الانتصار المؤقت على الإرهاب... هل فشلت الحرب على «داعش»؟

قدرة التنظيمات على إعادة توليد المقاتلين تبرز صعوبة المواجهة

أميركا وأوروبا تواجهان اليوم مستوى غير مسبوق من الهجمات الإرهابية التي يقف وراءها «داعش» و«القاعدة»... ضباط شرطة اسكتلنديارد
أميركا وأوروبا تواجهان اليوم مستوى غير مسبوق من الهجمات الإرهابية التي يقف وراءها «داعش» و«القاعدة»... ضباط شرطة اسكتلنديارد
TT

الانتصار المؤقت على الإرهاب... هل فشلت الحرب على «داعش»؟

أميركا وأوروبا تواجهان اليوم مستوى غير مسبوق من الهجمات الإرهابية التي يقف وراءها «داعش» و«القاعدة»... ضباط شرطة اسكتلنديارد
أميركا وأوروبا تواجهان اليوم مستوى غير مسبوق من الهجمات الإرهابية التي يقف وراءها «داعش» و«القاعدة»... ضباط شرطة اسكتلنديارد

جدد رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، يوم 10 أكتوبر (تشرين الأول) 2017، التأكيد على عزم بلاده القضاء على تنظيم «داعش» في بلاده. وجاء هذا التصريح في وقت تراهن فيه كلٌّ من أميركا والسلطة السياسية بالعراق على القضاء النهائي على «داعش» قبل نهاية هذه السنة. وفي هذا السياق، أضاف العبادي أن «القوات المشتركة استطاعت الوصول إلى مناطق لم تصل إليها أي قوة عسكرية منذ سقوط النظام السابق» سنة 2003؛ مما يشكل بالنسبة إليه أحد أبرز المؤشرات على الاندحار الذي يشهده تنظيم البغدادي، على المستويين الجغرافي والبشري. من جهته أكد وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس في زيارته الأخيرة للعراق يوم 22 أغسطس (آب) 2017، أن «أيام التنظيم أصبحت معدودة بكل تأكيد لكنه لم ينتهِ بعد ولن ينتهي في وقت قريب».
الخبيرة كاثرين زيمرمان الباحثة في معهد المشروع الأميركي «AEI» ترى في دراسة مطولة، صدرت لها حديثاً؛ أن الولايات المتحدة الأميركية خاسرة في حربها ضد الإرهاب، وأن تاريخ المواجهة مع تنظيمي «القاعدة» و«داعش» حافل بأخطاء استراتيجية وسوء فهم للعدو الحقيقي، الشيء الذي استغلته الجماعات المتطرفة، التي أصبحت اليوم أقوى، وأكثر خبرة ومرونة.

قوة التنظيمات الإرهابية
رغم مرور نحو 16 سنة من المواجهة المباشرة بين أميركا والتنظيمات الإرهابية، فإن مسيرة الصراع واستراتيجية كل طرف من الأطراف لعبت دوراً حاسماً في تجدد المواجهة واستمرارها منذ 11 سبتمبر (أيلول) 2001. وتشير كاثرين زيمرمان الباحثة في معهد المشروع الأميركي ومديرة الأبحاث في مشروع التهديدات الحرجة؛ إلى مجموعة من العوامل تساعد التنظيمات الإرهابية على الصمود والتوالد، رغم ما تتلقاه من هزائم مؤقتة. وتجمل الخبيرة في التنظيمات الإرهابية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أطروحتها التفسيرية، للانبعاث والصمود الذي يتمتع به كل من «القاعدة» و«داعش»، في 3 خصائص أساسية.
الخاصية الأولى: تتعلق بالخبرة التاريخية للتنظيمات المتطرفة التي استطاعت الخلط بين «الجهاد» والإرهاب (يساعد الإعلام الغربي على استشراء هذا الخلط). ذلك أن أصول هذه الجماعات الإرهابية تعود إلى التجربة الأفغانية التي صقلت هذا النوع من الشبكات العالمية، التي تستغل الجانب المحلي للنزاعات، لتكوين قاعدة، ونشر آيديولوجية دينية قائمة على استعادة نموذج «الخلافة»؛ والتركيز على عقيدة المواجهة مع الغرب باعتباره كافراً ومستعمراً. فهذه التنظيمات اكتسبت خبرة عملياتية، ولها فكر استراتيجي مكّنها في مناسبات عدة من إعادة التجميع دون أن تفقد قاعدتها الآيديولوجية والتنظيمية في أفغانستان. وهكذا كان من السهل عليها أن تظهر في الجزائر وتستمر فيه منذ بداية تسعينات القرن العشرين إلى اليوم؛ كما ظهرت في البوسنة، وطاجيكستان، والصومال، ومصر، والشيشان، وسوريا، والعراق، وليبيا، ومالي، والنيجر ونيجيريا وغيرها.
الخاصية الثانية: تخص وحدة الأهداف، والآيديولوجيا المتشابهة؛ وهذه الميزة تمكّن التنظيمات الإرهابية من تحقيق أهداف عامة مشتركة، حتى من دون وجود تنسيق تنظيمي، أو وحدة هيكلية. ربما هذا ما دفع زيمرمان، إلى التنبيه إلى الطابع الشبكي للجماعات الإرهابية، بالقول: «(الراديكالية الإسلاموية) تهدد الولايات المتحدة والغرب والمجتمعات الإسلامية؛ فهي ليست جماعة محددة أو أفراداً منظمين، وإنما تستمد قوتها من آيديولوجيتها المساعدة على توحيد شبكة الأفراد والجماعات والمنظمات الساعية لتحقيق الهدف العالمي المشترك الخاص بتدمير المجتمعات الإسلامية الحالية بالقتال، وإحلال المجتمع الإسلامي الحقيقي مكانها».
ومن هنا تعتقد الباحثة الأميركية، أن القضاء على التنظيمات الإرهابية مثل «القاعدة» و«داعش»، لا يعني نهاية وشيكة للظاهرة؛ وذلك لأن عنصر القوة لا يتمثل في القيادات مثل ابن لادن، أو أبي مصعب الزرقاوي أو البغدادي، كما أن سبب التكوين واستمرارية التنظيم، عبر تشكلات مختلفة، لا تعتبر في ذاتها مكمن قوة الإرهابيين.
إن عنصر القوة الأساس هو القاعدة الفكرية (للراديكالية الإسلاموية)، التي تتميز بشبكيتها وانتشارها الواسع، مما ينتج الجماعات الإرهابية بشكل سلس. وتستمد هذه الحركة قوتها من آيديولوجيتها العنيفة التي تدفع مختلف الجماعات والمنظمات إلى تحقيق هدف مشترك حتى من دون التنسيق المباشر فيما بينها. وتشكل الجماعات الراديكالية المحلية والمنظمات والأفراد، شبكة عابرة للحدود الوطنية... وهذه الأجزاء المكونة للحركة ليست منظمة بنحوٍ هرمي، غير أنها تتفاعل باستمرار بطرق معقدة، وفي نفس الوقت باعتبارها وحدة كاملة تشكل مصدراً أساسياً لقوة الجماعات الأساسية التي صنّفتها الولايات المتحدة جماعات معادية وهي: تنظيما «القاعدة» و«داعش»؛ ومن هنا يجب على الولايات المتحدة توسيع تعريفها للعدو ليشمل هذه القاعدة.
وبالنسبة إلى الخاصية الثالثة، فإنها تتجلى في قدرتها الفائقة على استغلال الأوضاع المحلية، المتسمة بالاضطراب والنزاعات السياسية والطائفية؛ فالتجربة العملية لهذه التنظيمات أكسبتها خبرة كبيرة على مستوى صناعة أنوية شبكية محلية، مع دفعها بشكل سريع نحو الانتشار واستقطاب الطاقات المحلية.
وهنا تضرب الباحثة زيمرمان، مثال ليبيا، لتفسير حيوية الجماعات الإرهابية وخبرتها في استغلال الأوضاع المحلية للتشبيك مع المنظمات الإرهابية العالمية. ففرع «داعش» بليبيا، ظهر بشكل قوي في الحرب الأهلية التي تعيشها البلاد؛ فقد كانت ولادة هذا الفرع الداعشي الليبي «عن طريق كسب ولاء عدد محدود لقليل من القادة المتعصبين الرئيسيين، واستقطاب الشبكة المحلية الموجودة، وهكذا تحولت لفرع خارجي لـ(داعش)».
تفيدنا التجربة التاريخية للصراع مع الإرهاب، أن تنظيماته وشبكاته مرنة، وتتمتع بدينامية في الحركة والتجنيد؛ كما تتمتع بحس استراتيجي، يمنحها حركية ونشاطاً في مناطق التوتر والنزاعات، فهي تستغل القاعدة الفكرية التي تقوم عليها الراديكالية الدينية، لتسهيل نقل الموارد عبر المناطق التي تعرف الصراعات المحلية. وتذهب الخبيرة في مؤسسة المشروع الأميركي، إلى أن الأهم من ذلك، الاستعداد الطبيعي للجماعات الإرهابية أن «تكون بؤرة لاستقطاب القادة والمقاتلين الذين يمكن للتنظيم أن يستفيد منهم. كما أن القدرة على إعادة توليد المقاتلين هي قدرة حاسمة يتمتع بها تنظيما (القاعدة) و(داعش)، وهذا يفسر السبب الكامن وراء بقاء كلا التنظيمين نابضاً بالحياة بعد أن قتلت الولايات المتحدة وحلفاؤها الكثير من مقاتليهما وقادتهما».
من ناحية ثانية، يبدو أن التركيز على ما هو محلي، وربطه بالعالمي يولد خليطاً من الجماعات الإرهابية، وبالتالي يتم خلق جماعات عابرة للحدود مرتبطة مع الشبكات المحلية، المثبتة والمنخرطة في الصراعات المحلية؛ وهذا بدوره يؤدي إلى خلق تنظيمات جديدة قد ترفض الرؤية العالمية للتنظيمات الإرهابية الدولية. وينتج عن مسلسل التوالد هذا، تحولٌ في العلاقات البينية بين الجماعات الإرهابية، لتخضع للقطيعة والتواصل. ومع ذلك ترى كاثرين زيمرمان أن «الكثير من التحول وإعادة التحالفات والخلاف بين الجماعات هو أمر تنظيمي أكثر منه آيديولوجياً ومنهجياً، وأن التوترات التنظيمية الناتجة عن الخلافات على المستوى العملياتي والعوامل الشخصية هي بديهية في كل الجماعات البشرية، ولا تدل على انفصال أساسي في الأهداف الشاملة. زد على ذلك أن انسيابية انتقال الأفراد من الأهداف المحلية إلى الأهداف العالمية أمر أصيل في عقيدة الراديكاليين.
وعليه فإن ما يظهر أنه صراع بين «القاعدة» و«داعش»، ليس صراعاً آيديولوجياً؛ بل هو تنافس تنظيمي تلعب الظروف المحلية والعالمية دوراً نسبياً في تطوره سلباً أو إيجاباً، لأن آيديولوجية التنظيمين الإرهابيين هي نفسها مستمدة من مصدر متطرف واحد. وعليه لا بد من اعتماد مؤشر الرؤية العقدية العالمية التي تتبناها التنظيمات الإرهابية؛ وفهم الشروخ والانشقاقات التي تضرب هذه التنظيمات من حين لآخر في إطار الدور الذي تلعبه القيادات المركزية العالمية، التي يسهل الوصول إليها واستهدافها، والقيادات المحلية التي لا تظهر على المسرح الدولي إعلامياً ويصعب الوصول إليها عسكرياً.

الانتصار على الإرهاب
مما تقدم أعلاه، يمكن القول: إن اعتماد الولايات المتحدة الأميركية على المواجهة العسكرية وقتل القيادات، ليس هو طريق النجاح في مسلسل المواجهة الصعبة والمريرة مع الإرهاب. فحسب الخبيرة زيمرمان، فإن الولايات المتحدة الأميركية في مأزق، فهي «من جهة لا تستطيع شق طرق للخروج من هذه الحرب، ومن جهة ثانية، فهي غير قادرة على هزيمة الراديكاليين المتطرفين من خلال مواجهة آيديولوجيتها أو الرسائل التي تبثها من جهة أخرى؛ فالقوى المتطرفة قوية اليوم، بسبب الظروف التي تعيشها الدول الإسلامية، وهذا الوضع يدفع المجتمعات السُّنية إلى قبول المساعدة ممن يقدمها من أجل البقاء. وهذا بدوره يمنح قوة للراديكالية في علاقاتها بالسكان، وستظل الجماعات المتطرفة تستثمر الظروف القائمة حالياً لصالحها».
صحيح أن استخدام القوة العسكرية ضد الجماعات الإرهابية ضروري، وله تأثير قوي؛ لكنه تأثير مؤقت. ذلك أن كاثرين زيمرمان، تؤكد أن «الانتصارات المتحققة بشِقّ الأنفس سرعان ما تتبدد؛ لأن آيديولوجية السلفية المتطرفة توفر مذهباً استراتيجياً للمنظمات على الصعيد العالمي، التي تستمر وراء تدمير أي جماعة، فالتجارب المشتركة في ساحة المعركة، وفي التدريب، وفي الأسر، وأماكن أخرى تعمل على بناء شبكات بشرية تتجاوز العلاقات التنظيمية؛ هذه التجارب بمنزلة مختبرات يقوم فيها المتطرفون بتحسين وسائلهم. إن المرونة العميقة الناجمة عن العقيدة الشاملة للراديكالية، والخبرات المشتركة، والطابع العالمي، هي السبب الكامن وراء استمرار خسارة الولايات المتحدة الحرب على الإرهاب».
بكلمة، وعلى خلاف ما هو سائد، تعتقد زيمرمان أن الولايات المتحدة تخسر الحرب على الإرهاب، رغم ما يبدو من تقدم بيِّن على الأرض. ولذلك فإن أميركا وأوروبا تواجه اليوم مستوى غير مسبوق من الهجمات الإرهابية، التي يقف وراءها «داعش» و«القاعدة»، وهذا مؤشر يُظهر درجة الفشل أمام عدو يستطيع التكيف السريع مع الظروف المحلية والعالمية ويظهر بطرق شبكية في حيز جغرافي مترامي الأطراف. وكل هذا يتطلب من إدارة الرئيس ترمب تغيير الاستراتيجية التقليدية التي انتهجها كل من بوش الابن منذ 2001، وسار عليها أوباما من بعده.
*أستاذ زائر للعلوم السياسية - جامعة محمد الخامس



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.