«العم شي»... على خطى ماو ودينغ

مع اختتام مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني

«العم شي»... على خطى ماو ودينغ
TT

«العم شي»... على خطى ماو ودينغ

«العم شي»... على خطى ماو ودينغ

أصدر الرئيس الصيني شي جينبينغ - أو «العم شي» كما بات يُعرف في الصين - «دليل عمل» يعبّد الطريق لإصلاح نظام بلاده الاقتصادي واستعادة مكانتها الدولية، في الوقت الذي رسّخ فكره ميثاق الحزب الشيوعي في مؤتمره الـ19، ضامناً بهذا مكانه في مصاف أبرز قائدين في تاريخ الصين الحديث: ماو تسي تونغ ودينغ هسياو بينغ.
وتشمل خطة شي جينبينغ الهادفة إلى استعادة الصين مكانتها في الساحة الدولية، وبناء جيش قوي وتحسين نظام الرعاية الاجتماعية والطبية وفق دولة قانون «اشتراكية»، إلى جانب ضمان «تعايش منسجم بين الإنسان والطبيعة». وفي حين يشكّك مراقبون دوليون في مدى جدية القيادات الصينية بتحسين أوضاع حقوق الإنسان وتوسيع مجال الحريات السياسية، تعهد شي «بقطع رؤوس الفساد» داخل الحزب وفي المؤسسات التعليمية والشركات العامة، مع الحفاظ على أسس الحزب الشيوعي ومبادئه.

بشهادة في الهندسة الكيميائية من جامعة شينخوا العريقة في العاصمة بكين، دخل شي جينبينغ جهاز الحزب الشيوعي الصيني شاباً لم يتجاوز 21 سنة. وتقلب في مناصب المسؤولية في إقليم فوجيان عام 2000 ثم إقليم جيجيانغ بعد سنتين من ذلك، قبل أن ينتقل إلى مدينة شنغهاي كبرى مدن الصين و«عاصمتها الاقتصادية».
والواقع أن القيادي الشاب قاد بنجاح برنامج إصلاحات اقتصادية واسعة في الإقليمين الساحليين، ما شجّع هو جينتاو، الرئيس الصيني - آنذاك -، على «الاستعانة» به لقيادة برنامج إصلاحات في شنغهاي. وانضمّ شي إلى المكتب السياسي الدائم للحزب الشيوعي خلال العام نفسه، وتولّى مهامه في نوفمبر (تشرين الثاني) 2012.
واليوم، بعد ترأسه الحزب والبلاد لمدة خمس سنوات وإعادة انتخابه على رأس الحزب الشيوعي الصيني لنصف عقد آخر، يعتزم شي جينبينغ أن يقود أكبر تحوّل تشهده الصين في القرن الـ21 وأن يغدو رمز «التجديد الصيني» على طريق استعادة مكانة إمبراطورية تداعت قوتها بعد حروب الأفيون والاستعمار الأوروبي والعدوان الياباني.

الإصلاح الاقتصادي
لعلّ أبرز إنجاز حققه شي خلال السنوات الخمس الأولى من حكمه هو إصلاح اقتصاد الصين، التي حازت في هذه سمعة «ورشة العالم» لاعتمادها على تصنيع مواد رخيصة الثمن وتصديرها عبر العالم. وساعد الرئيس تشي جينبينغ خلال فترته الرئاسية الأولى، وفق تقرير نشره مركز «ستراتتفور» الأميركي للدراسات الاستراتيجية والأمنية، في نقل الصين من نموذج اقتصادي يقوم على السلع المصنعة المنخفضة التكلفة وذات القيمة المضافة إلى نموذج اقتصادي يركّز على الصناعات والخدمات المتقدمة والاستهلاك المحلي. كذلك أشرف شي على تغيير الاستراتيجية الدبلوماسية والعسكرية لبلاده، فخرجت الصين من الإطار التقليدي لسياستها الخارجية، واتجهت نحو توسيع نطاق مصالحها في الخارج.
أما ثالث أهم بصمة لحكم شي، فهي الحرب على الفساد. إذ شنّ الرئيس الصيني حملة كبيرة ضد الفساد والفاسدين، وغيّر مسؤولين في الحزب وإدارته؛ ما ساعده في ترسيخ قوته داخل المؤسسات الحزبية.

الحزب من النشأة إلى عصر التجديد
تجدر الإشارة إلى أنه في عام 1921، أسّس نحو عشرة حركيين ثوريين الحزب الشيوعي الصيني سراً في شنغهاي، ليصبح اليوم أضخم منظمة سياسية في العالم تعد 89.4 مليون عضو، أي ما يوازي 6.5 في المائة من إجمالي السكان.
ووصل الحزب إلى السلطة في 1949، ثم نجا من العقد الكارثي لـ«الثورة الثقافية» (1966 - 1976) التي أطلقها مؤسس النظام ماو تسي تونغ مستهدفاً قيادييه. ورغم ذلك، ما زال الحزب الشيوعي الصيني يتمتع بشعبية هائلة بين أكثر من مليار صيني.
ومنذ الانفتاح الاقتصادي الذي بدأ في أواخر السبعينات، انضمّ الصينيون بأعداد كبرى إلى الحزب الشيوعي. إلا أن العضوية ليست مفتوحة للجميع، بل تستهدف المتفوقين في الدراسة أو مجال الأعمال. ويتطلب تقديم طلب عضوية في الحزب الحصول على توصية، غالبا ما تكون من طرف خلية في الحزب في مكان العمل أو من لدن محاضر جامعي، وفق ليسلي هوك الكاتبة في صحيفة «الفاينانشال تايمز» البريطانية. وبعدها يخوض المرشّح عملية طويلة تشمل دروساً وأطروحات وامتحانات ومقابلات. وفي النهاية، يختار الحزب المرشحين الذين يعتبرهم جديرين بالثقة سياسيا والقادرين على إغنائه. لكن الحزب قصر طلبات، في المقابل، الترشح على المواطنين الصينيين منذ عام 1956، بعدما كان في السابق يضمن أميركيين ونيوزيلنديين وغيرهم، وفق هوك.

مؤتمر كل 5 سنوات
يعقد الحزب الشيوعي الصيني مؤتمراً كل خمس سنوات، يحتفي فيه بالإنجازات السابقة ويحدّد التحديات المقبلة. ويتيح المؤتمر الـ19 الذي انعقد الأسبوع الماضي في العاصمة بكين وأعاد تنصيب شي زعيماً لفترة ثانية، والذي تزامن هذا العام مع مرور قرن تقريباً على تأسيس الحزب عام 1921، فرصة للنظر في أداء الحزب خلال السنوات الخمس الماضية، والتخطيط لنصف العقد المقبل.
ولقد استغل شي هذا المؤتمر، فخاطب مئات المندوبين الذين يمثّلون «أكبر حزب في العالم» بأعضائه الـ89 مليونا وقد ارتدوا بدلات قاتمة وربطات عنق حمراء، ليشدّد على ضرورة الحفاظ على مكتسبات الحزب الفكرية والأخلاقية. وقال مخاطبا مندوبي الحزب: «على كلّ منا أن يبذل المزيد دفاعا عن سلطة الحزب والنظام الاشتراكي الصيني، والتصدي بحزم لأي أقوال أو أفعال من شأنها أن تقوّضهما».
وأضاف شي أن «الوضع في الداخل والخارج على السواء يشهد تبدلات عميقة ومعقدة (...) تطور الصين ما زال في مرحلة الفرص الاستراتيجية المهمة. الآفاق واعدة، لكن التحديات أيضا جسيمة». ولئن كان شي لم يعترض على الانتقال إلى «حكومة السوق الاشتراكية»، فإن رئاسته ترافقت مع عودة إلى الآيديولوجيا الماركسية وقمع معمم استهدف المحامين والمنشقين والمتدينين والإنترنت.

انفتاح على العالم
وشدد الرئيس الصيني في افتتاح المؤتمر الـ19 بـ«مزيد من الانفتاح» ومعاملة «منصفة» للشركات الأجنبية وتعزيز دور السوق»، استعار شي أثناء خطاب ألقاه الأسبوع الماضي وطال لـ3 ساعات، عبارات غالبا ما يستخدمها قادة «العالم الحر»، مؤكّدا أن «الانفتاح يجلب التطور، والانغلاق يعيدنا إلى الخلف. ولن تغلق الصين أبوابها، بل ستضاعف الانفتاح».
ووعد شي أمام حضور المؤتمر الذي استضافته قاعة الشعب الكبرى ببكين قائلا: «سنضيف مرونة كبرى إلى شروط الدخول إلى السوق (...) وسنحمي الحقوق والمصالح المشروعة للمستثمرين الأجانب. وستجري معاملة جميع الشركات المسجلة في الصين على قدم المساواة». ومن تعهد، وسط تصفيق نحو 2330 مندوباً حزبياً، مواصلة تحرير سوق العملات رغم أن تصريف اليوان ما زال يخضع للضوابط إلى حد كبير، من دون الكشف عن جدول زمني، كما أوردت وكالة الصحافة الفرنسية. ويهدف كل ذلك حسب قوله، إلى تعزيز الانتقال من «نمو سريع» إلى تطور اقتصادي «يتمحور حول النوعية» وتخفيض الفوارق.
ويشار إلى أن عملية التحول الاقتصادي والسياسي التي شهدتها الصين، وما زالت تشهدها، قد بدأت قبل تولي تشي السلطة، إلا أنه ساهم في تسريع وتيرتها وتكريس بكين عاصمة أساسية في ملفات دولية معقّدة، على غرار الأزمة الكورية الشمالية. وفي المقابل، تواجه عملية التحول هذه تحدّيات كبيرة،، وفق تقرير مركز «ستراتفور» الأميركي، من بينها انعدام المساواة الاجتماعية والإقليمية، وزيادة حجم الديون، فضلا عن المشاكل البيئية المتفاقمة التي أصبحت تهدّد سلامة المواطنين في المدن الكبيرة والمناطق الصناعية.
من جهة ثانية، رغم وعود شي الطموحة، تشكك بعض الشركات الأجنبية في مدى جدية بكين في تحسين أوضاع المستثمرين الأجانب. وندّد بعضها بتعرضه لتمييز متزايد أمام المنافسين المحليين والمجموعات التي تحظى بنفوذ والتابعة للدولة. ذلك أنها ممنوعة من الوصول إلى بعض القطاعات أو ملزمة في قطاعات أخرى بمشاركة مؤسسة محلية يتخللها أحيانا نواقص تكنولوجية وتقنية وتشغيلية. وفي المقابل، رحّب آخرون بدعوة الرئيس الصيني إلى «دعم وتطوير المؤسسات الخاصة»، وتأييده لـ«إبطال» القوانين التي تحول دون «منافسة مشروعة»، ومطالبته بـ«تعزيز وتطوير القطاع العام بلا انقطاع».
وفي هذه الأثناء، يواصل شي سياسة تعزيز الشركات الوطنية عبر دمج بعضها لبلورة أقطاب وطنية، ودعم تلك التي تواجه الصعوبات ولو أنه يفرض تعديلات عليها تعزز فعاليتها وتقلص قدراتها الزائدة. كما تعزّز الدولة نفوذها على القطاع الخاص، إذ سعت بكين مؤخرا - كما ذكرت «أ.ف.ب» - إلى الحد من استثمارات المجموعات الخاصة الكبرى المدينة، على غرار «واندا» و«فوسون» و«انبانغ» للتأمين وغيرها.

«الحزام والطريق»
وعلى صعيد آخر، أدرج شي مبادرة البنية التحتية الدولية الكبيرة، المعروفة باسم مشروع «الحزام والطريق»، في لائحة الحزب بشكل رسمي، في خطوة نادرة. وقال أبراهام دنمارك، مدير برنامج آسيا في مركز «ويلسون» لمجلّة «دي أتلانتيك» الأميركية إنه من غير المعتاد أن ذكر مشروع خاص بالسياسة الخارجية، مثل مبادرة مشروع «الحزام والطريق» بشكل صريح في لائحة حزب. وأردف: «يشير هذا إلى أنهم يرونه في إطار جهود طويلة المدى ستبذلها الصين لعقود مقبلة» لتعزيز نفوذها في آسيا.
ورغم تبني بعض دول جوار الصين لتلك المبادرة، التي أنفقت الصين بموجبها مئات المليارات في هيئة قروض على مشاريع بنية تحتية في منطقتها وخارجها، وصفت الولايات المتحدة الأميركية تلك المبادرة ب«الاقتصاد المفترس». وفي الكثير من الحالات، تنتظر الصين استرداد تلك القروض، ويمكنها أيضاً الاستحواذ على المشروعات التي قامت بتمويلها، مثل موانئ في باكستان أو طرق في سريلانكا، في حال عدم تسديد الديون وتعويضها.
ويجوز اعتبار مبادرة «الحزام والطريق»، إلى جانب محاولة وسائل الإعلام التابعة للدولة الواضحة تصدير نموذج الحكم في الصين، محاولة بكين لممارسة نفوذها في الدول النامية. ووصف دنمارك تغطية وسائل الإعلام التابعة للدولة للمؤتمر العام باللغة الإنجليزية بالـ«مبالغة في تصوير الإنجازات» بشكل ملحوظ، وتمثل ابتعادا عن الماضي. وأضاف قائلا: «يشير هذا حقاً إلى رؤيتهم للحقبة الجديدة للصين تحت حكم شي جينبينغ كفترة تقوم خلالها الصين بترجمة الرخاء، الذي حققته في حقبة دينغ هسياو بينغ، إلى قوة جيوسياسية حقيقية... في آسيا وربما في أنحاء العالم».

«صين تقدمية»
على الصعيد الدولي، فاجأ شي جينبينغ العالم في العام الماضي من على منبر «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس (سويسرا) بخطاب دافع فيه عن العولمة وفوائدها، وشدّد عبره على أهمية المضي قدما لتطويرها؛ وهذا بعدما كانت بكين أشرس المقاومين على مدار السنوات الماضية للعولمة. ومن ثم قدّم شي نفسه زعيما مستعدا لملء الفراغ الذي يبدو أن الولايات المتحدة قد تتركه في الساحة الدولية.
وحذر الرئيس الصيني الدول من العودة إلى «سياسات الحماية التجارية»، في هجوم واضح على خطاب الرئيس الأميركي دونالد ترمب وشعاره «أميركا أولا». كما شبّه شي الحماية التجارية بأن «يحبس المرء نفسه في غرفة مظلمة لكي يحمي نفسه من الخطر؛ لكنه يحرم نفسه داخل الغرفة في الوقت ذاته من النور والهواء». وإلى ذلك، عمدت بكين إلى لعب دور «حليف موثوق» للدول الأوروبية في قضايا تراجع فيها دور واشنطن، أبرزها التغير المناخي وإطلاق مفاوضات مع كوريا الشمالية لحل أزمة الأسلحة النووية.
وعلى صعيد التحديات الدولية العاجلة التي تتحدّى قيادة الصين الإقليمية، فإن الأزمة الكورية الشمالية والضغوط الأميركية على بكين تشكّل التحدي الأكبر لقوة شي جينبينغ ومصداقيته داخليا وخارجيا. ففي حين دعمت الصين نظام بيونغ يانغ المعزول دوليا على مرّ عقود، بدت وكأنها تعتمد خطا أكثر تشددا تجاهه عبر موافقتها على فرض عقوبات أممية هي الأقسى على الاقتصاد الكوري الشمالي، كما وجّهت مصارفها بتعليق التعامل مع الشركات الكورية الشمالية.
وللعلم، شهدت علاقة شي بالزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون توترا خلال الفترة الماضية؛ إذ استغل كيم استضافة الرئيس الصيني قمتين دوليتين هذا العام، لتسليط الضوء على برنامج بلاده الصاروخي والنووي. فمع استعداد شي في مايو (أيار) للتحدث إلى قادة العالم الذين اجتمعوا في بكين عن مبادرته «حزام واحد طريق واحد»، وهو برنامج يتعلق بالتجارة والبنى التحتية تقوده الصين، أجرت بيونغ يانغ اختبارا ناجحا لصاروخ باليستي. ومن ثم في سبتمبر (أيلول)، أجرت كوريا الشمالية أقوى اختبار نووي في تاريخها، قبل ساعات فقط من اعتلاء الرئيس الصيني المنصة لإلقاء خطاب عن العالم النامي خلال قمة لدول الـ«بريكس». واعتبر التوقيت بمثابة رسالة إلى شي ومحاولة من الزعيم الكوري الشمالي لدفع جاره الصيني إلى إقناع الرئيس الأميركي ترمب بالتفاوض معه. وفي أي حال، في حين رسّخ المؤتمر الشيوعي مكانة شي بصفته أقوى زعيم يحكم الصين منذ عقود، فإن علاقته المعقّدة مع ترمب وفشل مساعيه لحل الأزمة الكورية الشمالية حتى الآن يظلان عنصرين يحظيان باهتمام العالم.

ترسيخ «فكر شي»
ثلاث كلمات تحدّد مسار الصين، البلاد العملاقة التي يتجاوز عدد سكانها مليار و400 مليون نسمة. ثلاث كلمات قد تعرّف «صين القرن الـ21» في كتب تاريخ الأجيال القادمة؛ هي «فكر شي جينبينغ». إذ صوّت مندوبو الحزب الشيوعي الصيني، الثلاثاء الماضي، لصالح إدراج «فكر شي جينبينغ عن الاشتراكية بسمات صينية للعصر الجديد»، في ميثاق الحزب.
وتفصّل هذه الكلمات الثلاث 14 مبدأ أساسيا تحدّد توجّه البلاد داخليا وخارجيا، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا. وتشمل هذه المبادئ إصلاح مبدأ سيادة القانون، والحاجة إلى تطبيق النسخة الصينية من الاشتراكية، والحفاظ على البيئة، مع اتجاه الصين نحو زيادة حصتها من الطاقة المتجددة، ومنح الحزب الشيوعي «سلطة مطلقة» على الجيش.
من جهة أخرى، سيدرّس «فكر» شي في المدارس الصينية، ويروّج له في وسائل الإعلام التابعة للدولة، لضمان أن تظل آيديولوجية الرئيس الصيني ذات أهمية سياسية وثقافية لسنوات، إن لم يكن لعقود مقبلة. وهنا يقول دنمارك، من معهد «ويلسون»، إن شي سيكون له «قدرة أكبر على توجيه السياسات عبر كل أجهزة الدولة الصينية، من حكومة وحزب وجيش، لكن هذا سيضع في الوقت ذاته المزيد من الضغط على من يعارضونه ويجبرهم على الخضوع ودعم مبادراته».
في المقابل، يرى كريستوفر جونسون، المستشار في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، في تصريحات له أن هذا يساعد أيضاً في ترسيخ مكانة شي كواحد من الزعماء الثلاثة البارزين للصين في العصر الحديث. ويضيف جونسون: «إنه يتبنى صيغة دينغ هسياو بينغ للاشتراكية ذات الطابع الصيني، لكن مع تعديلها بحيث تتفق مع إدراكه أن هناك حقبة جديدة، ويساعده هذا في محو كل من جيانغ زيمين وهو جيناتو اللذين سبقاه في حكم البلاد، من التاريخ السياسي، فهو يتحدث فعلياً عن ثلاث حقب في تاريخ الصين الحديث هم حقبة ماو وحقبة دينغ... وحقبته».
ويبدو أن «فكر شي» لا يسعى فقط إلى ضمان مكانته إلى جانب اثنين من مؤسسي الصين الحديثة، بل يبدو وكأنه يسعى لضمان استمراره على رأس هرم السلطة بعد تجاوزه سن التقاعد غير الرسمي المحددة بـ68 سنة، وانقضاء فترتي الرئاسة اللتين يسمح بهما القانون.
ويرى محللون أن تجنب شي ترشيح وجه سياسي بارز لتسلم قيادة الحزب عام 2022، قد يكون دليلا على اعتزامه البقاء في السلطة. ولقد نقلت صحيفة «الغارديان» البريطانية عن المحاضر في جامعة كولومبيا، أندرو نيثن، قوله في هذا الشأن إن تعزيز تشي صورته داخل الحزب خلال السنوات الخمس الماضية تنذر بأنه سيمدد فترة حكمه بعد انتهاء فترته الثانية. ولفتت الصحيفة إلى أن الرئيس الصيني الحالي برز بصفته قائدا محتملا خلال المؤتمر الـ17 للحزب عام 2007، ومن جهتها، نقلت صحيفة «التلغراف» البريطانية عن محللين أن شي قد يبقى على رأس الحزب والجيش بعد انتهاء فترته الثانية فيها يصبح منصب رئيس البلاد «صورياً».
في المقابل، كان تريستان كيندوردين، مدير الأبحاث في «فيوتشر ريسك» والخبير في السياسات الصينية التجارية والصناعية والزراعية، أكثر حذرا. وقال لـ«دي أتلانتيك» معلقاً «دائماً ما نبالغ في التكهن بهذه الأمور، لأننا ببساطة لا نعلم. إن خمس سنوات مدة طويلة في السياسة الصينية».
عموماً، يعتبر كثيرون أن الشعبية التي يحظى بها شي جينبينغ اليوم تدعم بقاءه في الحكم بعد عام 2022، إذ إن الشعب يراه قوياً ويدافع عن مصالح الصين على مستوى العالم، كما تحظى الحملة المناهضة للفساد التي يقودها بدعم شعبي. ويدعم المواطنون كذلك إنجازاته خلال الخمس سنوات الماضية قد فاقت في حجمها وقيمتها إنجازات سلفه. وبهذا الصدد، يرى دنمارك أنه «لم يتّضح بعد ما إذا كان شي سيبقى في السلطة بشكل رسمي بعد عام 2022، لكنه إذا غادر المنصب رسمياً فإنني أتوقع أن يستمر نفوذه وتأثيره على المشهد السياسي في الصين لفترة طويلة». وهنا يضيف محذراً: «قد يظل شي مسيطراً لكن من وراء الستار لمدة أطول من دينغ، فرغم تقاعد دينغ رسمياً، ظل محتفظاً فعلياً بسلطته لعدة سنوات إلى أن تدهورت صحته. لكن يعتمد الأمر على مدى قوة حلفاء شي السياسيين خلال الفترة الرئاسية المقبلة، لذا لننتظر ونر تفاعله وأداءه خلال فترته الرئاسية الحالية».



الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
TT

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر والمؤامرات» و«المتآمرين» على أمن الدولة. كما كثف سعيّد لقاءاته بمسؤولي وزارتي الدفاع والداخلية وأعضاء مجلس الأمن القومي الذي يضم كذلك أكبر قيادات القوات المسلحة العسكرية والمدنية إلى جانب رئيسَي الحكومة والبرلمان ووزراء السيادة وكبار مستشاري القصر الرئاسي. وزاد الاهتمام بزيادة تفعيل دور القوات المسلحة و«تصدرها المشهد السياسي» بمناسبة مناقشة مشروع ميزانية الدولة للعام الجديد أمام البرلمان بعد تصريحات غير مسبوقة لوزير الدفاع الوطني السفير السابق خالد السهيلي عن «مخاطر» تهدد أمن البلاد الداخلي والخارجي.

تصريحات وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي تزامنت مع تصريحات أخرى صدرت عن وزير الداخلية خالد النوري وعن وزير الدولة للأمن القاضي سفيان بالصادق وعن الرئيس قيس سعيّد شخصياً. وهي كلها حذّرت من مخاطر الإرهاب والتهريب والمتفجرات والهجرة غير النظامية، ونبّهت إلى وجود «محاولات للنيل من سيادة تونس على كامل ترابها الوطني ومياهها الإقليمية» وعن «خلافات» لم تُحسم بعد و«غموض» نسبي في العلاقات مع بعض دول المنطقة.

وهنا نشير إلى أن اللافت في هذه التصريحات والمواقف كونها تأتي مع بدء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس قيس سعيّد، ومع مصادقة البرلمان على مشروع الحكومة لموازنة عام 2025... وسط تحذيرات من خطر أن تشهد تونس خلال العام أزمات أمنية وسياسية واقتصادية اجتماعية خطيرة.

أكثر من هذا، يتساءل البعض عن مبرّر إثارة القضايا الخلافية مع ليبيا، والمخاطر الأمنية من قِبل كبار المسؤولين عن القوات المسلحة، في مرحلة تعذّر فيها مجدداً عقد «القمة المغاربية المصغرة التونسية - الليبية - الجزائرية»... التي سبق أن تأجلت مرات عدة منذ شهر يوليو (تموز) الماضي.

كلام السهيلي... وزيارة سعيّد للجزائركلام السهيلي، وزير الدفاع، جاء أمام البرلمان بعد نحو أسبوع من زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى الجزائر، وحضوره هناك الاستعراض العسكري الضخم الذي نُظّم بمناسبة الذكرى السبعين لانفجار الثورة الجزائرية المسلحة. وما قاله الوزير التونسي أن «الوضع الأمني في البلاد يستدعي البقاء على درجة من اليقظة والحذر»، وقوله أيضاً إن «المجهودات العسكرية الأمنية متضافرة للتصدّي للتهديدات الإرهابية وتعقّب العناصر المشبوهة في المناطق المعزولة». إلى جانب إشارته إلى أن تونس «لن تتنازل عن أي شبر من أرضها» مذكراً - في هذا الإطار - بملف الخلافات الحدودية مع ليبيا.

من جهة ثانية، مع أن الوزير السهيلي ذكر أن الوضع الأمني بالبلاد خلال هذا العام يتسم بـ«الهدوء الحذر»، فإنه أفاد في المقابل بأنه جرى تنفيذ 990 عملية في «المناطق المشبوهة» - على حد تعبيره - شارك فيها أكثر من 19 ألفاً و500 عسكري. وأنجز هؤلاء خلال العمليات تفكيك 62 لغماً يدوي الصنع، وأوقفوا آلاف المهرّبين والمهاجرين غير النظاميين قرب الحدود مع ليبيا والجزائر، وحجزوا أكبر من 365 ألف قرص من المخدرات.

بالتوازي، كشف وزير الدفاع لأول مرة عن تسخير الدولة ألفي عسكري لتأمين مواقع إنتاج المحروقات بعد سنوات من الاضطرابات وتعطيل الإنتاج والتصدير في المحافظات الصحراوية المتاخمة لليبيا والجزائر.

مهاجرون عبر الصحراء الكبرى باتجاه اوروبا عبر ليبيا وتونس (رويترز)

تفعيل دور «القوات المسلحة»

تصريحات الوزير السهيلي لقيت أصداء كبيرة، محلياً وخارجياً، في حين اعترض على جانب منها سياسيون وإعلاميون ليبيون بارزون.

بيد أن الأمر الأهم، وفق البشير الجويني، الخبير التونسي في العلاقات بين الدول المغاربية والدبلوماسي السابق لدى ليبيا، أنها تزامنت مع «تأجيل» انعقاد القمة المغاربية التونسية - الليبية - الجزائرية التي سبق الإعلان أنه تقرر تنظيمها في النصف الأول من الشهر الأول في ليبيا، وذلك في أعقاب تأخير موعدها غير مرة بسبب انشغال كل من الجزائر وتونس بالانتخابات الرئاسية، واستفحال الأزمات السياسية الأمنية والاقتصادية البنكية في ليبيا من جديد.

والحال، أن الجويني يربط بين هذه العوامل والخطوات الجديدة التي قام بها الرئيس سعيّد وفريقه في اتجاه «مزيد من تفعيل دور القوات المسلحة العسكرية والمدنية» وسلسلة اجتماعاته مع وزيري الداخلية والدفاع ومع وزير الدولة للأمن الوطني، فضلاً عن زياراته المتعاقبة لمقر وزارة الداخلية والإشراف على جلسات عمل مع كبار كوادرها ومع أعضاء «مجلس الأمن القومي» في قصر الرئاسة بقرطاج. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إذ يسند الدستور إلى رئيس الدولة صفة «القائد العام للقوات المسلحة»، فإن الرئيس سعيّد حمّل مراراً المؤسستين العسكرية والأمنية مسؤولية «التصدي للخطر الداهم» ولمحاولات «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي».

واعتبر سعيّد خلال زيارات عمل قام بها إلى مؤسسات عمومية موسومة بأنه «انتشر فيها الفساد» - بينها مؤسسات زراعية وخدماتية عملاقة - أن البلاد تواجه «متآمرين من الداخل والخارج» وأنها في مرحلة «كفاح جديد من أجل التحرر الوطني»، ومن ثم، أعلن إسناده إلى القوات المسلّحة مسؤولية تتبع المشتبه فيهم في قضايا «التآمر والفساد» والتحقيق معهم وإحالتهم على القضاء.

المسار نفسه اعتمده، في الواقع، عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين التونسيين بينهم وزير الصحة والوزير المستشار السابق في قصر قرطاج الجنرال مصطفى الفرجاني، الذي أعلن بدوره عن إحالة مسؤولين متهمين بـ«شبهة الفساد» في قطاع الصحة على النيابة العمومية والوحدات الأمنية المركزية المكلّفة «الملفات السياسية والاقتصادية الخطيرة»، وبين هذه الملفات الإرهاب وسوء التصرّف المالي والإداري في أموال الدولة ومؤسساتها.

متغيرات في العلاقات مع ليبيا والجزائر وملفَي الإرهاب والهجرة

القمة المغاربية الأخيرة التي استضافتها الجزائر (لانا)

حملات غير مسبوقة

وفعلاً، كانت من أبرز نتائج «التفعيل الجديد» للدور الوطني للمؤسستين العسكرية والأمنية، وتصدّرهما المشهد السياسي الوطني التونسي، أن نظّمت النيابة العمومية وقوات الأمن والجيش حملات غير مسبوقة شملت «كبار الحيتان» في مجالات تهريب المخدرات والممنوعات، وتهريب عشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً نحو تونس، عبر الحدود الليبية والجزائرية تمهيداً لترحيلهم بحراً نحو أوروبا عبر إيطاليا.

وحسب المعلومات التي ساقها كل من وزيري الدفاع والداخلية، وأيضاً رئاسة الحرس الوطني، تمكنت القوات العسكرية والأمنية لأول مرة من أن تحجز مئات الكيلوغرامات من الكوكايين إلى جانب «كميات هائلة من الحشيش» والأقراص المخدرة.

وفي الحصيلة، أدّت تلك العمليات إلى إيقاف عدد من كبار المهرّبين ومن رؤوس تجار المخدرات «بقرار رئاسي»، بعدما أثبتت دراسات وتقارير عدة أن مئات الآلاف من أطفال المدارس، وشباب الجامعات، وأبناء الأحياء الشعبية، تورّطوا في «الإدمان» والجريمة المنظمة. وجاء هذا الإنجاز بعد عقود من «تتبّع صغار المهرّبين والمستهلكين للمخدرات وغضّ الطرف عن كبار المافيات»، على حد تعبير الخبير الأمني والإعلامي علي الزرمديني في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

تحرّكات أمنية عسكرية دوليةعلى صعيد آخر، جاء تصدّر القوات المسلحة العسكرية والأمنية التونسية المشهدين السياسي متلازماً زمنياً مع ترفيع التنسيقين الأمني والعسكري مع عواصم وتكتلات عسكرية دولية، بينها حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). وما يُذكر هنا أنه في ظل عودة التوترات السياسية في ليبيا، وتفاقم الخلافات داخلها بين حلفاء روسيا وتركيا والعواصم الغربية، تزايدت الاهتمامات الأميركية والأوروبية والأطلسية بـ«ترفيع الشراكة الأمنية والعسكرية مع تونس».

أيضاً، ورغم الحملات الإعلامية الواسعة في تونس ضد الإدارة الأميركية وحلفائها منذ عملية «طوفان الأقصى»؛ بسبب انحيازها لإسرائيل ودعمها حكومة بنيامين نتنياهو، كثّفت واشنطن - عبر بعثاتها في المنطقة - دعمها التدريبات العسكرية والأمنية المشتركة مع قوات الجيش والأمن التونسية.

بل، لقد أعلن جوي هود، السفير الأميركي لدى تونس، عن برامج واسعة لترفيع دور «الشراكة» العسكرية والأمنية الأميركية - التونسية، وبخاصة في المحافظات التونسية الحدودية مع كل من ليبيا والجزائر، وأيضاً في ميناء بنزرت العسكري (شمال تونس) ومنطقة النفيضة (100 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس).

وإضافة إلى ما سبق، أعلنت مصادر رسمية تونسية وأميركية عن مشاركة قوات تونسية ومغاربية أخيراً في مناورات عسكرية بحرية أميركية دولية نُظمت في سواحل تونس. وجاءت هذه المناورات بعد مشاركة الجيش التونسي، للعام الثالث على التوالي، في مناورات «الأسد الأفريقي» الدولية المتعددة الأطراف... التي نُظم جانب منها في تونس برعاية القوات الأميركية.

وحول هذا الأمر، أكد وزير الداخلية التونسي خالد النوري، قبل أيام في البرلمان، أن من بين أولويات وزارته عام 2025 «بناء أكاديمية الشرطة للعلوم الأمنية» في منطقة النفيضة من محافظة سوسة، وأخرى لحرس السواحل، وهذا فضلاً عن توسيع الكثير من الثكنات ومراكز الأمن والحرس الوطنيين وتهيئة مقر المدرسة الوطنية للحماية المدنية.

أبعاد التنسيقين الأمني والعسكري مع واشنطنوحقاً، أكد تصريح الوزير النوري ما سبق أن أعلن عنه السفير الأميركي هود عن «وجود فرصة لتصبح تونس ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية نقطة تصدير للأمن وللتجارب الأمنية في أفريقيا وفي كامل المنطقة».

وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى أن بعض مؤسسات التدريب التي يدعمها «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية)، وحلفاء واشنطن في «ناتو»، معنية في وقت واحد بأن تكون تونس طرفاً في «شراكة أمنية عسكرية أكثر تطوراً» مع ليبيا وبلدان الساحل والصحراء الأفريقية والبلدان العربية.

وزير الداخلية خالد النوري نوّه أيضاً بكون جهود تطوير القدرات الأمنية لتونس «تتزامن مع بدء العهدتين الثانيتين للرئيس قيس سعيّد وأخيه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون».

وفي السياق ذاته، نوّه عزوز باعلال، سفير الجزائر لدى تونس، بالشراكة الاقتصادية والأمنية والسياسية بين تونس والجزائر، وبنتائج زيارة الرئيس سعيّد الأخيرة للجزائر، وكذلك بجلسات العمل واللقاءات السبعة التي عقدها وزيرا خارجيتي البلدين محمد علي النفطي وأحمد عطّاف خلال الأسابيع القليلة الماضية في الجزائر وفي عواصم أخرى عدة.

حقائق

قضايا الحدود التونسية... شرقاً وغرباً

اقترن بدء الولاية الرئاسية الثانية التونسي للرئيس قيس سعيّد بتحرّكات قام بها مسؤولون كبار في الدولة إلى مؤسسات الأمن والجيش في المحافظات الحدودية، وبالأخص من جهة ليبيا، ضمن جهود مكافحة الإرهاب والتهريب والمخدرات.ومعلوم أنه زاد الاهتمام بالأبعاد الأمنية في علاقات تونس بجارتيها ليبيا والجزائر بعد إثارة وزير الدفاع خالد السهيلي أمام البرلمان ملف «رسم الحدود» الشرقية لتونس من قِبل «لجنة مشتركة» تونسية - ليبية. وكما سبق، كان الوزير السهيلي قد تطرّق إلى استغلال الأراضي الواقعة بين الحاجز الحدودي بين ليبيا وتونس، قائلاً إن «تونس لم ولن تسمح بالتفريط في أي شبر من الوطن». وفي حين رحّبت أطراف ليبية ومغاربية بهذا الإعلان، انتقده عدد من المسؤولين والخبراء الليبيين بقوة واعتبروا أن «ملف الخلافات الحدودية أغلق منذ مدة طويلة».ولكن، حسب تأكيدات مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، فإن السلطات الليبية أعلنت عن تغيير موقع العلامة الحدودية الفاصلة بين ليبيا وتونس «جزئياً» في منطقة سانية الأحيمر، التي تتبع ليبيا. إذ أورد بيان مديرية أمن السهل الغربي في يوليو (تموز) 2022، أنها رصدت ضم سانية الأحيمر إلى الأراضي التونسية، من خلال وضع العلامة الدالة على الحدود بذلك المكان (شرق السانية) بمسافة تقدر بنحو 150 متراً شرقاً ونحو 6 كيلو جنوباً.‏ما يستحق الإشارة هنا أن اللجنة الخاصة بترسيم الحدود الليبية مع تونس، والمكلفة من قِبل وزارة الدفاع في حكومة طرابلس، كشفت عن وجود عملية «تحوير» للعلامة. لكن مصادر دبلوماسية من الجانبين أكدت أن هذه القضية، وغيرها من «الخلافات والمستجدات»، جارٍ بحثها على مستوى اللجنة المشتركة ومن قِبل المسؤولين السياسيين والديبلوماسيين «بهدوء».في أي حال، أعادت إثارة هذه القضية إلى الواجهة تصريحاً سابقاً قال فيه الرئيس سعيّد بشأن الحدود مع ليبيا: «إن تونس لم تحصل إلا على الفتات» بعد خلافها الحدودي البحري مع ليبيا في فترة سبعينات القرن الماضي.والحقيقة، أنه سبق أن شهدت علاقات تونس وليبيا في أوقات سابقة توترات محورها الحدود والمناطق الترابية المشتركة بينهما؛ وذلك بسبب خلافات حدودية برّية وبحرية تعود إلى مرحلة الاحتلالين الفرنسي لتونس والإيطالي لليبيا، ثم إلى «التغييرات» التي أدخلتها السلطات الفرنسية على حدود مستعمراتها في شمال أفريقيا خلال خمسينات القرن الماضي عشية توقيع اتفاقيات الاستقلال. وهكذا، بقيت بعض المناطق الصحراوية الحدودية بين تونس وكل من ليبيا والجزائر «مثار جدل» بسبب قلة وضوح الترسيم وتزايد الأهمية الاستراتيجية للمناطق الحدودية بعد اكتشاف حقول النفط والغاز.وعلى الرغم من توقيع سلطات تونس وليبيا والجزائر اتفاقيات عدة لضبط الحدود والتعاون الأمني، تضاعف الاضطرابات الأمنية والسياسية في المنطقة منذ عام 2011 بسبب اندلاع حروب جديدة «بالوكالة» داخل ليبيا ودول الساحل والصحراء، بعضها بين جيوش و«ميليشيات» تابعة لواشنطن وموسكو وباريس وأنقرة على مواقع جيو - استراتيجية شرقاً غرباً.مع هذا، وفي كل الأحوال، تشهد علاقات تونس وكل من ليبيا والجزائر مستجدات سريعة على المجالين الأمني والعسكري. وربما تتعقد الأوضاع أكثر في المناطق الحدودية بعدما أصبحت التوترات والخلافات تشمل ملفات أمنية دولية تتداخل فيها مصالح أطراف محلية وعالمية ذات «أجندات» مختلفة وحساباتها للسنوات الخمس المقبلة من الولاية الثانية للرئيسين سعيّد وعبد المجيد تبّون.