من سيد قطب إلى الحازمي... منزلقات التأصيل الأصولي

قراءة في آيديولوجيات التطرف العنيف

اعتقال عناصر خلية من «داعش» في ضواحي مدريد في يوليو الماضي  (إ.ب.أ)
اعتقال عناصر خلية من «داعش» في ضواحي مدريد في يوليو الماضي (إ.ب.أ)
TT

من سيد قطب إلى الحازمي... منزلقات التأصيل الأصولي

اعتقال عناصر خلية من «داعش» في ضواحي مدريد في يوليو الماضي  (إ.ب.أ)
اعتقال عناصر خلية من «داعش» في ضواحي مدريد في يوليو الماضي (إ.ب.أ)

تبدو الأصوليات وآيديولوجيات التطرف العنيف تأويلات خارجة عن المستقر في وعي الأطر والمؤسسات القومية والدينية وما استقر من تراكم تاريخي وزمني في وعي الناس من حالات الصدام والتغالب في علاقتها بذاتها والعالم... لذا فهو غالباً يقطع شعورياً أو لا شعورياً مع التراث والتاريخ السالف وإن ظل جزءاً من هويته أو دعوته في الحق والعدل يرتكز عليه ويستنفر به
قطع الخوارج الأُول مع مقام وتراث وفهم الصحابة والصدر الأول الذين عاصروهم، وتجرأوا على تكفير كبارهم وهم بين ظهرانيهم لم يرحلوا بعد. وكذلك غالوا في مشادتهم في فهم الدين والإمامة حتى آمنوا بقتل المختلف والقاعد ومن لم يكفّر الكافر ولو كان عثمان وعلي بن أبي طالب (رضى الله عنهما) أو صحابياً مثل عبد الله بن خباب بن الأرت. وهم يأخذون بظاهر الآيات لغايتهم، بقطعٍ دون وصل، وطرحٍ دون جمع. وظلت متتابعة غلوهم تُخرج الأشد من الأقل شدة، حتى أكل بعضها بعضاً ولم يبقَ في التاريخ والواقع إلا أكثرها اعتدالاً.
بيد أن هؤلاء تميّزوا في اللغة وبقي أدبهم وشعرهم أمكن من فكرهم، كما كثر أدباؤهم، رجالاً ونساءً، وخلّدوا بطولاتهم في ديوانه، من عبد الرحمن بن ملجم إلى عمران بن حطّان إلى مرداس بن أدية وغيرهم.
هنا تبدو اللغة ملاذاً ومنزلقاً خطيراً لكل كلامية خارجة تأتي بسابقة، وخارجية لم تسبق إليها، فهي تحصر الفهم في النص مباشرة، منه وإليه، وتمارس عليه التأويل الذي قد ينحرف مخالفاً ما استقر في قواعد الدين وتراثه وتجربته.
كذلك، انزلقت فرق الغلو الأخرى قديماً وحديثاً، بإرادتها الآيديولوجية المسبقة في فهم النص وتطويعه وفق ما تريد، في التكفير أو الخروج أو الاستحلال أو غيرها، تيهاً باطنياً يصطنع له عمقاً ومنطلقات مختلفة حيناً، وحشوية ظاهرية تقف عند ظاهره دون ربط ودون سياقات مرة أخرى. والنص مفتوح حمّال أوجه، كما كان يقول الإمام علي (رضى الله عنه)، فيخرج الخبط عن الضبط غالباً، وينحت المؤول الأصل فرعاً والفرع أصلاً، ويصير التاريخ -كخلاف الإمامة- والمعتقد الصحيح حكراً على التصور الخطأ.

مأزق اللغة والقطيعة
إن المطالع المدقق لكتابات الراحل سيد قطب في مرحلتيه: الناقد الأدبي والمنظر الأصولي، لن يجد إلا كاتباً واحداً كان أديباً وناقداً، تعاطى مع النص بنظرته الحرة الخاصة، ثم انطلق كالناقد يكتب رؤيته الجديدة للنص بالمنهج الذي يراه. وتميُّزه سبقه في الاكتشاف والتحليل والنقد، فالإبداع والنقد في الأدب يستدعيان الخيال المفتوح. ولكنه ليس في الدين كذلك، بل يحتاج إلى الضبط احتكاماً إلى مرجعيات النص وتأصيلاته السابقة، دون قطع كامل معها، مكتفياً بنتف مقتطفات من هنا أو هناك تلتقي مع ما يريد ومقولاته الحاكمة وليس ما يريده النص واستقر عليه الفهم فيه. بل ظن -وكذلك المودودي- بما يمكن أن نسميه مصطلحية وأبجدية جديدة في فهم الدين، وبخاصة في كتاب الأخير «المصطلحات الأربعة»، أو كتابَي الأول: «هذا الدين»، و«خصائص التصور الإسلامي»، بهدف التأسيس لتفسيرهما المسيَّس للإسلام، الذي لم يتصوره وأتباعهما، إلا إمامة وحاكمية وحرباً بين فسطاطين، وانقلاباً على الحكومات وتطهيراً للصف لا يستقر معه عيش ولا مقرّ.
وهذا التفسير السياسي استقر يلهم مجموعات التطرف في مصر والعالم الإسلامي، عقوداً طويلة، رغم ما وُجه إليه من نقد من كثيرين ممن لم يدركوا هذه المخاطر في بدايتها، مثل الراحل أبو الحسن الندوي في كتابه المشهور «التفسير السياسي في الإسلام: في مرآة كتابات المودودي وسيد قطب». ولقد أقره المودودي نفسه على الأخطاء فيه في حياته وقبل رحيله، بينما كان سيد قطب قد رحل، كما يذكر الندوي في مقدمته.
تغيب، عند سيد قطب بالخصوص، كونه ناقداً أدبياً وشاعراً مقلاً، مراجع وتراث السلف. وقد أثبتنا في موضع آخر أنه لم يكن له اطلاع على كتابات ابن تيمية أو ابن القيم، أو غيرهما، بل لا نبالغ إذا قلنا إنه ليس له اطلاع جيد على دعوات كدعوة وكتابات الدعوة النجدية، أو كتابات الأفغاني وعبده ومحمد رشيد رضا. وكان الرجل مدفوعاً كل الدفع بالحاكمية والإصرار الثائر على تغيير الأوضاع والانقلاب عليها، تأثراً بموجات التغيير في العالم، واستفادةً من أفكار اليسار وضداً له في الآن نفسه.

«الفريضة الغائبة»... وضعف التأصيل
هذه الغيبة للتأصيل تتكشف من مطالعة دقيقة لكتابات مجموعات «الجهاد» المصري الأولى، إذ نجد ضعف التوثيق، وضعف الارتباط بالتراث. وإذا أردنا أن نضرب مثالاً لن نجد أفضل من نصٍّ مؤسسٍ لها هو «الفريضة الغائبة» لمحمد عبد السلام فرج، على أساسه قتل الرئيس الراحل محمد أنور السادات. ولكن حين العودة إليه لن نجد إلا هامشاً على فتوى أهل ماردين لابن تيمية -رحمه الله- نقلها خطأ، ثم أسقط على هذا الأساس، واكتفى بتأويل الدار وفق ذلك على الدولة المعاصرة وصحة توجهاته. ولن نجد فروقاً كثيرة في كتابات أخرى كـ«حتمية المواجهة» الذي أصدرته «الجماعة الإسلامية المصرية»، أو «كلمة حق» لعمر عبد الرحمن، أو غيرها، إذ قطع كثيرون من منظري التطرف العنيف والغلو المعاصر مع ما استقر في تراث السلف وأهل السنة والجماعة، من عدم الخروج أو التورّع عن التكفير -وبخاصة تكفير المعيّن وعدم العذر بالجهل أو التأويل، وغيرها من المسائل الشائكة التي توقفوا فيها وكتبوا في ذلك الكثير- من مقالات الإسلاميين إلى المِلل والنِّحَل والفصل وغير ذلك. ولم يشتهر عن أحد منهم تكفيرٌ على الإمامة أو الحكم أو تكفير معين في تأويل.
كذلك نجد هذه الحالة من خديعة اللغة والتأويل حاضرة عند منظّر معاصر برز أتباع له في الساحة الشامية العامين الأخيرين، وهو أحمد بن على الحازمي، المعتقَل حالياً في المملكة العربية السعودية. هذا الرجل دخل ميدان التنظير الأصولي من باب اللغة والأدب، وولع خاص بها، فوضع الشروح لألفية ابن مالك وألفية السيوطي في النحو، وشرح ألفية أخرى له في علم الحديث، وكذلك شرح نظم الشافية للنيسابوري في الصرف، وغيرها من الكتب الشارحة التي تهتم باللغة والنحو والصرف وما شابه.
لكن، يلاحظ من يطالع كتابات ودروس أحمد بن عمر الحازمي -زعيم وملهم التيار الحازمي، الجناح المغالي في «دا»- ومن تبعه من قبيل أبو جعفر الحطاب وأبو عبد الله التونسي من زعماء الحازمية وغيرهما، الاكتفاء باللغة والبيان. وعدم الانطلاق مما استقر في علوم التوحيد، بل مخالفة أعلامه إذا ذُكروا، أو تطويعهم لما يريد. هناك اكتفاء بظاهر اللغة في تفسير أحكام خطيرة، مصراً على تكفير من لم يكفِّر الكافر، وهو لا يعرف للتوحيد مدخلاً إلا من بابٍ ضده الكفر، وأن الثاني هو الأصل في الناس وليس الأول.
ثم إنه يضع قاعدة أن كل فعل يستلزم وصفه، مما يورط في التكفير بالمعصية! حال قبل هذا، فضلاً عن التكفير كما فعل الخوارج. ونجد مثالاً على ذلك، في مسألة العذر بالجهل وعدم العذر به التي لم يلامسها قطب، الذي لم يهتم بالفقه والأصول وأحكامهما كثيراً، مكتفياً بالبيان والبلاغة من علوم المقدمات، ولكن كان يكتفي بها مصدراً أحكامه ونحت مصطلحاته في فهم «هذا الدين» وفي التأسيس لـ«الحاكمية»، واقتطف ما يلتقي مع هذا التأويل، بغض النظر عن صحته. ويعلن الحازمي في مرحلته الثانية التي اتضحت فيها توجهاته التكفيرية مخالفته لأسماء وآراء ابن تيمية -رحمه الله- الذي كان يؤكد دائماً عدم تكفير المعيّن، وعدم تكفيره أحداً من أهل القبلة، وظل يعلن ذلك ويشهد عليه حتى مات.
إن هدف أو شهوة «التكفير والتطهير» الذي تأسست عليه قضية عدم العذر به عند الحازمي، يوافق فيه الشوقيين الذين انقلبوا وانشقوا على «الجماعة الإسلامية المصرية» في ثمانينات القرن الماضي، واتخذوا من قرية كحك بمحافظة الفيوم المصرية مقراً لهم. ولقد كفّر زعيمهم شوقي مصطفى الراحل عمر عبد الرحمن قولاً واحداً في المسجد، وأمام العامة، لعدم قوله بتكفير من لم يكفِّر الكافر.
وكان هذا جزءا من إشارات وآراء عبد القادر بن عبد العزيز في مرحلته الأولى قبل مراجعاته. إذ أكد عدم العذر بالجهل. وبارز ابن تيمية معارضاً ومخطِّئاً له، ورأى أن ابن تيمية وغيره من أئمة السلف أخطأوا في عذرهم بالجهل. وعذره هو والحازمي وغيره أنهم ليسوا مثلهم تمتلكهم شهوة التكفير والتطهير والتصفية التي امتلكتهم، كما أن العذر بالجهل بل العذر بالخطأ الكبير حال التوبة عنه، ثابت بنص القرآن في قصة الأسباط المشهورة وقصة الثلاثة الذين خُلِّفوا، كما ثبتت في الكثير من أحاديث السنة النبوية الشريفة.
وهنا، يبدو التأويل والذرائعية، ومشكلة الهوية المعرفية المضببة والغائمة لمجموعات التطرف العنيف، سُنةً وإماميةً وخوارج، والبراغماتية التي تتجاوز الثابت. فهم «طالبانيون» يلقبون أميرها بـ«خليفة المسلمين»، لكن بعضهم يرفض إمامة محمد الفاتح كونه فقط حنفياً ماتريدياً!
ورغم أنها جماعات، لكن تشظت اجتهاداتها الفردية، فعارض الزرقاوي شيخه المقدسي، في إصراره على القتل على الطائفة واللون وما شابه، كما كفر دواعش شيوخهم الظواهري وابن لادن وصولاً لبنعلي والبغدادي نفسه.
وتعتمد هذه الشظايا الفردية على تأويل لغوي منحرف منقطع عن أصوله، وعلى قطف من التاريخ حيناً ومن التراث أحياناً، وتظل شماعة الواقع المنبوذ ومؤامراته منطلقه وغايته، دون اعتماد تراث كبير وتاريخ متراكم في فهمه، شُروداً عن التأسيس والمؤسسة في آن، وبناءً في فراغ جديد بعيداً عنهما.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.