البحث عن مفاتيح الروح الإنسانية خلال الحرب الجزائرية

لا يميل الروائي الفرنسي جيروم فيراري إلى النسق التقليدي في السرد الروائي، ولا يعوِّل كثيراً على البنية النمطية التي تتدفق بخط مستقيم، وإنما يعتمد على الومضات والشذرات القصصية التي تتيح له حرية التلاعب بالأزمنة، وإمكانية العودة إلى الوراء بواسطة الارتجاعات الذهنية أو الذهاب إلى المستقبل عبر تشظيات المخيلة المتأججة، وهذا ما فعله بالضبط في رواية «حيث تركتُ روحي» الفائزة بجائزة تلفزيون فرنسا لأفضل رواية عام 2010، التي صدرت أخيراَ دار مسكيلياني بترجمة محمد صالح الغامدي ومراجعة هالة العتيري، وهي للأمانة ترجمة دقيقة، سلسة، ومستوفية لشروطها توهجها الأدبي.
لا بد من الأخذ بعين الاعتبار الجانب الفلسفي في روايات فيراري؛ ذلك لأنه درسَ الفلسفة ويدرِّسها حالياً في المعهد الفرنسي في أبوظبي، حيث يتسرّب بعض الأفكار والمفاهيم الفلسفية إلى نسيج نصه الروائي بعد أن يطوّعها في مصهره اللغوي لتخرج بِحُلة قشيبة تمنح المتلقي لذة كبيرة في القراءة ومتابعة الأحداث ضمن سياقات تطوِّرها الدرامي.
تقع أحداث هذه الرواية في ثلاثة أيام لا غير، حيث تبدأ في السابع والعشرين من مارس (آذار) عام 1957، وتنتهي في التاسع والعشرين منه خلال الحرب الجزائرية، ثم يعود بنا النقيب أندريه دوغورس إلى الحرب العالمية الثانية، حيث أٌعتُقل واستجوب في بوكنفالد من قِبل النازيين حينما كان عضواً في المقاومة الفرنسية، ثم ينتقل بنا إلى الهزيمة الفرنسية في حرب الهند الصينية، حيث يُعتقل مرة أخرى من قِبل الفيتناميين في معركة دين بيان فو الدموية عام 1954، ثم يتقدّم صوب انهيار الجمهورية الرابعة عام 1958.
يُعتَبر هذا العمل الأدبي رواية شخصيات أكثر منه رواية أحداث، على الرغم من أهمية الوقائع التي تجري في بلدان عدة، مثل ألمانيا والجزائر وفيتنام وفرنسا، إلا أن الرواية برمتها تتكئ على ثلاث شخصيات، وهي النقيب دوغورس، والملازم هوراس أندرياني راوي النص وسارده، وشخصية السجين طاهر «طارق الحاج ناصر» التي استوحاها فيراري من شخصية العربي بن مهيدي الذي يأس الجلادون الفرنسيون في أن ينتزعوا منه اعترافاً أو وشاية برفاقه، رغم أنهم سلخوا وجهه بالتعذيب، وقد أدّى له الجنرال الفرنسي مارسيل بيجار التحية العسكرية قبل اغتياله قائلاً: «لو أن لي ثلة من أمثال العربي بن مهدي لغزوت العالم».
يتناول فيراري ثنائية الجلاد والضحية في هذه الرواية، ويرصد مرحلة التوحّش الذي اجتاحت دوغورس حينما استجوِب من قِبل النازيين في معسكر بوكنفالد، حيث فقدَ روحه هناك إلى الأبد، وأتاح لمخالب الوحش أن تنمو في داخله، ثم وقع في الأسر ثانية في فيتنام، لكنه لم ينكسر لأنه يمتلك شخصية قوية تعززها نزعته الرواقية، فهو متحرر من الانفعالات ولا يتأثر بالأفراح أو الأتراح، لكنه يرتكن إلى عقيدته الدينية كلما وجد نفسه مُحاصرا في مثلث اليأس والهزيمة والخذلان.
تتمحور الرواية على ثيمات أُخر، مثل العنف، والإيمان، ومفاتيح الروح الإنسانية. لا ريب في أن العنف يولِّد العنف، وأن الأفكار التي تزرعها السيوف تُغرقها الدماء، وأن لكل فعل رد فعل، مساويا له في المقدار، ومعاكسا له في الاتجاه، لكن شخصية النقيب دوغورس قد خرجت عن هذه القاعدة على الأقل في وضعيتها الإشكالية، وطبيعتها المزدوجة، فإذا كان الملازم هوراس يحبه لأنه أنجبتهما حرب واحدة، ومصير مأساوي واحد في وقت الأسر والتعذيب، فإن دوغورس يحب ضحيته طاهر، ويتعاطف معه، وسوف يؤدي له التحية العسكرية؛ لأن طاهراً يؤمن بأن «الشهيد أفضل ألف مرة من المُجاهد» (ص86).
يوضح النقيب دوغورس لمرؤوسيه في العمل قائلاً: «أيها السادة، إن العذاب والألم ليسا المفتاحين الوحيدين لسبر أغوار الروح الإنسانية، بل هما، أحياناً، بلا جدوى، لا تنسوا أن هناك مفاتيح أخرى: الحنين، الكبرياء، الحزن، العار، الحب. انتبهوا جيداً للشخص الماثل أمامكم. لا تتشبثوا بآرائكم من دون فائدة. ابحثوا عن المفتاح، يوجد دائماً مفتاح» (ص74). ولأن هناك مفاتيح أخرى لأي روح إنسانية، فإن دوغورس لا يؤمن أحياناً بتعذيب الضحية وإيلامها؛ لذلك كان يدخل زنزانة طاهر ويتجاذب معه أطراف أحاديث متنوعة علّه ينتزع منه بعض المعلومات التي قد لا يحصل عليها بالوعيد والتهديد، لكن هذا النقيب ليس ملاكاً فهو ضابط في المخابرات العسكرية، وعليه أن يروّض ضحاياه وسجناءه، وينتزع منهم كل الأسرار والمعلومات التي تتعلق بأعضاء حركة تحرير الشعب الجزائري. فكلا الطرفين، جلادون وضحايا، متورطون في جرائم القتل وارتكاب الأعمال الوحشية الشنيعة، فعندما قبضوا على عبد الكريم آيت كاسي، قال له النقيب إنه سيستجوب أخته وأمه وما يترتب على هذا الاستجواب من تلطيخ للسمعة وحطٍّ للكرامة الإنسانية، كما أن الضحية طاهر لم يقشعر له بدن حينما مزق بطون النساء في «فيليب فيل» و«وحانة ميلك» و«الحاليا» والإنسان الأروع هو الذي يحافظ على توازنه، ولا يفقد روحه، أو يسلك المسار الحيواني الذي تغذّيه عقدة الشر الكامنة في المناطق المظلمة في أعماقه.
يُنقل طاهر إلى باريس ويُعدم هناك دون أن يشي بأحد أو يعترف بشيء وهذا سبب اعتزاز دوغورس به، وكان يسمّيه «سجيني» وحينما أخذه الملازم هوراس أندرياني صرخ هوغورس لقد «سلبته مني، أندرياني، سلبتهُ مني» (122). لعل من المفيد التنويه إلى مرة أخرى إلى ازدواجية النقيب دوغورس؛ إذ تكفي غمزة واحدة غير مفهومة منه بأن العقيد طاهر قد انتحر في زنزانته، وهذه واحدة من الطرق التي كان يتبعها الجلادون مع أهالي الضحايا الذين تقتلهم المخابرات الفرنسية في عموم المدن الجزائرية.
نخلص إلى القول بأن الانكسارات والجروح النفسية العميقة التي تخلّفها الحروب لا تندمل بسهولة، وهذا ما لمسناه لدى الشخصيات الثلاث التي توقفنا عندها، وبخاصة النقيب دوغورس الذي كان مسكوناً بأفكار الماضي وعذاباته، فلقد حاول غير مرة أن يكتب بحب وصدق لزوجته، لكن وجد نفسه متعثراً في تحقيق ما يصبوا إليه، كما يبحث عن العزاء في معتقداته الدينية التي خفّفت من انفعالاته النفسية، وأعادت إليه الشعور بالهدوء والسكينة والتصالح مع النفس، ولهذا ظل دوغورس يحاول المستحيل من أجل أن يكون رحيماً، مسالماً، وأن يسكت صوت الوحش الكامن في داخله على العكس من هوراس أندرياني الذي ظل محافظاً على سجاياه العدوانية العنيفة.
وعودة على النفس الفلسفي في روايات فيراري يمكننا الإحالة إلى رواية «موعظة عن سقوط روما» التي نال عنها جائزة الغونكور عام 2012 والتي تقوم على ثيمة فلسفية مفادها أن «العالم كالإنسان يولد ويكبر ويموت مثله» ولا شيء جديد منذ الأزل، وأن ما يفعله الكُتّاب والمبدعون هو صياغة هذه الرؤية الفلسفية على وفق مقاربات أدبية قد تكمن جدتها في طريقة التعاطي مع هذه الفكرة أو في لغتها الأدبية المشحونة التي تنقل قارئها إلى فضاءات جديدة لم يلجها من قبل، ولعله يلجأ إلى تقنيات غير مطروقة من قبل. وهذا ما حدث تماماً مع رواية «حيث تركتُ روحي» التي عدّها الكثير من النقّاد عملاً أدبياً مؤثراً يغيّر ذائقه الإنسان أو يدعوه لمراجعة نفسه قليلاً كي لا يفقد روحه، ولا يترك نوازعه الشريرة تأخذه إلى ما لا تُحمد.