الانتصار المؤقت على الإرهاب... هل فشلت الحرب على «داعش»؟

قدرة التنظيمات على إعادة توليد المقاتلين تبرز صعوبة المواجهة

أميركا وأوروبا تواجهان اليوم مستوى غير مسبوق من الهجمات الإرهابية التي يقف وراءها «داعش» و«القاعدة»... ضباط شرطة اسكتلنديارد
أميركا وأوروبا تواجهان اليوم مستوى غير مسبوق من الهجمات الإرهابية التي يقف وراءها «داعش» و«القاعدة»... ضباط شرطة اسكتلنديارد
TT

الانتصار المؤقت على الإرهاب... هل فشلت الحرب على «داعش»؟

أميركا وأوروبا تواجهان اليوم مستوى غير مسبوق من الهجمات الإرهابية التي يقف وراءها «داعش» و«القاعدة»... ضباط شرطة اسكتلنديارد
أميركا وأوروبا تواجهان اليوم مستوى غير مسبوق من الهجمات الإرهابية التي يقف وراءها «داعش» و«القاعدة»... ضباط شرطة اسكتلنديارد

جدد رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، يوم 10 أكتوبر (تشرين الأول) 2017، التأكيد على عزم بلاده القضاء على تنظيم «داعش» في بلاده. وجاء هذا التصريح في وقت تراهن فيه كلٌّ من أميركا والسلطة السياسية بالعراق على القضاء النهائي على «داعش» قبل نهاية هذه السنة. وفي هذا السياق، أضاف العبادي أن «القوات المشتركة استطاعت الوصول إلى مناطق لم تصل إليها أي قوة عسكرية منذ سقوط النظام السابق» سنة 2003؛ مما يشكل بالنسبة إليه أحد أبرز المؤشرات على الاندحار الذي يشهده تنظيم البغدادي، على المستويين الجغرافي والبشري. من جهته أكد وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس في زيارته الأخيرة للعراق يوم 22 أغسطس (آب) 2017، أن «أيام التنظيم أصبحت معدودة بكل تأكيد لكنه لم ينتهِ بعد ولن ينتهي في وقت قريب».
الخبيرة كاثرين زيمرمان الباحثة في معهد المشروع الأميركي «AEI» ترى في دراسة مطولة، صدرت لها حديثاً؛ أن الولايات المتحدة الأميركية خاسرة في حربها ضد الإرهاب، وأن تاريخ المواجهة مع تنظيمي «القاعدة» و«داعش» حافل بأخطاء استراتيجية وسوء فهم للعدو الحقيقي، الشيء الذي استغلته الجماعات المتطرفة، التي أصبحت اليوم أقوى، وأكثر خبرة ومرونة.

قوة التنظيمات الإرهابية
رغم مرور نحو 16 سنة من المواجهة المباشرة بين أميركا والتنظيمات الإرهابية، فإن مسيرة الصراع واستراتيجية كل طرف من الأطراف لعبت دوراً حاسماً في تجدد المواجهة واستمرارها منذ 11 سبتمبر (أيلول) 2001. وتشير كاثرين زيمرمان الباحثة في معهد المشروع الأميركي ومديرة الأبحاث في مشروع التهديدات الحرجة؛ إلى مجموعة من العوامل تساعد التنظيمات الإرهابية على الصمود والتوالد، رغم ما تتلقاه من هزائم مؤقتة. وتجمل الخبيرة في التنظيمات الإرهابية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أطروحتها التفسيرية، للانبعاث والصمود الذي يتمتع به كل من «القاعدة» و«داعش»، في 3 خصائص أساسية.
الخاصية الأولى: تتعلق بالخبرة التاريخية للتنظيمات المتطرفة التي استطاعت الخلط بين «الجهاد» والإرهاب (يساعد الإعلام الغربي على استشراء هذا الخلط). ذلك أن أصول هذه الجماعات الإرهابية تعود إلى التجربة الأفغانية التي صقلت هذا النوع من الشبكات العالمية، التي تستغل الجانب المحلي للنزاعات، لتكوين قاعدة، ونشر آيديولوجية دينية قائمة على استعادة نموذج «الخلافة»؛ والتركيز على عقيدة المواجهة مع الغرب باعتباره كافراً ومستعمراً. فهذه التنظيمات اكتسبت خبرة عملياتية، ولها فكر استراتيجي مكّنها في مناسبات عدة من إعادة التجميع دون أن تفقد قاعدتها الآيديولوجية والتنظيمية في أفغانستان. وهكذا كان من السهل عليها أن تظهر في الجزائر وتستمر فيه منذ بداية تسعينات القرن العشرين إلى اليوم؛ كما ظهرت في البوسنة، وطاجيكستان، والصومال، ومصر، والشيشان، وسوريا، والعراق، وليبيا، ومالي، والنيجر ونيجيريا وغيرها.
الخاصية الثانية: تخص وحدة الأهداف، والآيديولوجيا المتشابهة؛ وهذه الميزة تمكّن التنظيمات الإرهابية من تحقيق أهداف عامة مشتركة، حتى من دون وجود تنسيق تنظيمي، أو وحدة هيكلية. ربما هذا ما دفع زيمرمان، إلى التنبيه إلى الطابع الشبكي للجماعات الإرهابية، بالقول: «(الراديكالية الإسلاموية) تهدد الولايات المتحدة والغرب والمجتمعات الإسلامية؛ فهي ليست جماعة محددة أو أفراداً منظمين، وإنما تستمد قوتها من آيديولوجيتها المساعدة على توحيد شبكة الأفراد والجماعات والمنظمات الساعية لتحقيق الهدف العالمي المشترك الخاص بتدمير المجتمعات الإسلامية الحالية بالقتال، وإحلال المجتمع الإسلامي الحقيقي مكانها».
ومن هنا تعتقد الباحثة الأميركية، أن القضاء على التنظيمات الإرهابية مثل «القاعدة» و«داعش»، لا يعني نهاية وشيكة للظاهرة؛ وذلك لأن عنصر القوة لا يتمثل في القيادات مثل ابن لادن، أو أبي مصعب الزرقاوي أو البغدادي، كما أن سبب التكوين واستمرارية التنظيم، عبر تشكلات مختلفة، لا تعتبر في ذاتها مكمن قوة الإرهابيين.
إن عنصر القوة الأساس هو القاعدة الفكرية (للراديكالية الإسلاموية)، التي تتميز بشبكيتها وانتشارها الواسع، مما ينتج الجماعات الإرهابية بشكل سلس. وتستمد هذه الحركة قوتها من آيديولوجيتها العنيفة التي تدفع مختلف الجماعات والمنظمات إلى تحقيق هدف مشترك حتى من دون التنسيق المباشر فيما بينها. وتشكل الجماعات الراديكالية المحلية والمنظمات والأفراد، شبكة عابرة للحدود الوطنية... وهذه الأجزاء المكونة للحركة ليست منظمة بنحوٍ هرمي، غير أنها تتفاعل باستمرار بطرق معقدة، وفي نفس الوقت باعتبارها وحدة كاملة تشكل مصدراً أساسياً لقوة الجماعات الأساسية التي صنّفتها الولايات المتحدة جماعات معادية وهي: تنظيما «القاعدة» و«داعش»؛ ومن هنا يجب على الولايات المتحدة توسيع تعريفها للعدو ليشمل هذه القاعدة.
وبالنسبة إلى الخاصية الثالثة، فإنها تتجلى في قدرتها الفائقة على استغلال الأوضاع المحلية، المتسمة بالاضطراب والنزاعات السياسية والطائفية؛ فالتجربة العملية لهذه التنظيمات أكسبتها خبرة كبيرة على مستوى صناعة أنوية شبكية محلية، مع دفعها بشكل سريع نحو الانتشار واستقطاب الطاقات المحلية.
وهنا تضرب الباحثة زيمرمان، مثال ليبيا، لتفسير حيوية الجماعات الإرهابية وخبرتها في استغلال الأوضاع المحلية للتشبيك مع المنظمات الإرهابية العالمية. ففرع «داعش» بليبيا، ظهر بشكل قوي في الحرب الأهلية التي تعيشها البلاد؛ فقد كانت ولادة هذا الفرع الداعشي الليبي «عن طريق كسب ولاء عدد محدود لقليل من القادة المتعصبين الرئيسيين، واستقطاب الشبكة المحلية الموجودة، وهكذا تحولت لفرع خارجي لـ(داعش)».
تفيدنا التجربة التاريخية للصراع مع الإرهاب، أن تنظيماته وشبكاته مرنة، وتتمتع بدينامية في الحركة والتجنيد؛ كما تتمتع بحس استراتيجي، يمنحها حركية ونشاطاً في مناطق التوتر والنزاعات، فهي تستغل القاعدة الفكرية التي تقوم عليها الراديكالية الدينية، لتسهيل نقل الموارد عبر المناطق التي تعرف الصراعات المحلية. وتذهب الخبيرة في مؤسسة المشروع الأميركي، إلى أن الأهم من ذلك، الاستعداد الطبيعي للجماعات الإرهابية أن «تكون بؤرة لاستقطاب القادة والمقاتلين الذين يمكن للتنظيم أن يستفيد منهم. كما أن القدرة على إعادة توليد المقاتلين هي قدرة حاسمة يتمتع بها تنظيما (القاعدة) و(داعش)، وهذا يفسر السبب الكامن وراء بقاء كلا التنظيمين نابضاً بالحياة بعد أن قتلت الولايات المتحدة وحلفاؤها الكثير من مقاتليهما وقادتهما».
من ناحية ثانية، يبدو أن التركيز على ما هو محلي، وربطه بالعالمي يولد خليطاً من الجماعات الإرهابية، وبالتالي يتم خلق جماعات عابرة للحدود مرتبطة مع الشبكات المحلية، المثبتة والمنخرطة في الصراعات المحلية؛ وهذا بدوره يؤدي إلى خلق تنظيمات جديدة قد ترفض الرؤية العالمية للتنظيمات الإرهابية الدولية. وينتج عن مسلسل التوالد هذا، تحولٌ في العلاقات البينية بين الجماعات الإرهابية، لتخضع للقطيعة والتواصل. ومع ذلك ترى كاثرين زيمرمان أن «الكثير من التحول وإعادة التحالفات والخلاف بين الجماعات هو أمر تنظيمي أكثر منه آيديولوجياً ومنهجياً، وأن التوترات التنظيمية الناتجة عن الخلافات على المستوى العملياتي والعوامل الشخصية هي بديهية في كل الجماعات البشرية، ولا تدل على انفصال أساسي في الأهداف الشاملة. زد على ذلك أن انسيابية انتقال الأفراد من الأهداف المحلية إلى الأهداف العالمية أمر أصيل في عقيدة الراديكاليين.
وعليه فإن ما يظهر أنه صراع بين «القاعدة» و«داعش»، ليس صراعاً آيديولوجياً؛ بل هو تنافس تنظيمي تلعب الظروف المحلية والعالمية دوراً نسبياً في تطوره سلباً أو إيجاباً، لأن آيديولوجية التنظيمين الإرهابيين هي نفسها مستمدة من مصدر متطرف واحد. وعليه لا بد من اعتماد مؤشر الرؤية العقدية العالمية التي تتبناها التنظيمات الإرهابية؛ وفهم الشروخ والانشقاقات التي تضرب هذه التنظيمات من حين لآخر في إطار الدور الذي تلعبه القيادات المركزية العالمية، التي يسهل الوصول إليها واستهدافها، والقيادات المحلية التي لا تظهر على المسرح الدولي إعلامياً ويصعب الوصول إليها عسكرياً.

الانتصار على الإرهاب
مما تقدم أعلاه، يمكن القول: إن اعتماد الولايات المتحدة الأميركية على المواجهة العسكرية وقتل القيادات، ليس هو طريق النجاح في مسلسل المواجهة الصعبة والمريرة مع الإرهاب. فحسب الخبيرة زيمرمان، فإن الولايات المتحدة الأميركية في مأزق، فهي «من جهة لا تستطيع شق طرق للخروج من هذه الحرب، ومن جهة ثانية، فهي غير قادرة على هزيمة الراديكاليين المتطرفين من خلال مواجهة آيديولوجيتها أو الرسائل التي تبثها من جهة أخرى؛ فالقوى المتطرفة قوية اليوم، بسبب الظروف التي تعيشها الدول الإسلامية، وهذا الوضع يدفع المجتمعات السُّنية إلى قبول المساعدة ممن يقدمها من أجل البقاء. وهذا بدوره يمنح قوة للراديكالية في علاقاتها بالسكان، وستظل الجماعات المتطرفة تستثمر الظروف القائمة حالياً لصالحها».
صحيح أن استخدام القوة العسكرية ضد الجماعات الإرهابية ضروري، وله تأثير قوي؛ لكنه تأثير مؤقت. ذلك أن كاثرين زيمرمان، تؤكد أن «الانتصارات المتحققة بشِقّ الأنفس سرعان ما تتبدد؛ لأن آيديولوجية السلفية المتطرفة توفر مذهباً استراتيجياً للمنظمات على الصعيد العالمي، التي تستمر وراء تدمير أي جماعة، فالتجارب المشتركة في ساحة المعركة، وفي التدريب، وفي الأسر، وأماكن أخرى تعمل على بناء شبكات بشرية تتجاوز العلاقات التنظيمية؛ هذه التجارب بمنزلة مختبرات يقوم فيها المتطرفون بتحسين وسائلهم. إن المرونة العميقة الناجمة عن العقيدة الشاملة للراديكالية، والخبرات المشتركة، والطابع العالمي، هي السبب الكامن وراء استمرار خسارة الولايات المتحدة الحرب على الإرهاب».
بكلمة، وعلى خلاف ما هو سائد، تعتقد زيمرمان أن الولايات المتحدة تخسر الحرب على الإرهاب، رغم ما يبدو من تقدم بيِّن على الأرض. ولذلك فإن أميركا وأوروبا تواجه اليوم مستوى غير مسبوق من الهجمات الإرهابية، التي يقف وراءها «داعش» و«القاعدة»، وهذا مؤشر يُظهر درجة الفشل أمام عدو يستطيع التكيف السريع مع الظروف المحلية والعالمية ويظهر بطرق شبكية في حيز جغرافي مترامي الأطراف. وكل هذا يتطلب من إدارة الرئيس ترمب تغيير الاستراتيجية التقليدية التي انتهجها كل من بوش الابن منذ 2001، وسار عليها أوباما من بعده.
*أستاذ زائر للعلوم السياسية - جامعة محمد الخامس



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟