من سيد قطب إلى الحازمي... منزلقات التأصيل الأصولي

قراءة في آيديولوجيات التطرف العنيف

اعتقال عناصر خلية من «داعش» في ضواحي مدريد في يوليو الماضي  (إ.ب.أ)
اعتقال عناصر خلية من «داعش» في ضواحي مدريد في يوليو الماضي (إ.ب.أ)
TT

من سيد قطب إلى الحازمي... منزلقات التأصيل الأصولي

اعتقال عناصر خلية من «داعش» في ضواحي مدريد في يوليو الماضي  (إ.ب.أ)
اعتقال عناصر خلية من «داعش» في ضواحي مدريد في يوليو الماضي (إ.ب.أ)

تبدو الأصوليات وآيديولوجيات التطرف العنيف تأويلات خارجة عن المستقر في وعي الأطر والمؤسسات القومية والدينية وما استقر من تراكم تاريخي وزمني في وعي الناس من حالات الصدام والتغالب في علاقتها بذاتها والعالم... لذا فهو غالباً يقطع شعورياً أو لا شعورياً مع التراث والتاريخ السالف وإن ظل جزءاً من هويته أو دعوته في الحق والعدل يرتكز عليه ويستنفر به
قطع الخوارج الأُول مع مقام وتراث وفهم الصحابة والصدر الأول الذين عاصروهم، وتجرأوا على تكفير كبارهم وهم بين ظهرانيهم لم يرحلوا بعد. وكذلك غالوا في مشادتهم في فهم الدين والإمامة حتى آمنوا بقتل المختلف والقاعد ومن لم يكفّر الكافر ولو كان عثمان وعلي بن أبي طالب (رضى الله عنهما) أو صحابياً مثل عبد الله بن خباب بن الأرت. وهم يأخذون بظاهر الآيات لغايتهم، بقطعٍ دون وصل، وطرحٍ دون جمع. وظلت متتابعة غلوهم تُخرج الأشد من الأقل شدة، حتى أكل بعضها بعضاً ولم يبقَ في التاريخ والواقع إلا أكثرها اعتدالاً.
بيد أن هؤلاء تميّزوا في اللغة وبقي أدبهم وشعرهم أمكن من فكرهم، كما كثر أدباؤهم، رجالاً ونساءً، وخلّدوا بطولاتهم في ديوانه، من عبد الرحمن بن ملجم إلى عمران بن حطّان إلى مرداس بن أدية وغيرهم.
هنا تبدو اللغة ملاذاً ومنزلقاً خطيراً لكل كلامية خارجة تأتي بسابقة، وخارجية لم تسبق إليها، فهي تحصر الفهم في النص مباشرة، منه وإليه، وتمارس عليه التأويل الذي قد ينحرف مخالفاً ما استقر في قواعد الدين وتراثه وتجربته.
كذلك، انزلقت فرق الغلو الأخرى قديماً وحديثاً، بإرادتها الآيديولوجية المسبقة في فهم النص وتطويعه وفق ما تريد، في التكفير أو الخروج أو الاستحلال أو غيرها، تيهاً باطنياً يصطنع له عمقاً ومنطلقات مختلفة حيناً، وحشوية ظاهرية تقف عند ظاهره دون ربط ودون سياقات مرة أخرى. والنص مفتوح حمّال أوجه، كما كان يقول الإمام علي (رضى الله عنه)، فيخرج الخبط عن الضبط غالباً، وينحت المؤول الأصل فرعاً والفرع أصلاً، ويصير التاريخ -كخلاف الإمامة- والمعتقد الصحيح حكراً على التصور الخطأ.

مأزق اللغة والقطيعة
إن المطالع المدقق لكتابات الراحل سيد قطب في مرحلتيه: الناقد الأدبي والمنظر الأصولي، لن يجد إلا كاتباً واحداً كان أديباً وناقداً، تعاطى مع النص بنظرته الحرة الخاصة، ثم انطلق كالناقد يكتب رؤيته الجديدة للنص بالمنهج الذي يراه. وتميُّزه سبقه في الاكتشاف والتحليل والنقد، فالإبداع والنقد في الأدب يستدعيان الخيال المفتوح. ولكنه ليس في الدين كذلك، بل يحتاج إلى الضبط احتكاماً إلى مرجعيات النص وتأصيلاته السابقة، دون قطع كامل معها، مكتفياً بنتف مقتطفات من هنا أو هناك تلتقي مع ما يريد ومقولاته الحاكمة وليس ما يريده النص واستقر عليه الفهم فيه. بل ظن -وكذلك المودودي- بما يمكن أن نسميه مصطلحية وأبجدية جديدة في فهم الدين، وبخاصة في كتاب الأخير «المصطلحات الأربعة»، أو كتابَي الأول: «هذا الدين»، و«خصائص التصور الإسلامي»، بهدف التأسيس لتفسيرهما المسيَّس للإسلام، الذي لم يتصوره وأتباعهما، إلا إمامة وحاكمية وحرباً بين فسطاطين، وانقلاباً على الحكومات وتطهيراً للصف لا يستقر معه عيش ولا مقرّ.
وهذا التفسير السياسي استقر يلهم مجموعات التطرف في مصر والعالم الإسلامي، عقوداً طويلة، رغم ما وُجه إليه من نقد من كثيرين ممن لم يدركوا هذه المخاطر في بدايتها، مثل الراحل أبو الحسن الندوي في كتابه المشهور «التفسير السياسي في الإسلام: في مرآة كتابات المودودي وسيد قطب». ولقد أقره المودودي نفسه على الأخطاء فيه في حياته وقبل رحيله، بينما كان سيد قطب قد رحل، كما يذكر الندوي في مقدمته.
تغيب، عند سيد قطب بالخصوص، كونه ناقداً أدبياً وشاعراً مقلاً، مراجع وتراث السلف. وقد أثبتنا في موضع آخر أنه لم يكن له اطلاع على كتابات ابن تيمية أو ابن القيم، أو غيرهما، بل لا نبالغ إذا قلنا إنه ليس له اطلاع جيد على دعوات كدعوة وكتابات الدعوة النجدية، أو كتابات الأفغاني وعبده ومحمد رشيد رضا. وكان الرجل مدفوعاً كل الدفع بالحاكمية والإصرار الثائر على تغيير الأوضاع والانقلاب عليها، تأثراً بموجات التغيير في العالم، واستفادةً من أفكار اليسار وضداً له في الآن نفسه.

«الفريضة الغائبة»... وضعف التأصيل
هذه الغيبة للتأصيل تتكشف من مطالعة دقيقة لكتابات مجموعات «الجهاد» المصري الأولى، إذ نجد ضعف التوثيق، وضعف الارتباط بالتراث. وإذا أردنا أن نضرب مثالاً لن نجد أفضل من نصٍّ مؤسسٍ لها هو «الفريضة الغائبة» لمحمد عبد السلام فرج، على أساسه قتل الرئيس الراحل محمد أنور السادات. ولكن حين العودة إليه لن نجد إلا هامشاً على فتوى أهل ماردين لابن تيمية -رحمه الله- نقلها خطأ، ثم أسقط على هذا الأساس، واكتفى بتأويل الدار وفق ذلك على الدولة المعاصرة وصحة توجهاته. ولن نجد فروقاً كثيرة في كتابات أخرى كـ«حتمية المواجهة» الذي أصدرته «الجماعة الإسلامية المصرية»، أو «كلمة حق» لعمر عبد الرحمن، أو غيرها، إذ قطع كثيرون من منظري التطرف العنيف والغلو المعاصر مع ما استقر في تراث السلف وأهل السنة والجماعة، من عدم الخروج أو التورّع عن التكفير -وبخاصة تكفير المعيّن وعدم العذر بالجهل أو التأويل، وغيرها من المسائل الشائكة التي توقفوا فيها وكتبوا في ذلك الكثير- من مقالات الإسلاميين إلى المِلل والنِّحَل والفصل وغير ذلك. ولم يشتهر عن أحد منهم تكفيرٌ على الإمامة أو الحكم أو تكفير معين في تأويل.
كذلك نجد هذه الحالة من خديعة اللغة والتأويل حاضرة عند منظّر معاصر برز أتباع له في الساحة الشامية العامين الأخيرين، وهو أحمد بن على الحازمي، المعتقَل حالياً في المملكة العربية السعودية. هذا الرجل دخل ميدان التنظير الأصولي من باب اللغة والأدب، وولع خاص بها، فوضع الشروح لألفية ابن مالك وألفية السيوطي في النحو، وشرح ألفية أخرى له في علم الحديث، وكذلك شرح نظم الشافية للنيسابوري في الصرف، وغيرها من الكتب الشارحة التي تهتم باللغة والنحو والصرف وما شابه.
لكن، يلاحظ من يطالع كتابات ودروس أحمد بن عمر الحازمي -زعيم وملهم التيار الحازمي، الجناح المغالي في «دا»- ومن تبعه من قبيل أبو جعفر الحطاب وأبو عبد الله التونسي من زعماء الحازمية وغيرهما، الاكتفاء باللغة والبيان. وعدم الانطلاق مما استقر في علوم التوحيد، بل مخالفة أعلامه إذا ذُكروا، أو تطويعهم لما يريد. هناك اكتفاء بظاهر اللغة في تفسير أحكام خطيرة، مصراً على تكفير من لم يكفِّر الكافر، وهو لا يعرف للتوحيد مدخلاً إلا من بابٍ ضده الكفر، وأن الثاني هو الأصل في الناس وليس الأول.
ثم إنه يضع قاعدة أن كل فعل يستلزم وصفه، مما يورط في التكفير بالمعصية! حال قبل هذا، فضلاً عن التكفير كما فعل الخوارج. ونجد مثالاً على ذلك، في مسألة العذر بالجهل وعدم العذر به التي لم يلامسها قطب، الذي لم يهتم بالفقه والأصول وأحكامهما كثيراً، مكتفياً بالبيان والبلاغة من علوم المقدمات، ولكن كان يكتفي بها مصدراً أحكامه ونحت مصطلحاته في فهم «هذا الدين» وفي التأسيس لـ«الحاكمية»، واقتطف ما يلتقي مع هذا التأويل، بغض النظر عن صحته. ويعلن الحازمي في مرحلته الثانية التي اتضحت فيها توجهاته التكفيرية مخالفته لأسماء وآراء ابن تيمية -رحمه الله- الذي كان يؤكد دائماً عدم تكفير المعيّن، وعدم تكفيره أحداً من أهل القبلة، وظل يعلن ذلك ويشهد عليه حتى مات.
إن هدف أو شهوة «التكفير والتطهير» الذي تأسست عليه قضية عدم العذر به عند الحازمي، يوافق فيه الشوقيين الذين انقلبوا وانشقوا على «الجماعة الإسلامية المصرية» في ثمانينات القرن الماضي، واتخذوا من قرية كحك بمحافظة الفيوم المصرية مقراً لهم. ولقد كفّر زعيمهم شوقي مصطفى الراحل عمر عبد الرحمن قولاً واحداً في المسجد، وأمام العامة، لعدم قوله بتكفير من لم يكفِّر الكافر.
وكان هذا جزءا من إشارات وآراء عبد القادر بن عبد العزيز في مرحلته الأولى قبل مراجعاته. إذ أكد عدم العذر بالجهل. وبارز ابن تيمية معارضاً ومخطِّئاً له، ورأى أن ابن تيمية وغيره من أئمة السلف أخطأوا في عذرهم بالجهل. وعذره هو والحازمي وغيره أنهم ليسوا مثلهم تمتلكهم شهوة التكفير والتطهير والتصفية التي امتلكتهم، كما أن العذر بالجهل بل العذر بالخطأ الكبير حال التوبة عنه، ثابت بنص القرآن في قصة الأسباط المشهورة وقصة الثلاثة الذين خُلِّفوا، كما ثبتت في الكثير من أحاديث السنة النبوية الشريفة.
وهنا، يبدو التأويل والذرائعية، ومشكلة الهوية المعرفية المضببة والغائمة لمجموعات التطرف العنيف، سُنةً وإماميةً وخوارج، والبراغماتية التي تتجاوز الثابت. فهم «طالبانيون» يلقبون أميرها بـ«خليفة المسلمين»، لكن بعضهم يرفض إمامة محمد الفاتح كونه فقط حنفياً ماتريدياً!
ورغم أنها جماعات، لكن تشظت اجتهاداتها الفردية، فعارض الزرقاوي شيخه المقدسي، في إصراره على القتل على الطائفة واللون وما شابه، كما كفر دواعش شيوخهم الظواهري وابن لادن وصولاً لبنعلي والبغدادي نفسه.
وتعتمد هذه الشظايا الفردية على تأويل لغوي منحرف منقطع عن أصوله، وعلى قطف من التاريخ حيناً ومن التراث أحياناً، وتظل شماعة الواقع المنبوذ ومؤامراته منطلقه وغايته، دون اعتماد تراث كبير وتاريخ متراكم في فهمه، شُروداً عن التأسيس والمؤسسة في آن، وبناءً في فراغ جديد بعيداً عنهما.



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».