الانتصار المؤقت على الإرهاب... هل فشلت الحرب على «داعش»؟

قدرة التنظيمات على إعادة توليد المقاتلين تبرز صعوبة المواجهة

أميركا وأوروبا تواجهان اليوم مستوى غير مسبوق من الهجمات الإرهابية التي يقف وراءها «داعش» و«القاعدة»... ضباط شرطة اسكتلنديارد
أميركا وأوروبا تواجهان اليوم مستوى غير مسبوق من الهجمات الإرهابية التي يقف وراءها «داعش» و«القاعدة»... ضباط شرطة اسكتلنديارد
TT

الانتصار المؤقت على الإرهاب... هل فشلت الحرب على «داعش»؟

أميركا وأوروبا تواجهان اليوم مستوى غير مسبوق من الهجمات الإرهابية التي يقف وراءها «داعش» و«القاعدة»... ضباط شرطة اسكتلنديارد
أميركا وأوروبا تواجهان اليوم مستوى غير مسبوق من الهجمات الإرهابية التي يقف وراءها «داعش» و«القاعدة»... ضباط شرطة اسكتلنديارد

جدد رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، يوم 10 أكتوبر (تشرين الأول) 2017، التأكيد على عزم بلاده القضاء على تنظيم «داعش» في بلاده. وجاء هذا التصريح في وقت تراهن فيه كلٌّ من أميركا والسلطة السياسية بالعراق على القضاء النهائي على «داعش» قبل نهاية هذه السنة. وفي هذا السياق، أضاف العبادي أن «القوات المشتركة استطاعت الوصول إلى مناطق لم تصل إليها أي قوة عسكرية منذ سقوط النظام السابق» سنة 2003؛ مما يشكل بالنسبة إليه أحد أبرز المؤشرات على الاندحار الذي يشهده تنظيم البغدادي، على المستويين الجغرافي والبشري. من جهته أكد وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس في زيارته الأخيرة للعراق يوم 22 أغسطس (آب) 2017، أن «أيام التنظيم أصبحت معدودة بكل تأكيد لكنه لم ينتهِ بعد ولن ينتهي في وقت قريب».
الخبيرة كاثرين زيمرمان الباحثة في معهد المشروع الأميركي «AEI» ترى في دراسة مطولة، صدرت لها حديثاً؛ أن الولايات المتحدة الأميركية خاسرة في حربها ضد الإرهاب، وأن تاريخ المواجهة مع تنظيمي «القاعدة» و«داعش» حافل بأخطاء استراتيجية وسوء فهم للعدو الحقيقي، الشيء الذي استغلته الجماعات المتطرفة، التي أصبحت اليوم أقوى، وأكثر خبرة ومرونة.

قوة التنظيمات الإرهابية
رغم مرور نحو 16 سنة من المواجهة المباشرة بين أميركا والتنظيمات الإرهابية، فإن مسيرة الصراع واستراتيجية كل طرف من الأطراف لعبت دوراً حاسماً في تجدد المواجهة واستمرارها منذ 11 سبتمبر (أيلول) 2001. وتشير كاثرين زيمرمان الباحثة في معهد المشروع الأميركي ومديرة الأبحاث في مشروع التهديدات الحرجة؛ إلى مجموعة من العوامل تساعد التنظيمات الإرهابية على الصمود والتوالد، رغم ما تتلقاه من هزائم مؤقتة. وتجمل الخبيرة في التنظيمات الإرهابية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أطروحتها التفسيرية، للانبعاث والصمود الذي يتمتع به كل من «القاعدة» و«داعش»، في 3 خصائص أساسية.
الخاصية الأولى: تتعلق بالخبرة التاريخية للتنظيمات المتطرفة التي استطاعت الخلط بين «الجهاد» والإرهاب (يساعد الإعلام الغربي على استشراء هذا الخلط). ذلك أن أصول هذه الجماعات الإرهابية تعود إلى التجربة الأفغانية التي صقلت هذا النوع من الشبكات العالمية، التي تستغل الجانب المحلي للنزاعات، لتكوين قاعدة، ونشر آيديولوجية دينية قائمة على استعادة نموذج «الخلافة»؛ والتركيز على عقيدة المواجهة مع الغرب باعتباره كافراً ومستعمراً. فهذه التنظيمات اكتسبت خبرة عملياتية، ولها فكر استراتيجي مكّنها في مناسبات عدة من إعادة التجميع دون أن تفقد قاعدتها الآيديولوجية والتنظيمية في أفغانستان. وهكذا كان من السهل عليها أن تظهر في الجزائر وتستمر فيه منذ بداية تسعينات القرن العشرين إلى اليوم؛ كما ظهرت في البوسنة، وطاجيكستان، والصومال، ومصر، والشيشان، وسوريا، والعراق، وليبيا، ومالي، والنيجر ونيجيريا وغيرها.
الخاصية الثانية: تخص وحدة الأهداف، والآيديولوجيا المتشابهة؛ وهذه الميزة تمكّن التنظيمات الإرهابية من تحقيق أهداف عامة مشتركة، حتى من دون وجود تنسيق تنظيمي، أو وحدة هيكلية. ربما هذا ما دفع زيمرمان، إلى التنبيه إلى الطابع الشبكي للجماعات الإرهابية، بالقول: «(الراديكالية الإسلاموية) تهدد الولايات المتحدة والغرب والمجتمعات الإسلامية؛ فهي ليست جماعة محددة أو أفراداً منظمين، وإنما تستمد قوتها من آيديولوجيتها المساعدة على توحيد شبكة الأفراد والجماعات والمنظمات الساعية لتحقيق الهدف العالمي المشترك الخاص بتدمير المجتمعات الإسلامية الحالية بالقتال، وإحلال المجتمع الإسلامي الحقيقي مكانها».
ومن هنا تعتقد الباحثة الأميركية، أن القضاء على التنظيمات الإرهابية مثل «القاعدة» و«داعش»، لا يعني نهاية وشيكة للظاهرة؛ وذلك لأن عنصر القوة لا يتمثل في القيادات مثل ابن لادن، أو أبي مصعب الزرقاوي أو البغدادي، كما أن سبب التكوين واستمرارية التنظيم، عبر تشكلات مختلفة، لا تعتبر في ذاتها مكمن قوة الإرهابيين.
إن عنصر القوة الأساس هو القاعدة الفكرية (للراديكالية الإسلاموية)، التي تتميز بشبكيتها وانتشارها الواسع، مما ينتج الجماعات الإرهابية بشكل سلس. وتستمد هذه الحركة قوتها من آيديولوجيتها العنيفة التي تدفع مختلف الجماعات والمنظمات إلى تحقيق هدف مشترك حتى من دون التنسيق المباشر فيما بينها. وتشكل الجماعات الراديكالية المحلية والمنظمات والأفراد، شبكة عابرة للحدود الوطنية... وهذه الأجزاء المكونة للحركة ليست منظمة بنحوٍ هرمي، غير أنها تتفاعل باستمرار بطرق معقدة، وفي نفس الوقت باعتبارها وحدة كاملة تشكل مصدراً أساسياً لقوة الجماعات الأساسية التي صنّفتها الولايات المتحدة جماعات معادية وهي: تنظيما «القاعدة» و«داعش»؛ ومن هنا يجب على الولايات المتحدة توسيع تعريفها للعدو ليشمل هذه القاعدة.
وبالنسبة إلى الخاصية الثالثة، فإنها تتجلى في قدرتها الفائقة على استغلال الأوضاع المحلية، المتسمة بالاضطراب والنزاعات السياسية والطائفية؛ فالتجربة العملية لهذه التنظيمات أكسبتها خبرة كبيرة على مستوى صناعة أنوية شبكية محلية، مع دفعها بشكل سريع نحو الانتشار واستقطاب الطاقات المحلية.
وهنا تضرب الباحثة زيمرمان، مثال ليبيا، لتفسير حيوية الجماعات الإرهابية وخبرتها في استغلال الأوضاع المحلية للتشبيك مع المنظمات الإرهابية العالمية. ففرع «داعش» بليبيا، ظهر بشكل قوي في الحرب الأهلية التي تعيشها البلاد؛ فقد كانت ولادة هذا الفرع الداعشي الليبي «عن طريق كسب ولاء عدد محدود لقليل من القادة المتعصبين الرئيسيين، واستقطاب الشبكة المحلية الموجودة، وهكذا تحولت لفرع خارجي لـ(داعش)».
تفيدنا التجربة التاريخية للصراع مع الإرهاب، أن تنظيماته وشبكاته مرنة، وتتمتع بدينامية في الحركة والتجنيد؛ كما تتمتع بحس استراتيجي، يمنحها حركية ونشاطاً في مناطق التوتر والنزاعات، فهي تستغل القاعدة الفكرية التي تقوم عليها الراديكالية الدينية، لتسهيل نقل الموارد عبر المناطق التي تعرف الصراعات المحلية. وتذهب الخبيرة في مؤسسة المشروع الأميركي، إلى أن الأهم من ذلك، الاستعداد الطبيعي للجماعات الإرهابية أن «تكون بؤرة لاستقطاب القادة والمقاتلين الذين يمكن للتنظيم أن يستفيد منهم. كما أن القدرة على إعادة توليد المقاتلين هي قدرة حاسمة يتمتع بها تنظيما (القاعدة) و(داعش)، وهذا يفسر السبب الكامن وراء بقاء كلا التنظيمين نابضاً بالحياة بعد أن قتلت الولايات المتحدة وحلفاؤها الكثير من مقاتليهما وقادتهما».
من ناحية ثانية، يبدو أن التركيز على ما هو محلي، وربطه بالعالمي يولد خليطاً من الجماعات الإرهابية، وبالتالي يتم خلق جماعات عابرة للحدود مرتبطة مع الشبكات المحلية، المثبتة والمنخرطة في الصراعات المحلية؛ وهذا بدوره يؤدي إلى خلق تنظيمات جديدة قد ترفض الرؤية العالمية للتنظيمات الإرهابية الدولية. وينتج عن مسلسل التوالد هذا، تحولٌ في العلاقات البينية بين الجماعات الإرهابية، لتخضع للقطيعة والتواصل. ومع ذلك ترى كاثرين زيمرمان أن «الكثير من التحول وإعادة التحالفات والخلاف بين الجماعات هو أمر تنظيمي أكثر منه آيديولوجياً ومنهجياً، وأن التوترات التنظيمية الناتجة عن الخلافات على المستوى العملياتي والعوامل الشخصية هي بديهية في كل الجماعات البشرية، ولا تدل على انفصال أساسي في الأهداف الشاملة. زد على ذلك أن انسيابية انتقال الأفراد من الأهداف المحلية إلى الأهداف العالمية أمر أصيل في عقيدة الراديكاليين.
وعليه فإن ما يظهر أنه صراع بين «القاعدة» و«داعش»، ليس صراعاً آيديولوجياً؛ بل هو تنافس تنظيمي تلعب الظروف المحلية والعالمية دوراً نسبياً في تطوره سلباً أو إيجاباً، لأن آيديولوجية التنظيمين الإرهابيين هي نفسها مستمدة من مصدر متطرف واحد. وعليه لا بد من اعتماد مؤشر الرؤية العقدية العالمية التي تتبناها التنظيمات الإرهابية؛ وفهم الشروخ والانشقاقات التي تضرب هذه التنظيمات من حين لآخر في إطار الدور الذي تلعبه القيادات المركزية العالمية، التي يسهل الوصول إليها واستهدافها، والقيادات المحلية التي لا تظهر على المسرح الدولي إعلامياً ويصعب الوصول إليها عسكرياً.

الانتصار على الإرهاب
مما تقدم أعلاه، يمكن القول: إن اعتماد الولايات المتحدة الأميركية على المواجهة العسكرية وقتل القيادات، ليس هو طريق النجاح في مسلسل المواجهة الصعبة والمريرة مع الإرهاب. فحسب الخبيرة زيمرمان، فإن الولايات المتحدة الأميركية في مأزق، فهي «من جهة لا تستطيع شق طرق للخروج من هذه الحرب، ومن جهة ثانية، فهي غير قادرة على هزيمة الراديكاليين المتطرفين من خلال مواجهة آيديولوجيتها أو الرسائل التي تبثها من جهة أخرى؛ فالقوى المتطرفة قوية اليوم، بسبب الظروف التي تعيشها الدول الإسلامية، وهذا الوضع يدفع المجتمعات السُّنية إلى قبول المساعدة ممن يقدمها من أجل البقاء. وهذا بدوره يمنح قوة للراديكالية في علاقاتها بالسكان، وستظل الجماعات المتطرفة تستثمر الظروف القائمة حالياً لصالحها».
صحيح أن استخدام القوة العسكرية ضد الجماعات الإرهابية ضروري، وله تأثير قوي؛ لكنه تأثير مؤقت. ذلك أن كاثرين زيمرمان، تؤكد أن «الانتصارات المتحققة بشِقّ الأنفس سرعان ما تتبدد؛ لأن آيديولوجية السلفية المتطرفة توفر مذهباً استراتيجياً للمنظمات على الصعيد العالمي، التي تستمر وراء تدمير أي جماعة، فالتجارب المشتركة في ساحة المعركة، وفي التدريب، وفي الأسر، وأماكن أخرى تعمل على بناء شبكات بشرية تتجاوز العلاقات التنظيمية؛ هذه التجارب بمنزلة مختبرات يقوم فيها المتطرفون بتحسين وسائلهم. إن المرونة العميقة الناجمة عن العقيدة الشاملة للراديكالية، والخبرات المشتركة، والطابع العالمي، هي السبب الكامن وراء استمرار خسارة الولايات المتحدة الحرب على الإرهاب».
بكلمة، وعلى خلاف ما هو سائد، تعتقد زيمرمان أن الولايات المتحدة تخسر الحرب على الإرهاب، رغم ما يبدو من تقدم بيِّن على الأرض. ولذلك فإن أميركا وأوروبا تواجه اليوم مستوى غير مسبوق من الهجمات الإرهابية، التي يقف وراءها «داعش» و«القاعدة»، وهذا مؤشر يُظهر درجة الفشل أمام عدو يستطيع التكيف السريع مع الظروف المحلية والعالمية ويظهر بطرق شبكية في حيز جغرافي مترامي الأطراف. وكل هذا يتطلب من إدارة الرئيس ترمب تغيير الاستراتيجية التقليدية التي انتهجها كل من بوش الابن منذ 2001، وسار عليها أوباما من بعده.
*أستاذ زائر للعلوم السياسية - جامعة محمد الخامس



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».