الأرجنتين تصوت على سياسات ماكريز الاقتصادية

تجري في الأرجنتين اليوم انتخابات التجديد النصفي لأعضاء مجلسي النواب والشيوخ، التي يعتبرها مراقبون بمثابة استفتاء على السياسات الاقتصادية للرئيس ماوريسيو ماكريز.
فالرئيس الذي أتى إلى السلطة في ديسمبر (كانون الأول) 2015 من عالم المال والأعمال أنهى حقبة سياسية شعبوية (بيرونية) استمرت 12 سنة، وأطلق في المسار الاقتصادي إصلاحات جذرية.
ومن أبرز إصلاحات ماكريز تحرير سعر الصرف وتقليص قيود الاستيراد، ورفع حظر انتقال رؤوس الأموال إلى الخارج، وترشيد دعم الطاقة بجانب تسوية استحقاقات ديون كانت بحوزة صناديق مضاربة.
لكن سياسات ماكريز الليبرالية ساهمت في رفع التضخم إلى 44 في المائة، وتآكلت القدرة الشرائية لعدد من الشرائح الاجتماعية، مما قاد إلى انكماش الناتج في 2016 بنحو 2.2 في المائة، وبلوغ البطالة نسبة 9.3 في المائة من قوة العمل.
إلا أن بعض المراقبين للاقتصاد الأرجنتيني يرون أن إصلاحات ماكريز بدأت تعطي ثمارها في 2017، حيث سجل النمو نسبة 1.6 في المائة خلال النصف الأول من هذا العام. وتشير التوقعات إلى تسارع هذا النمو في النصف الثاني ليسجل 2.5 في المائة، كما تراجع التضخم إلى نحو 29 في المائة، وهبطت البطالة إلى 8 في المائة.
والأهم من كل ذلك هو نجاحه في تغيير النموذج الاقتصادي ككل ليكون النمو مدفوعاً بالاستثمارات أكثر من الاستهلاك، بينما لم يكن العهد السابق يكترث كثيراً بتحفيز الاستثمار مما دفع النشاط الاستثماري للهبوط إلى أدنى مستوياته، خصوصاً في ظل مناخ الحذر والشك الذي ساد طيلة السنوات التي أعقبت التعثر في سداد الديون.
وأعلنت الحكومة الحالية أنها ترغب في تحفيز الاستثمار أكثر، والانتقال بالإصلاحات إلى السرعة الأعلى، مع تعهدها بإجراء تعديل ضريبي قبل نهاية العام لتشجيع التوظيف وزيادة استقطاب رؤوس الأموال.
ويؤكد اقتصاديون أن الإصلاحات التي أتت بعد سنوات من التقلب كانت بلا شك طموحة، لكن تحديات كثيرة مستمرة على أكثر من صعيد. فالنظام الضريبي غير فعال والإنفاق العام يستمر منفلتاً بشكل كبير من دون عائد اقتصادي مناسب، والإنتاجية ضعيفة والبنى التحتية متهالكة ولا تدريب كافٍ للعمالة. وعلى الصعيد الاجتماعي تبقى الفجوة كبيرة بين الفقراء والأغنياء، حتى أن الفقر يشمل نحو 29 في المائة من السكان، كما في نهاية النصف الأول 2017.
ويتمتع البلد بموارد طبيعية كثيرة، وكان في القرن الماضي متفوقاً في التعليم وناتج اقتصاده بين الأقوى عالمياً. «لذا فإن التحدي الآن كبير جداً ويشبه إلى حد بعيد رحلة صعبة لاستعادة المجد المفقود» وفق تعبير أحد تقارير البنوك الدائنة للأرجنتين.
ويضيف التقرير المصرفي: «حال الأرجنتين مثل حال كثير من بلدان أميركا اللاتينية التي شهدت حقباً طويلة من اللااستقرار والتقلب، وهي الآن تحاول الخروج من نفق الهشاشة الاقتصادية بإجراء تغييرات هيكلية، وهذا ملموس في البيرو والمكسيك وكولومبيا وتشيلي والأوروغواي. فهذه الدول تحظى حالياً بتصنيف ائتماني استثماري جيد نسبياً، لكنها تحتاج إلى زيادة صادراتها، لا سيما من المواد الأولية (نفط ومعادن وقهوة...)».
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الدول ليست فاعلاً رئيسياً في صناعة السياسات العالمية، لكن اقتصادياتها مرتبطة بتحولات الاقتصاد العالمي بسبب اعتمادها على تصدير المواد الأولية. بيد أن المقارنة مع دول شرق آسيا، على سبيل المثال، توضح أن الاقتصاديات الآسيوية تخلق الثروة بعكس دول أميركا اللاتينية التي تبقى مرهونة بالحاجة إلى الاستدانة من الخارج، ما يجعلها تحت رحمة المستثمرين والدائنين الدوليين.
وتشير دراسة مكتب متخصص في الاستثمار في أميركا اللاتينية إلى «أن الأرجنتين، كما عدد من جاراتها، تعلمت من دروس الماضي واختارت تحرير نظام الصرف العائم لتخفيف أثر الصدمات. وتحاول التعايش مع تضخم من حسناته إبقاء أموال المواطنين، لا سيما المستثمرين منهم في الداخل، وهذا يخلق أسواق مال محلية قد تتطور مع الوقت».
وتضيف الدراسة: «ما يحدث في الأرجنتين من إصلاحات، تنظر إليه دول أميركية لاتينية أخرى بعين الاهتمام، خصوصاً أن فنزويلا مأزومة حتى النخاع، والمستقبل الاقتصادي البرازيلي غامض. لكن هاجس الجميع توسيع رقعة الطبقة الوسطى المقبلة على الاستهلاك والدافعة لتطور خدمات الصحة والتعليم».
ويشبه المسار الاقتصادي في الأرجنتين، كما لدى بعض جاراتها، القفز على حبل توازنات رفيع بين إنفاق عام بأعباء هائلة ونمو اقتصادي هش، خصوصاً أن معدل النمو الحالي أقل بمرتين من متوسط النمو الذي تحققه الاقتصاديات الآسيوية.
ويدعم نقص الوظائف من موقف المعارضة الشعبوية في الأرجنتين، بدليل أن الرئيسة السابقة، كريستينا كريشنير، ورغم اتهامها بالفساد عادت إلى المشهد السياسي بقوة مستفيدة من الحنق الشعبي من أثر الإصلاحات الليبرالية الجارية، إذ تقدمت لعضوية مجلس الشيوخ عن مقاطعة بيونس آيريس ذات الأهمية الرمزية في البلاد.