالات جماعية للصحافيين العاملين لتخوّفهم من تحويلهم إلى أداة بيد السياسي الملياردير. وبالفعل، اتهمه خصومه أخيراً باستخدام وسائل الإعلام التي يملكها كأداة انتخابية ومنصة للهجوم على خصومه السياسيين.
وبالإضافة إلى ذلك، تروى قصص عن أسلوب بابيش المتنمّر في التعاطي مع خصومه السياسيين بهدف إخضاعهم. ويشبه البعض «أساليب عمله» بتلك التي كان تعتمدها الشرطة السرية أيام الشيوعية. وضجّت قصة مرة عن اجتماعه بأحد النواب الذين وجهوا إليه انتقادات بأنه يدير وزارة المالية انطلاقاً من مصالحه الشخصية، ودخوله إلى الاجتماع حاملاً ملفاً كتب عليه اسم الرجل. ونقل شهود من داخل الاجتماع أن بابيش كان يصرخ بصوت عالٍ ويقول للرجل وهو يشير إلى الملف بأنه يعلم بالرشى التي يتلقاها، قبل أن ينتقل إلى الحديث عن عائلته وما يعرفه من أسرار عنها. وحول هذه القصة، نفى بابيش تهديده الرجل مع أنه اعترف بدخوله الاجتماع حاملا ملفا، لكنه ادعى إنه ملف يحمل مقتطفات صحافية.
هذا، وتحدث تقرير لمجلة «فورين بوليسي» عن أن بابيش يحيط نفسه برجال شرطة رفيعي المستوى ورجال استخبارات ومخبرين سابقين في الاتحاد السوفياتي. واعتبرت المجلة أن الولاءات التي جمعها بابيش حوله من الأمن والصحافة وعالم الأعمال «تهدد الديمقراطية في تشيكيا» التي كانت تعتبر واحدة من أكثر الدول ديمقراطية في أوروبا الوسطى.
نزعة استبدادية
أيضاً، يتحدث منتقدو بابيش عن مخاوف شبيهة كذلك. ويرون أن نزعته الاستبدادية تهدد الديمقراطية في البلاد. إلا أن البعض - في رأي البروفسور في جامعة مازاريك – أن «معظم ناخبي بابيش من كبار السن وذوي التعليم المتدني، وهم يحبون الأسلوب الأوتوقراطي الذي يظهره... هؤلاء الناخبون هم من الشيوعيين القدامى. وبابيش يبدو لهم رجلاً قوياً لديه مهارات في إدارة الأعمال والبلاد. إنهم لا يهتمون حقا بأنه قد يشكل تهديداً للديمقراطية». غير أن المخاوف من تهديده للديمقراطية، وواقع أنه يخضع لتحقيقات في قضايا فساد، دفعت بالأحزاب الرئيسة في تشيكيا، حتى الآن، لإعلان رفضها دخول أي حكومة ائتلافية معه. وبذا باتت خيارات بابيش بتشكيل حكومة محدودة بعض الشيء. وبات عليه الآن التشاور مع التكتلات الصغيرة التي دخلت البرلمان، وربما مع «حزب الحرية والديمقراطية المباشرة» المتطرف رغم أنه أعلن في السابق رفضه دخول مشاورات حكومية معه. ولكن سمعة بابيش المعروف عنه بأنه «رجل عمليّ» قد تدفعه إلى تغيير رأيه، كما فعل من قبل في مواقفه التي انقلبت حول الاتحاد الأوروبي واللاجئين عندما تغير المزاج العام.