«العم شي»... على خطى ماو ودينغ

مع اختتام مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني

«العم شي»... على خطى ماو ودينغ
TT

«العم شي»... على خطى ماو ودينغ

«العم شي»... على خطى ماو ودينغ

أصدر الرئيس الصيني شي جينبينغ - أو «العم شي» كما بات يُعرف في الصين - «دليل عمل» يعبّد الطريق لإصلاح نظام بلاده الاقتصادي واستعادة مكانتها الدولية، في الوقت الذي رسّخ فكره ميثاق الحزب الشيوعي في مؤتمره الـ19، ضامناً بهذا مكانه في مصاف أبرز قائدين في تاريخ الصين الحديث: ماو تسي تونغ ودينغ هسياو بينغ.
وتشمل خطة شي جينبينغ الهادفة إلى استعادة الصين مكانتها في الساحة الدولية، وبناء جيش قوي وتحسين نظام الرعاية الاجتماعية والطبية وفق دولة قانون «اشتراكية»، إلى جانب ضمان «تعايش منسجم بين الإنسان والطبيعة». وفي حين يشكّك مراقبون دوليون في مدى جدية القيادات الصينية بتحسين أوضاع حقوق الإنسان وتوسيع مجال الحريات السياسية، تعهد شي «بقطع رؤوس الفساد» داخل الحزب وفي المؤسسات التعليمية والشركات العامة، مع الحفاظ على أسس الحزب الشيوعي ومبادئه.

بشهادة في الهندسة الكيميائية من جامعة شينخوا العريقة في العاصمة بكين، دخل شي جينبينغ جهاز الحزب الشيوعي الصيني شاباً لم يتجاوز 21 سنة. وتقلب في مناصب المسؤولية في إقليم فوجيان عام 2000 ثم إقليم جيجيانغ بعد سنتين من ذلك، قبل أن ينتقل إلى مدينة شنغهاي كبرى مدن الصين و«عاصمتها الاقتصادية».
والواقع أن القيادي الشاب قاد بنجاح برنامج إصلاحات اقتصادية واسعة في الإقليمين الساحليين، ما شجّع هو جينتاو، الرئيس الصيني - آنذاك -، على «الاستعانة» به لقيادة برنامج إصلاحات في شنغهاي. وانضمّ شي إلى المكتب السياسي الدائم للحزب الشيوعي خلال العام نفسه، وتولّى مهامه في نوفمبر (تشرين الثاني) 2012.
واليوم، بعد ترأسه الحزب والبلاد لمدة خمس سنوات وإعادة انتخابه على رأس الحزب الشيوعي الصيني لنصف عقد آخر، يعتزم شي جينبينغ أن يقود أكبر تحوّل تشهده الصين في القرن الـ21 وأن يغدو رمز «التجديد الصيني» على طريق استعادة مكانة إمبراطورية تداعت قوتها بعد حروب الأفيون والاستعمار الأوروبي والعدوان الياباني.

الإصلاح الاقتصادي
لعلّ أبرز إنجاز حققه شي خلال السنوات الخمس الأولى من حكمه هو إصلاح اقتصاد الصين، التي حازت في هذه سمعة «ورشة العالم» لاعتمادها على تصنيع مواد رخيصة الثمن وتصديرها عبر العالم. وساعد الرئيس تشي جينبينغ خلال فترته الرئاسية الأولى، وفق تقرير نشره مركز «ستراتتفور» الأميركي للدراسات الاستراتيجية والأمنية، في نقل الصين من نموذج اقتصادي يقوم على السلع المصنعة المنخفضة التكلفة وذات القيمة المضافة إلى نموذج اقتصادي يركّز على الصناعات والخدمات المتقدمة والاستهلاك المحلي. كذلك أشرف شي على تغيير الاستراتيجية الدبلوماسية والعسكرية لبلاده، فخرجت الصين من الإطار التقليدي لسياستها الخارجية، واتجهت نحو توسيع نطاق مصالحها في الخارج.
أما ثالث أهم بصمة لحكم شي، فهي الحرب على الفساد. إذ شنّ الرئيس الصيني حملة كبيرة ضد الفساد والفاسدين، وغيّر مسؤولين في الحزب وإدارته؛ ما ساعده في ترسيخ قوته داخل المؤسسات الحزبية.

الحزب من النشأة إلى عصر التجديد
تجدر الإشارة إلى أنه في عام 1921، أسّس نحو عشرة حركيين ثوريين الحزب الشيوعي الصيني سراً في شنغهاي، ليصبح اليوم أضخم منظمة سياسية في العالم تعد 89.4 مليون عضو، أي ما يوازي 6.5 في المائة من إجمالي السكان.
ووصل الحزب إلى السلطة في 1949، ثم نجا من العقد الكارثي لـ«الثورة الثقافية» (1966 - 1976) التي أطلقها مؤسس النظام ماو تسي تونغ مستهدفاً قيادييه. ورغم ذلك، ما زال الحزب الشيوعي الصيني يتمتع بشعبية هائلة بين أكثر من مليار صيني.
ومنذ الانفتاح الاقتصادي الذي بدأ في أواخر السبعينات، انضمّ الصينيون بأعداد كبرى إلى الحزب الشيوعي. إلا أن العضوية ليست مفتوحة للجميع، بل تستهدف المتفوقين في الدراسة أو مجال الأعمال. ويتطلب تقديم طلب عضوية في الحزب الحصول على توصية، غالبا ما تكون من طرف خلية في الحزب في مكان العمل أو من لدن محاضر جامعي، وفق ليسلي هوك الكاتبة في صحيفة «الفاينانشال تايمز» البريطانية. وبعدها يخوض المرشّح عملية طويلة تشمل دروساً وأطروحات وامتحانات ومقابلات. وفي النهاية، يختار الحزب المرشحين الذين يعتبرهم جديرين بالثقة سياسيا والقادرين على إغنائه. لكن الحزب قصر طلبات، في المقابل، الترشح على المواطنين الصينيين منذ عام 1956، بعدما كان في السابق يضمن أميركيين ونيوزيلنديين وغيرهم، وفق هوك.

مؤتمر كل 5 سنوات
يعقد الحزب الشيوعي الصيني مؤتمراً كل خمس سنوات، يحتفي فيه بالإنجازات السابقة ويحدّد التحديات المقبلة. ويتيح المؤتمر الـ19 الذي انعقد الأسبوع الماضي في العاصمة بكين وأعاد تنصيب شي زعيماً لفترة ثانية، والذي تزامن هذا العام مع مرور قرن تقريباً على تأسيس الحزب عام 1921، فرصة للنظر في أداء الحزب خلال السنوات الخمس الماضية، والتخطيط لنصف العقد المقبل.
ولقد استغل شي هذا المؤتمر، فخاطب مئات المندوبين الذين يمثّلون «أكبر حزب في العالم» بأعضائه الـ89 مليونا وقد ارتدوا بدلات قاتمة وربطات عنق حمراء، ليشدّد على ضرورة الحفاظ على مكتسبات الحزب الفكرية والأخلاقية. وقال مخاطبا مندوبي الحزب: «على كلّ منا أن يبذل المزيد دفاعا عن سلطة الحزب والنظام الاشتراكي الصيني، والتصدي بحزم لأي أقوال أو أفعال من شأنها أن تقوّضهما».
وأضاف شي أن «الوضع في الداخل والخارج على السواء يشهد تبدلات عميقة ومعقدة (...) تطور الصين ما زال في مرحلة الفرص الاستراتيجية المهمة. الآفاق واعدة، لكن التحديات أيضا جسيمة». ولئن كان شي لم يعترض على الانتقال إلى «حكومة السوق الاشتراكية»، فإن رئاسته ترافقت مع عودة إلى الآيديولوجيا الماركسية وقمع معمم استهدف المحامين والمنشقين والمتدينين والإنترنت.

انفتاح على العالم
وشدد الرئيس الصيني في افتتاح المؤتمر الـ19 بـ«مزيد من الانفتاح» ومعاملة «منصفة» للشركات الأجنبية وتعزيز دور السوق»، استعار شي أثناء خطاب ألقاه الأسبوع الماضي وطال لـ3 ساعات، عبارات غالبا ما يستخدمها قادة «العالم الحر»، مؤكّدا أن «الانفتاح يجلب التطور، والانغلاق يعيدنا إلى الخلف. ولن تغلق الصين أبوابها، بل ستضاعف الانفتاح».
ووعد شي أمام حضور المؤتمر الذي استضافته قاعة الشعب الكبرى ببكين قائلا: «سنضيف مرونة كبرى إلى شروط الدخول إلى السوق (...) وسنحمي الحقوق والمصالح المشروعة للمستثمرين الأجانب. وستجري معاملة جميع الشركات المسجلة في الصين على قدم المساواة». ومن تعهد، وسط تصفيق نحو 2330 مندوباً حزبياً، مواصلة تحرير سوق العملات رغم أن تصريف اليوان ما زال يخضع للضوابط إلى حد كبير، من دون الكشف عن جدول زمني، كما أوردت وكالة الصحافة الفرنسية. ويهدف كل ذلك حسب قوله، إلى تعزيز الانتقال من «نمو سريع» إلى تطور اقتصادي «يتمحور حول النوعية» وتخفيض الفوارق.
ويشار إلى أن عملية التحول الاقتصادي والسياسي التي شهدتها الصين، وما زالت تشهدها، قد بدأت قبل تولي تشي السلطة، إلا أنه ساهم في تسريع وتيرتها وتكريس بكين عاصمة أساسية في ملفات دولية معقّدة، على غرار الأزمة الكورية الشمالية. وفي المقابل، تواجه عملية التحول هذه تحدّيات كبيرة،، وفق تقرير مركز «ستراتفور» الأميركي، من بينها انعدام المساواة الاجتماعية والإقليمية، وزيادة حجم الديون، فضلا عن المشاكل البيئية المتفاقمة التي أصبحت تهدّد سلامة المواطنين في المدن الكبيرة والمناطق الصناعية.
من جهة ثانية، رغم وعود شي الطموحة، تشكك بعض الشركات الأجنبية في مدى جدية بكين في تحسين أوضاع المستثمرين الأجانب. وندّد بعضها بتعرضه لتمييز متزايد أمام المنافسين المحليين والمجموعات التي تحظى بنفوذ والتابعة للدولة. ذلك أنها ممنوعة من الوصول إلى بعض القطاعات أو ملزمة في قطاعات أخرى بمشاركة مؤسسة محلية يتخللها أحيانا نواقص تكنولوجية وتقنية وتشغيلية. وفي المقابل، رحّب آخرون بدعوة الرئيس الصيني إلى «دعم وتطوير المؤسسات الخاصة»، وتأييده لـ«إبطال» القوانين التي تحول دون «منافسة مشروعة»، ومطالبته بـ«تعزيز وتطوير القطاع العام بلا انقطاع».
وفي هذه الأثناء، يواصل شي سياسة تعزيز الشركات الوطنية عبر دمج بعضها لبلورة أقطاب وطنية، ودعم تلك التي تواجه الصعوبات ولو أنه يفرض تعديلات عليها تعزز فعاليتها وتقلص قدراتها الزائدة. كما تعزّز الدولة نفوذها على القطاع الخاص، إذ سعت بكين مؤخرا - كما ذكرت «أ.ف.ب» - إلى الحد من استثمارات المجموعات الخاصة الكبرى المدينة، على غرار «واندا» و«فوسون» و«انبانغ» للتأمين وغيرها.

«الحزام والطريق»
وعلى صعيد آخر، أدرج شي مبادرة البنية التحتية الدولية الكبيرة، المعروفة باسم مشروع «الحزام والطريق»، في لائحة الحزب بشكل رسمي، في خطوة نادرة. وقال أبراهام دنمارك، مدير برنامج آسيا في مركز «ويلسون» لمجلّة «دي أتلانتيك» الأميركية إنه من غير المعتاد أن ذكر مشروع خاص بالسياسة الخارجية، مثل مبادرة مشروع «الحزام والطريق» بشكل صريح في لائحة حزب. وأردف: «يشير هذا إلى أنهم يرونه في إطار جهود طويلة المدى ستبذلها الصين لعقود مقبلة» لتعزيز نفوذها في آسيا.
ورغم تبني بعض دول جوار الصين لتلك المبادرة، التي أنفقت الصين بموجبها مئات المليارات في هيئة قروض على مشاريع بنية تحتية في منطقتها وخارجها، وصفت الولايات المتحدة الأميركية تلك المبادرة ب«الاقتصاد المفترس». وفي الكثير من الحالات، تنتظر الصين استرداد تلك القروض، ويمكنها أيضاً الاستحواذ على المشروعات التي قامت بتمويلها، مثل موانئ في باكستان أو طرق في سريلانكا، في حال عدم تسديد الديون وتعويضها.
ويجوز اعتبار مبادرة «الحزام والطريق»، إلى جانب محاولة وسائل الإعلام التابعة للدولة الواضحة تصدير نموذج الحكم في الصين، محاولة بكين لممارسة نفوذها في الدول النامية. ووصف دنمارك تغطية وسائل الإعلام التابعة للدولة للمؤتمر العام باللغة الإنجليزية بالـ«مبالغة في تصوير الإنجازات» بشكل ملحوظ، وتمثل ابتعادا عن الماضي. وأضاف قائلا: «يشير هذا حقاً إلى رؤيتهم للحقبة الجديدة للصين تحت حكم شي جينبينغ كفترة تقوم خلالها الصين بترجمة الرخاء، الذي حققته في حقبة دينغ هسياو بينغ، إلى قوة جيوسياسية حقيقية... في آسيا وربما في أنحاء العالم».

«صين تقدمية»
على الصعيد الدولي، فاجأ شي جينبينغ العالم في العام الماضي من على منبر «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس (سويسرا) بخطاب دافع فيه عن العولمة وفوائدها، وشدّد عبره على أهمية المضي قدما لتطويرها؛ وهذا بعدما كانت بكين أشرس المقاومين على مدار السنوات الماضية للعولمة. ومن ثم قدّم شي نفسه زعيما مستعدا لملء الفراغ الذي يبدو أن الولايات المتحدة قد تتركه في الساحة الدولية.
وحذر الرئيس الصيني الدول من العودة إلى «سياسات الحماية التجارية»، في هجوم واضح على خطاب الرئيس الأميركي دونالد ترمب وشعاره «أميركا أولا». كما شبّه شي الحماية التجارية بأن «يحبس المرء نفسه في غرفة مظلمة لكي يحمي نفسه من الخطر؛ لكنه يحرم نفسه داخل الغرفة في الوقت ذاته من النور والهواء». وإلى ذلك، عمدت بكين إلى لعب دور «حليف موثوق» للدول الأوروبية في قضايا تراجع فيها دور واشنطن، أبرزها التغير المناخي وإطلاق مفاوضات مع كوريا الشمالية لحل أزمة الأسلحة النووية.
وعلى صعيد التحديات الدولية العاجلة التي تتحدّى قيادة الصين الإقليمية، فإن الأزمة الكورية الشمالية والضغوط الأميركية على بكين تشكّل التحدي الأكبر لقوة شي جينبينغ ومصداقيته داخليا وخارجيا. ففي حين دعمت الصين نظام بيونغ يانغ المعزول دوليا على مرّ عقود، بدت وكأنها تعتمد خطا أكثر تشددا تجاهه عبر موافقتها على فرض عقوبات أممية هي الأقسى على الاقتصاد الكوري الشمالي، كما وجّهت مصارفها بتعليق التعامل مع الشركات الكورية الشمالية.
وللعلم، شهدت علاقة شي بالزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون توترا خلال الفترة الماضية؛ إذ استغل كيم استضافة الرئيس الصيني قمتين دوليتين هذا العام، لتسليط الضوء على برنامج بلاده الصاروخي والنووي. فمع استعداد شي في مايو (أيار) للتحدث إلى قادة العالم الذين اجتمعوا في بكين عن مبادرته «حزام واحد طريق واحد»، وهو برنامج يتعلق بالتجارة والبنى التحتية تقوده الصين، أجرت بيونغ يانغ اختبارا ناجحا لصاروخ باليستي. ومن ثم في سبتمبر (أيلول)، أجرت كوريا الشمالية أقوى اختبار نووي في تاريخها، قبل ساعات فقط من اعتلاء الرئيس الصيني المنصة لإلقاء خطاب عن العالم النامي خلال قمة لدول الـ«بريكس». واعتبر التوقيت بمثابة رسالة إلى شي ومحاولة من الزعيم الكوري الشمالي لدفع جاره الصيني إلى إقناع الرئيس الأميركي ترمب بالتفاوض معه. وفي أي حال، في حين رسّخ المؤتمر الشيوعي مكانة شي بصفته أقوى زعيم يحكم الصين منذ عقود، فإن علاقته المعقّدة مع ترمب وفشل مساعيه لحل الأزمة الكورية الشمالية حتى الآن يظلان عنصرين يحظيان باهتمام العالم.

ترسيخ «فكر شي»
ثلاث كلمات تحدّد مسار الصين، البلاد العملاقة التي يتجاوز عدد سكانها مليار و400 مليون نسمة. ثلاث كلمات قد تعرّف «صين القرن الـ21» في كتب تاريخ الأجيال القادمة؛ هي «فكر شي جينبينغ». إذ صوّت مندوبو الحزب الشيوعي الصيني، الثلاثاء الماضي، لصالح إدراج «فكر شي جينبينغ عن الاشتراكية بسمات صينية للعصر الجديد»، في ميثاق الحزب.
وتفصّل هذه الكلمات الثلاث 14 مبدأ أساسيا تحدّد توجّه البلاد داخليا وخارجيا، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا. وتشمل هذه المبادئ إصلاح مبدأ سيادة القانون، والحاجة إلى تطبيق النسخة الصينية من الاشتراكية، والحفاظ على البيئة، مع اتجاه الصين نحو زيادة حصتها من الطاقة المتجددة، ومنح الحزب الشيوعي «سلطة مطلقة» على الجيش.
من جهة أخرى، سيدرّس «فكر» شي في المدارس الصينية، ويروّج له في وسائل الإعلام التابعة للدولة، لضمان أن تظل آيديولوجية الرئيس الصيني ذات أهمية سياسية وثقافية لسنوات، إن لم يكن لعقود مقبلة. وهنا يقول دنمارك، من معهد «ويلسون»، إن شي سيكون له «قدرة أكبر على توجيه السياسات عبر كل أجهزة الدولة الصينية، من حكومة وحزب وجيش، لكن هذا سيضع في الوقت ذاته المزيد من الضغط على من يعارضونه ويجبرهم على الخضوع ودعم مبادراته».
في المقابل، يرى كريستوفر جونسون، المستشار في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، في تصريحات له أن هذا يساعد أيضاً في ترسيخ مكانة شي كواحد من الزعماء الثلاثة البارزين للصين في العصر الحديث. ويضيف جونسون: «إنه يتبنى صيغة دينغ هسياو بينغ للاشتراكية ذات الطابع الصيني، لكن مع تعديلها بحيث تتفق مع إدراكه أن هناك حقبة جديدة، ويساعده هذا في محو كل من جيانغ زيمين وهو جيناتو اللذين سبقاه في حكم البلاد، من التاريخ السياسي، فهو يتحدث فعلياً عن ثلاث حقب في تاريخ الصين الحديث هم حقبة ماو وحقبة دينغ... وحقبته».
ويبدو أن «فكر شي» لا يسعى فقط إلى ضمان مكانته إلى جانب اثنين من مؤسسي الصين الحديثة، بل يبدو وكأنه يسعى لضمان استمراره على رأس هرم السلطة بعد تجاوزه سن التقاعد غير الرسمي المحددة بـ68 سنة، وانقضاء فترتي الرئاسة اللتين يسمح بهما القانون.
ويرى محللون أن تجنب شي ترشيح وجه سياسي بارز لتسلم قيادة الحزب عام 2022، قد يكون دليلا على اعتزامه البقاء في السلطة. ولقد نقلت صحيفة «الغارديان» البريطانية عن المحاضر في جامعة كولومبيا، أندرو نيثن، قوله في هذا الشأن إن تعزيز تشي صورته داخل الحزب خلال السنوات الخمس الماضية تنذر بأنه سيمدد فترة حكمه بعد انتهاء فترته الثانية. ولفتت الصحيفة إلى أن الرئيس الصيني الحالي برز بصفته قائدا محتملا خلال المؤتمر الـ17 للحزب عام 2007، ومن جهتها، نقلت صحيفة «التلغراف» البريطانية عن محللين أن شي قد يبقى على رأس الحزب والجيش بعد انتهاء فترته الثانية فيها يصبح منصب رئيس البلاد «صورياً».
في المقابل، كان تريستان كيندوردين، مدير الأبحاث في «فيوتشر ريسك» والخبير في السياسات الصينية التجارية والصناعية والزراعية، أكثر حذرا. وقال لـ«دي أتلانتيك» معلقاً «دائماً ما نبالغ في التكهن بهذه الأمور، لأننا ببساطة لا نعلم. إن خمس سنوات مدة طويلة في السياسة الصينية».
عموماً، يعتبر كثيرون أن الشعبية التي يحظى بها شي جينبينغ اليوم تدعم بقاءه في الحكم بعد عام 2022، إذ إن الشعب يراه قوياً ويدافع عن مصالح الصين على مستوى العالم، كما تحظى الحملة المناهضة للفساد التي يقودها بدعم شعبي. ويدعم المواطنون كذلك إنجازاته خلال الخمس سنوات الماضية قد فاقت في حجمها وقيمتها إنجازات سلفه. وبهذا الصدد، يرى دنمارك أنه «لم يتّضح بعد ما إذا كان شي سيبقى في السلطة بشكل رسمي بعد عام 2022، لكنه إذا غادر المنصب رسمياً فإنني أتوقع أن يستمر نفوذه وتأثيره على المشهد السياسي في الصين لفترة طويلة». وهنا يضيف محذراً: «قد يظل شي مسيطراً لكن من وراء الستار لمدة أطول من دينغ، فرغم تقاعد دينغ رسمياً، ظل محتفظاً فعلياً بسلطته لعدة سنوات إلى أن تدهورت صحته. لكن يعتمد الأمر على مدى قوة حلفاء شي السياسيين خلال الفترة الرئاسية المقبلة، لذا لننتظر ونر تفاعله وأداءه خلال فترته الرئاسية الحالية».



فرنسا في مواجهة مأزق البرلمان المُعلق والغموض السياسي

داخل الجمعية الوطنية الفرنسية (آ ف ب)
داخل الجمعية الوطنية الفرنسية (آ ف ب)
TT

فرنسا في مواجهة مأزق البرلمان المُعلق والغموض السياسي

داخل الجمعية الوطنية الفرنسية (آ ف ب)
داخل الجمعية الوطنية الفرنسية (آ ف ب)

بعد انتهاء الهدنة السياسية التي كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد أعلنها بسبب الألعاب الأولمبية 2024، عادت الأنظار من جديد إلى «قصر ماتينيون»، حيث مقر رئاسة الوزراء، في انتظار قرار تعيين رئيس حكومة جديد. ذلك أنه بعد مرور أكثر من شهر على استقالة حكومة غبريال آتال لم يُقدم ماكرون بعد على تشكيل الحكومة العتيدة. وبالمناسبة، لم يسبق في تاريخ فرنسا أن استغرق رئيس جمهورية كل هذا الوقت لتعيين رئيس حكومة بعد انتخابات تشريعية. وأيضاً، لم يسبق أن انتُخبت جمعية وطنية (مجلس نواب) مشرذمة كالجمعية الحالية التي لم تتبلور فيها أي غالبية، ما حمل البعض على وصفها بأنها «جمعية خارجة تماماً عن تقاليد الجمهورية الخامسة، ولا أحد يعرف حقاً كيف يقاربها».

لوسي كاستيه (آ ف ب/غيتي)

تتوزّع مقاعد الجمعية الوطنية الفرنسية الجديدة على 3 تشكيلات سياسية كبرى، هي تحالف «الجبهة الشعبية» اليساري الذي حصل على 182 مقعداً، يليه تحالف «معاً من أجل الجمهورية» الوسطي الموالي للرئيس ماكرون برصيد 168 مقعداً، ثم تكتل اليمين المتطرف الذي يمثله «التجمّع الوطني» وحلفاؤه بـ143 مقعداً، وعلى مسافة بعدها يأتي «حزب الجمهوريين» اليميني بـ60 مقعداً.

وهكذا، نظراً لإخفاق كل من الكتل السياسية في جمع العدد المطلوب من المقاعد لضمان الغالبية المطلقة، وهو 289 مقعداً، من مجموع 577، وجدت البلاد نفسها أمام ما يسمى بمعضلة «البرلمان المعلّق». وهذا يعني احتمال فشل أي كتلة في الحصول على الدعم من الغالبية المطلقة، وبالتالي التعرّض لحجب الثقة الفوري والدخول في مأزق قد يّشل عمل الحكومة وتسيير مؤسسات الدولة.

بنجامان مولير، أستاذ القانون الدستوري في جامعة باريس – السوربون، صرح لصحيفة «ليبيراسيون» شارحاً: «إنها وضعية مضطربة للغاية لأن التصويت بحجب الثقة قد يحدث تكراراً بما أن المطلوب لتحقيق ذلك هو عُشر أعضاء البرلمان فقط». وتابع أن «وضعية كهذه قد تؤدي إلى تعاقب سريع لعدة حكومات، تسقط واحدة تلو أخرى، مع ما قد يترتّب عليه من فوضى سياسية وتعليق لملفات مهمة لا تحتمل التأخير كالهجرة وملف التقاعد والبطالة».

ضغوط اليسار

من جهة ثانية، رغم إعلان الرئيس ماكرون نيته في التمهل، يبقى حسم الموقف أمراً لا بد منه. ولذا تحرّك، فدعا رؤساء الكتل النيابية والتشكيلات السياسية المُمثلة في البرلمان الفرنسي أخيراً إلى مباحثات من أجل التوصل إلى اتفاق بخصوص تشكيل الحكومة العتيدة. خطوة الرئيس هذه حرّكتها الضغوط الشديدة الذي يمارسها تحالف اليسار لتعيين رئيس حكومة، علماً بأن شخصيات بارزة من اليسار أعربت بالفعل عن استيائها من مماطلة الرئيس. واقترح النائب السابق لحزب «فرنسا الأبيّة» اليساري أدريان كاتونس تنظيم مسيرة احتجاجية في اتجاه مقر الحكومة (قصر ماتينيون) إذ نشر على منصّة «إكس» ما يلي: «إنذار! ماكرون يريد أن يسرق منا الفوز، وهو يراوغ من أجل عرقلة تطبيق برنامج الجبهة الوطنية. صاحب السيادة الوحيد هو الشعب وهو الوحيد القادر على إيقافه، فلماذا لا ننظم مسيرة شعبية كبيرة نحو ماتينيون؟».

الفكرة لقيت أصداء عند شخصيات أخرى، كالنائب لوي بوايار الذي دافع عنها بعدما كان قد اتهم حزب «فرنسا الأبية» بمحاولة زرع الفوضى وتكرار «سيناريو» أحداث «الكابيتول»، مقرّ مجلسي الكونغرس الأميركي، في قلب العاصمة الفرنسية. وصّرح هذا الأخير لقناة «بي إف إم» الإخبارية بالقول: «أنا خائف على بلادي. نحن أمام رئيس جمهورية خسر رهان الانتخابات، لكنه يواصل تنسيق التحالفات وكأن الشعب الفرنسي لم يقترع. وحين ندعو لتنظيم مسيرة للمطالبة باحترام الديمقراطية، يقال لنا أنتم تحثّون على الفوضى، بينما الفوضى الحقيقية هي ما يفعله الرئيس الذي لا يحترم الديمقراطية، وكأنه يريد من الفرنسيين أن يمحوا من ذاكراتهم أنهم شاركوا في انتخابات تشريعية مبكرة».

شخصيات أخرى، كأبرز زعماء تحالف اليسار جان لوك ميلونشون، وماتيلد بانو رئيسة الكتلة البرلمانية لحزب «فرنسا الأبية»، وإيمانويل بومبار الناطق الرسمي باسم الحزب ذهبوا أبعد من ذلك، إذ نشروا بياناً في صحيفة «لا تريبون» يوم 18 أغسطس (آب) الحالي بعنوان «إقالة الرئيس بدلاً من الرضوخ»، ورد فيه تهديد واضح باللجوء إلى المادة 68 من الدستور الفرنسي التي تنّص على إمكانية طلب إقالة الرئيس بتهمة الإخفاق في مهامه، منها الامتناع عن تعيين رئيس حكومة. وممّا تضمنه البيان المنشور في «لا تريبون» قول أصحابه إنه تجب «معاقبة» المتسبب في إساءة استخدام السلطة. ولكن هنا، لا يشارك حزب اليسار الاشتراكي حلفاءه فكرة «الإقالة»، وبدلاً من ذلك أعلن أوليفييه فور، زعيم الكتلة الحزبية، أنه في حالة ما إذا رفض الرئيس تعيين الشخصية التي اختارها تحالف اليسار رئيساً للحكومة العتيدة فإن الحزب سيستعمل ورقة «حجب الثقة».

لوسي كاستيه... الخيار الوحيد!

في هذا السياق، وباعتبار أن «الجبهة الشعبية» هي اليوم القوة السياسية الأكبر تمثيلاً في البرلمان، فإن التقليد المتداول في السياسة الفرنسية هو أن يختار رئيس الجمهورية رئيساً للحكومة من هذه المجموعة. ولذا اقترحت قوى «الجبهة»، بعد مشاورات حثيثة استغرقت أسبوعين اسم لوسي كاستيه (37 سنة)، وهي موظفة عالية الرتبة في بلدية باريس، رئيسة للحكومة العتيدة. وحقاً، أطلقت كاستيه حملة إعلامية واسعة لتقديم نفسها إلى الفرنسيين على أساس أنها شخصية من المجتمع المدني، وبالتالي، غير معروفة على نطاق شعبي. وشرحت بالتفصيل في حوار على صفحات صحيفة «ليبيراسيون» الاستراتيجية التي تنوي اعتمادها للحكم، حتى دون أغلبية مطلقة. وفي مقال آخر بصحيفة «لا تريبون» قدّمت كاستيه خطّتها لإنعاش الاقتصاد الفرنسي الذي يشهد حالياً ركوداً، كما استضافتها وسائل إعلام سمعية وبصرية، وشاركت في المشاورات التي نظمتها الرئاسة. ولكن، مع أن كاستيه تبدو مستّعدة لتسلّم مهامها، فالأمور ليست بهذه البساطة، فالرئيس ماكرون لا يعدّ أن هناك فائزاً في هذه الانتخابات. وأعلن هذا في رسالة إلى الفرنسيين يوم 10 يوليو (تموز) حين قال حرفياً: «لم يفز أحد في هذه الانتخابات». ومن هذا المنطلق، يتجه ماكرون نحو اختيار شخصية يرى أنها تستطيع قيادة حكومة تمثل بأفضل صورة القوى السياسية الرئيسة في البلاد، رافضاً الاكتفاء باقتراح تحالف اليسار. عدة أسماء وردت في هذا السياق، أهمها شخصية كزافييه برتران، السياسي البارز في حزب «التجمع الجمهوري» (اليمين) وكان قد رحّب بالفكرة، إذ أكّد عبر عمود في صحيفة «لو فيغارو» يوم 6 أغسطس الحالي أنه «جاهز للتحدي». كذلك من الأسماء التي تملك حظاً طيباً في ترؤس الحكومة اسم برنار كازنوف، وهو رئيس حكومة من عهد رئاسة فرنسوا هولند، وهو ينتمي كهولند للحزب الاشتراكي ويتمتع بخبرة كبيرة، وهو أيضاً رحّب بالفكرة، فأجاب على سؤال طرحه إعلامي بأنه «سيكون دائماً جاهزاً». غير أن أياً من الشخصيات المتداولة أسماؤها لم تحظَ بموافقة اليسار الذي لا يزال متشبثاً بخيار كاستيه، على اعتبار أنها «الأكثر شرعية» من وجهة نظرهم.

كون «الجبهة الشعبية» هي اليوم القوة السياسية الأكبر تمثيلاً في البرلمان، فإن التقليد المتداول

في السياسة الفرنسية هو أن يختار رئيس الجمهورية رئيساً للحكومة منها

برنارد كازنوف (آ ف ب)

ماذا يقول القانون؟

في سياق موازٍ، خلال حوار مع صحيفة «لي زيكو» أوضح جوليان بوني، أستاذ القانون في جامعة مونبلييه، أنه «لا شيء في الدستور الفرنسي يُلزم الرئيس بتعيين مرشحة تحالف اليسار، فهو قانونياً حّر في التصرف، بيد أن واقع النتائج الانتخابية قد يفرض قيوداً بحكم أنه تعبير عن الإرادة الشعبية». وأردف بوني: «لكن إذا افترضنا أن الرئيس أقدم على تعيين شخصية من خارج تحالف اليسار، فإن الحكومة ستكون بالتأكيد قصيرة الأجل، لأنها ستكون معرضة لتصويت الغالبية من أجل إسقاطها».

وأضاف خبير قانوني آخر، هو بنجامان موريل من جامعة باريس - السوربون، في مداخلة على قناة « بوبليك سينا»، ما يلي: «جرت العادة أن يُعين رئيس الجمهورية رئيساً للحكومة من الكتلة السياسية التي تتمتع بالغالبية المطلقة، وهذا ليس وضعنا اليوم... فـ(الجبهة الشعبية) تشكل غالبية جّد نسبية، وهذا أمر غير مسبوق. ففي الانتخابات التي نظمت في 1988 و1993 ظهرت غالبية نسبية أيضاً، لكنها كانت واسعة جداً، أما اليوم فإن (الجبهة الشعبية) ينقصها أكثر من 100 مقعد للوصول إلى الغالبية المطلقة».

إلى متى يستطيع الرئيس الاستمرار في مشاوراته قبل إعلان قرار التعيين؟ حتى بالنسبة لهذه النقطة لا يبدو أن الدستور الفرنسي قد حدّد مدة معينة للتفكير، وهو ما يستغله الرئيس ماكرون من أجل المماطلة وربح الوقت.

في عمود بصحيفة «لوموند» تحت عنوان «يجب على إيمانويل ماكرون أن يتوقف عن المماطلة» نقرأ ما يلي: «مرت أكثر من 6 أسابيع على الانتخابات التشريعية، ولا توجد بعد حكومة في فرنسا (...) مثل هذه الوضعية توّلد عواقب خطيرة، فبحجة تصريف الشؤون الجارية، تتخذ الحكومة المستقيلة، من دون أي شرعية ديمقراطية قرارات مهمة، كتلك التي تخص الميزانية المالية لـ2025».

وبالفعل، كانت قضية الميزانية بالذات موضوع جدل كبير، بعدما وجّه غبريال آتال، المكلف منذ 16 يوليو بتصريف الأعمال، الرسائل التي تحدد سقف الأموال والوظائف الممنوحة لكل وزارة، في مبادرة أوضح مكتبه أن هدفها السماح للفريق الحكومي المقبل بوضع ميزانية، بينما ندّد اليسار بـ«فضيحة حقيقية» وخطوة «مذهلة»، منتقداً الاستمرار في سياسة «التقشف».

البعض انتقد أيضاً قلة احترام الجدول الزمني في إقرار ميزانية 2025، الحاصل تقليدياً في منتصف أغسطس الحالي، ودراستها في البرلمان في الأول من أكتوبر (تشرين الأول). إلا أن الأمر مختلف اليوم، بما أن الحكومة الانتقالية لم تقدّم الوثائق في الوقت المطلوب، ما يُعدّ إنذاراً سيئاً تتلقاه الأسواق المالية من فرنسا، حيث تؤثر الشكوك السياسية سلباً على الأوضاع الاقتصادية.

فريق آخر من المراقبين يرى أن ماكرون يماطل في اتخاذ قرار التعيين لأنه يرفض مواجهة الحقيقة، وكأن الانتخابات التي دعا هو إليها لم تحدث، وبذا يُبقي على سياسته الراهنة دون إحداث أي تغيير. كذلك، من الواضح أن الرئيس يريد «كسب الوقت»، لإضعاف حزب «فرنسا الأبيّة» أكبر قوى المعارضة، مراهناً على «انقسامات اليسار»، وآملاً بأنه مع مرور الوقت سيتصّدع صرح التحالف اليساري وسيضطر الاشتراكيون والخُضر للانفصال عن «فرنسا الأبيّة» للدخول إلى الائتلاف الحكومي.