الانتصار المؤقت على الإرهاب... هل فشلت الحرب على «داعش»؟

قدرة التنظيمات على إعادة توليد المقاتلين تبرز صعوبة المواجهة

أميركا وأوروبا تواجهان اليوم مستوى غير مسبوق من الهجمات الإرهابية التي يقف وراءها «داعش» و«القاعدة»... ضباط شرطة اسكتلنديارد
أميركا وأوروبا تواجهان اليوم مستوى غير مسبوق من الهجمات الإرهابية التي يقف وراءها «داعش» و«القاعدة»... ضباط شرطة اسكتلنديارد
TT

الانتصار المؤقت على الإرهاب... هل فشلت الحرب على «داعش»؟

أميركا وأوروبا تواجهان اليوم مستوى غير مسبوق من الهجمات الإرهابية التي يقف وراءها «داعش» و«القاعدة»... ضباط شرطة اسكتلنديارد
أميركا وأوروبا تواجهان اليوم مستوى غير مسبوق من الهجمات الإرهابية التي يقف وراءها «داعش» و«القاعدة»... ضباط شرطة اسكتلنديارد

جدد رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، يوم 10 أكتوبر (تشرين الأول) 2017، التأكيد على عزم بلاده القضاء على تنظيم «داعش» في بلاده. وجاء هذا التصريح في وقت تراهن فيه كلٌّ من أميركا والسلطة السياسية بالعراق على القضاء النهائي على «داعش» قبل نهاية هذه السنة. وفي هذا السياق، أضاف العبادي أن «القوات المشتركة استطاعت الوصول إلى مناطق لم تصل إليها أي قوة عسكرية منذ سقوط النظام السابق» سنة 2003؛ مما يشكل بالنسبة إليه أحد أبرز المؤشرات على الاندحار الذي يشهده تنظيم البغدادي، على المستويين الجغرافي والبشري. من جهته أكد وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس في زيارته الأخيرة للعراق يوم 22 أغسطس (آب) 2017، أن «أيام التنظيم أصبحت معدودة بكل تأكيد لكنه لم ينتهِ بعد ولن ينتهي في وقت قريب».
الخبيرة كاثرين زيمرمان الباحثة في معهد المشروع الأميركي «AEI» ترى في دراسة مطولة، صدرت لها حديثاً؛ أن الولايات المتحدة الأميركية خاسرة في حربها ضد الإرهاب، وأن تاريخ المواجهة مع تنظيمي «القاعدة» و«داعش» حافل بأخطاء استراتيجية وسوء فهم للعدو الحقيقي، الشيء الذي استغلته الجماعات المتطرفة، التي أصبحت اليوم أقوى، وأكثر خبرة ومرونة.

قوة التنظيمات الإرهابية
رغم مرور نحو 16 سنة من المواجهة المباشرة بين أميركا والتنظيمات الإرهابية، فإن مسيرة الصراع واستراتيجية كل طرف من الأطراف لعبت دوراً حاسماً في تجدد المواجهة واستمرارها منذ 11 سبتمبر (أيلول) 2001. وتشير كاثرين زيمرمان الباحثة في معهد المشروع الأميركي ومديرة الأبحاث في مشروع التهديدات الحرجة؛ إلى مجموعة من العوامل تساعد التنظيمات الإرهابية على الصمود والتوالد، رغم ما تتلقاه من هزائم مؤقتة. وتجمل الخبيرة في التنظيمات الإرهابية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أطروحتها التفسيرية، للانبعاث والصمود الذي يتمتع به كل من «القاعدة» و«داعش»، في 3 خصائص أساسية.
الخاصية الأولى: تتعلق بالخبرة التاريخية للتنظيمات المتطرفة التي استطاعت الخلط بين «الجهاد» والإرهاب (يساعد الإعلام الغربي على استشراء هذا الخلط). ذلك أن أصول هذه الجماعات الإرهابية تعود إلى التجربة الأفغانية التي صقلت هذا النوع من الشبكات العالمية، التي تستغل الجانب المحلي للنزاعات، لتكوين قاعدة، ونشر آيديولوجية دينية قائمة على استعادة نموذج «الخلافة»؛ والتركيز على عقيدة المواجهة مع الغرب باعتباره كافراً ومستعمراً. فهذه التنظيمات اكتسبت خبرة عملياتية، ولها فكر استراتيجي مكّنها في مناسبات عدة من إعادة التجميع دون أن تفقد قاعدتها الآيديولوجية والتنظيمية في أفغانستان. وهكذا كان من السهل عليها أن تظهر في الجزائر وتستمر فيه منذ بداية تسعينات القرن العشرين إلى اليوم؛ كما ظهرت في البوسنة، وطاجيكستان، والصومال، ومصر، والشيشان، وسوريا، والعراق، وليبيا، ومالي، والنيجر ونيجيريا وغيرها.
الخاصية الثانية: تخص وحدة الأهداف، والآيديولوجيا المتشابهة؛ وهذه الميزة تمكّن التنظيمات الإرهابية من تحقيق أهداف عامة مشتركة، حتى من دون وجود تنسيق تنظيمي، أو وحدة هيكلية. ربما هذا ما دفع زيمرمان، إلى التنبيه إلى الطابع الشبكي للجماعات الإرهابية، بالقول: «(الراديكالية الإسلاموية) تهدد الولايات المتحدة والغرب والمجتمعات الإسلامية؛ فهي ليست جماعة محددة أو أفراداً منظمين، وإنما تستمد قوتها من آيديولوجيتها المساعدة على توحيد شبكة الأفراد والجماعات والمنظمات الساعية لتحقيق الهدف العالمي المشترك الخاص بتدمير المجتمعات الإسلامية الحالية بالقتال، وإحلال المجتمع الإسلامي الحقيقي مكانها».
ومن هنا تعتقد الباحثة الأميركية، أن القضاء على التنظيمات الإرهابية مثل «القاعدة» و«داعش»، لا يعني نهاية وشيكة للظاهرة؛ وذلك لأن عنصر القوة لا يتمثل في القيادات مثل ابن لادن، أو أبي مصعب الزرقاوي أو البغدادي، كما أن سبب التكوين واستمرارية التنظيم، عبر تشكلات مختلفة، لا تعتبر في ذاتها مكمن قوة الإرهابيين.
إن عنصر القوة الأساس هو القاعدة الفكرية (للراديكالية الإسلاموية)، التي تتميز بشبكيتها وانتشارها الواسع، مما ينتج الجماعات الإرهابية بشكل سلس. وتستمد هذه الحركة قوتها من آيديولوجيتها العنيفة التي تدفع مختلف الجماعات والمنظمات إلى تحقيق هدف مشترك حتى من دون التنسيق المباشر فيما بينها. وتشكل الجماعات الراديكالية المحلية والمنظمات والأفراد، شبكة عابرة للحدود الوطنية... وهذه الأجزاء المكونة للحركة ليست منظمة بنحوٍ هرمي، غير أنها تتفاعل باستمرار بطرق معقدة، وفي نفس الوقت باعتبارها وحدة كاملة تشكل مصدراً أساسياً لقوة الجماعات الأساسية التي صنّفتها الولايات المتحدة جماعات معادية وهي: تنظيما «القاعدة» و«داعش»؛ ومن هنا يجب على الولايات المتحدة توسيع تعريفها للعدو ليشمل هذه القاعدة.
وبالنسبة إلى الخاصية الثالثة، فإنها تتجلى في قدرتها الفائقة على استغلال الأوضاع المحلية، المتسمة بالاضطراب والنزاعات السياسية والطائفية؛ فالتجربة العملية لهذه التنظيمات أكسبتها خبرة كبيرة على مستوى صناعة أنوية شبكية محلية، مع دفعها بشكل سريع نحو الانتشار واستقطاب الطاقات المحلية.
وهنا تضرب الباحثة زيمرمان، مثال ليبيا، لتفسير حيوية الجماعات الإرهابية وخبرتها في استغلال الأوضاع المحلية للتشبيك مع المنظمات الإرهابية العالمية. ففرع «داعش» بليبيا، ظهر بشكل قوي في الحرب الأهلية التي تعيشها البلاد؛ فقد كانت ولادة هذا الفرع الداعشي الليبي «عن طريق كسب ولاء عدد محدود لقليل من القادة المتعصبين الرئيسيين، واستقطاب الشبكة المحلية الموجودة، وهكذا تحولت لفرع خارجي لـ(داعش)».
تفيدنا التجربة التاريخية للصراع مع الإرهاب، أن تنظيماته وشبكاته مرنة، وتتمتع بدينامية في الحركة والتجنيد؛ كما تتمتع بحس استراتيجي، يمنحها حركية ونشاطاً في مناطق التوتر والنزاعات، فهي تستغل القاعدة الفكرية التي تقوم عليها الراديكالية الدينية، لتسهيل نقل الموارد عبر المناطق التي تعرف الصراعات المحلية. وتذهب الخبيرة في مؤسسة المشروع الأميركي، إلى أن الأهم من ذلك، الاستعداد الطبيعي للجماعات الإرهابية أن «تكون بؤرة لاستقطاب القادة والمقاتلين الذين يمكن للتنظيم أن يستفيد منهم. كما أن القدرة على إعادة توليد المقاتلين هي قدرة حاسمة يتمتع بها تنظيما (القاعدة) و(داعش)، وهذا يفسر السبب الكامن وراء بقاء كلا التنظيمين نابضاً بالحياة بعد أن قتلت الولايات المتحدة وحلفاؤها الكثير من مقاتليهما وقادتهما».
من ناحية ثانية، يبدو أن التركيز على ما هو محلي، وربطه بالعالمي يولد خليطاً من الجماعات الإرهابية، وبالتالي يتم خلق جماعات عابرة للحدود مرتبطة مع الشبكات المحلية، المثبتة والمنخرطة في الصراعات المحلية؛ وهذا بدوره يؤدي إلى خلق تنظيمات جديدة قد ترفض الرؤية العالمية للتنظيمات الإرهابية الدولية. وينتج عن مسلسل التوالد هذا، تحولٌ في العلاقات البينية بين الجماعات الإرهابية، لتخضع للقطيعة والتواصل. ومع ذلك ترى كاثرين زيمرمان أن «الكثير من التحول وإعادة التحالفات والخلاف بين الجماعات هو أمر تنظيمي أكثر منه آيديولوجياً ومنهجياً، وأن التوترات التنظيمية الناتجة عن الخلافات على المستوى العملياتي والعوامل الشخصية هي بديهية في كل الجماعات البشرية، ولا تدل على انفصال أساسي في الأهداف الشاملة. زد على ذلك أن انسيابية انتقال الأفراد من الأهداف المحلية إلى الأهداف العالمية أمر أصيل في عقيدة الراديكاليين.
وعليه فإن ما يظهر أنه صراع بين «القاعدة» و«داعش»، ليس صراعاً آيديولوجياً؛ بل هو تنافس تنظيمي تلعب الظروف المحلية والعالمية دوراً نسبياً في تطوره سلباً أو إيجاباً، لأن آيديولوجية التنظيمين الإرهابيين هي نفسها مستمدة من مصدر متطرف واحد. وعليه لا بد من اعتماد مؤشر الرؤية العقدية العالمية التي تتبناها التنظيمات الإرهابية؛ وفهم الشروخ والانشقاقات التي تضرب هذه التنظيمات من حين لآخر في إطار الدور الذي تلعبه القيادات المركزية العالمية، التي يسهل الوصول إليها واستهدافها، والقيادات المحلية التي لا تظهر على المسرح الدولي إعلامياً ويصعب الوصول إليها عسكرياً.

الانتصار على الإرهاب
مما تقدم أعلاه، يمكن القول: إن اعتماد الولايات المتحدة الأميركية على المواجهة العسكرية وقتل القيادات، ليس هو طريق النجاح في مسلسل المواجهة الصعبة والمريرة مع الإرهاب. فحسب الخبيرة زيمرمان، فإن الولايات المتحدة الأميركية في مأزق، فهي «من جهة لا تستطيع شق طرق للخروج من هذه الحرب، ومن جهة ثانية، فهي غير قادرة على هزيمة الراديكاليين المتطرفين من خلال مواجهة آيديولوجيتها أو الرسائل التي تبثها من جهة أخرى؛ فالقوى المتطرفة قوية اليوم، بسبب الظروف التي تعيشها الدول الإسلامية، وهذا الوضع يدفع المجتمعات السُّنية إلى قبول المساعدة ممن يقدمها من أجل البقاء. وهذا بدوره يمنح قوة للراديكالية في علاقاتها بالسكان، وستظل الجماعات المتطرفة تستثمر الظروف القائمة حالياً لصالحها».
صحيح أن استخدام القوة العسكرية ضد الجماعات الإرهابية ضروري، وله تأثير قوي؛ لكنه تأثير مؤقت. ذلك أن كاثرين زيمرمان، تؤكد أن «الانتصارات المتحققة بشِقّ الأنفس سرعان ما تتبدد؛ لأن آيديولوجية السلفية المتطرفة توفر مذهباً استراتيجياً للمنظمات على الصعيد العالمي، التي تستمر وراء تدمير أي جماعة، فالتجارب المشتركة في ساحة المعركة، وفي التدريب، وفي الأسر، وأماكن أخرى تعمل على بناء شبكات بشرية تتجاوز العلاقات التنظيمية؛ هذه التجارب بمنزلة مختبرات يقوم فيها المتطرفون بتحسين وسائلهم. إن المرونة العميقة الناجمة عن العقيدة الشاملة للراديكالية، والخبرات المشتركة، والطابع العالمي، هي السبب الكامن وراء استمرار خسارة الولايات المتحدة الحرب على الإرهاب».
بكلمة، وعلى خلاف ما هو سائد، تعتقد زيمرمان أن الولايات المتحدة تخسر الحرب على الإرهاب، رغم ما يبدو من تقدم بيِّن على الأرض. ولذلك فإن أميركا وأوروبا تواجه اليوم مستوى غير مسبوق من الهجمات الإرهابية، التي يقف وراءها «داعش» و«القاعدة»، وهذا مؤشر يُظهر درجة الفشل أمام عدو يستطيع التكيف السريع مع الظروف المحلية والعالمية ويظهر بطرق شبكية في حيز جغرافي مترامي الأطراف. وكل هذا يتطلب من إدارة الرئيس ترمب تغيير الاستراتيجية التقليدية التي انتهجها كل من بوش الابن منذ 2001، وسار عليها أوباما من بعده.
*أستاذ زائر للعلوم السياسية - جامعة محمد الخامس



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.