أوروبا تتجه يمينا

أوروبا تتجه يمينا
TT

أوروبا تتجه يمينا

أوروبا تتجه يمينا

أحدث فوز قوى اليمين المتطرف المناهض للبناء الأوروبي، في انتخابات البرلمان الأوروبي التي جرت الأيام الماضية، زلزالا سياسيا، رغم أن اليمين المحافظ استمر في شغل أكبر عدد من النواب في البرلمان الأوروبي.
وكان فوز الجبهة الوطنية بزعامة مارين لوبن في فرنسا هو الأبرز، حيث وضعها في الصدارة كأقوى تكتل سياسي في البلاد. وفي بريطانيا تصدر حزب الاستقلال (يوكيب) المناهض لأوروبا نتائج الانتخابات، ونال نسبة تاريخية بلغت 29 في المائة من الأصوات في ثلثي مناطق البلاد الـ12. وإزاء تلك الأحداث العاصفة عقد القادة الأوروبيون، مساء أمس في بروكسل، اجتماعا بحثوا خلاله خصوصا تحليل نتائج الاقتراع الذي اتسم بالتشكيك وحتى رفض الاتحاد الأوروبي لا سيما في فرنسا. واحتفل زعيم حزب «يوكيب»، نايجل فاراج بلغة مليئة بالرموز الحربية بفوزه في الانتخابات، مفصلا مشروعه لاجتياح البرلمان البريطاني العام المقبل، لكن الهدف الأخير لـ«جيشه الشعبي» يبقى إخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
فمن هو نايجل فاراج؟ ومن هي مارين لوبن؟
* نايجل فاراج.. «ثعلب في بيت دجاج»
* يسلط نظره على ويستمنستر

* «ثعلب حزب الاستقلال دخل بيت دجاج وستمنستر»، هذا ما قاله زعيم حزب الاستقلال البريطاني (يوكيب) نايجل فاراج، النجم السياسي الصاعد المعادي لعضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، والذي لا يتمتع حتى الآن بأي تمثيل داخل برلمان المملكة المتحدة، الذي تسيطر عليه النخبة السياسية المتمثلة بالأحزاب السياسية الرئيسة، وهي المحافظين والعمال والديمقراطيين الأحرار، والتي تبادلت الأدوار السياسية خلال قرن من الزمن في إدارة سدة الحكم في البلاد.
وبعد فوزه بحصة الأسد في الانتخابات البرلمانية الأوروبية وحصوله على أعلى نسبة من الأصوات وأكبر عدد من المقاعد لتمثيل المملكة المتحدة في البرلمان الأوروبي التي بدأت الأسبوع الماضي وأعلنت نتيجتها صباح يوم الاثنين، وصف نايجل فاراج فوزه «بالهزة الأرضية»، مضيفا أن «حزبه كسر المعايير السياسية وأن ما حصل في الانتخابات الأوروبية، وكذلك الانتخابات المحلية لمجالس البلديات في المملكة المتحدة، لم يحدث لأكثر من مائة عام في السياسة البريطانية»، وهذا سيمهد الطريق لحزبه لدخول البرلمان في وستمنستر.
وحصل الحزب على 24 مقعدا، أي بنسبة 27.49 في المائة من الأصوات، وجاء في المرتبة الأولى، وجاء في المرتبة الثانية حزب العمال المعارض الذي حصل على 20 مقعدا بنسبة 25.4 في المائة من الأصوات، أما حزب المحافظين الحاكم فقد حصل على 19 مقعدا بنسبة 23.93 في المائة من نسبة الأصوات. وتعالت الأصوات من داخل حزب الديمقراطيين الأحرار الحاكم في الائتلاف الحكومي مطالبة زعيم الحزب نيك كليغ بالتنحي بسبب الهزيمة التي مني بها، إذ جاء في المرتبة السادسة، بعد أن خسر عشرة مقاعد مقارنة بما حصل عليه في الدورة السابقة التي أجريت عام 2009. وحصل الحزب في الدورة الحالية على مقعد واحد فقط بنسبة 6.8 في المائة من نسبة الأصوات.
وكان حزب يوكيب قد فاز في الانتخابات الأوروبية السابقة التي جرت في 2009 بـ13 مقعدا. وهذه المرة الأولى منذ عام 1906 التي لا يكون فيها النصر في انتخابات تجري على الصعيد الوطني من نصيب أحد الحزبين الرئيسين في البلاد، أي حزبي المحافظين والعمال.
لكن خصومه السياسيين يتهمون يوكيب وزعيمه فاراج بأنهما يفتقدان إلى سياسات واضحة، ويصفه الكثير من المعلقين بأنه «حزب القضية الواحدة»، أي عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. ووعد فاراج بوضع بيان يوضح موقف الحزب من قضايا الاقتصاد والتعليم والصحة والعلاقات الخارجية وغيرها، ليكون وثيقة الحزب السياسية للانتخابات البريطانية المقرر إجراؤها مايو (أيار) المقبل، ردا على خصومه السياسيين والمعلقين الذين يتهمونه بالشعبوية وأنه يلعب فقط على وتر قضية الهجرة الحساس ولا يستخدم سوى الورقة الأوروبية وتخويف الناخبين من المهاجرين.
وقال فاراج بعد إعلان النتائج وفوزه بمقعده في جنوب شرقي إنجلترا إنه «سيطلق بيان حزبه للانتخابات القادمة من دونكستر في شمال إنجلترا»، أي من مدينة الدائرة الانتخابية لزعيم حزب العمال إيد ميليباند. وأضاف «لقد بدأنا بوضع سياساتنا التي تخص النظام الصحي وقضايا الدفاع والتعليم ومستوى الصرف العام. وسوف نضع هذه السياسات على الإنترنت من أجل أن يطلع عليها الجميع».
وكان قد ركز في حملاته الانتخابية، على الصعيدين المحلي والأوروبي، على موضوع الهجرة والخوف من تدفق ملايين من مواطني أعضاء الاتحاد الـ28 إلى بريطانيا، وهذا ما تسمح به الاتفاقيات التي وقعت عليها بريطانيا.
البعض يرى أن حصول حزب يوكيب على نسبة قياسية عكست الرغبة عند الناخب لمعاقبة النخبة السياسة في وستمنستر، التي يرون أنها متغطرسة وبعيدة عن نبض الشارع. كما أن تقدم الحزب على حساب الأحزاب الرئيسة جاء بتدرج خلال السنوات القليلة الماضية. وأظهرت بعض مراكز البحث في بريطانيا اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، خصوصا أن ذلك جاء على خلفية الأزمة المالية والاقتصادية وفضيحة المصاريف لأعضاء للبرلمان. ومما ساعد حزب يوكيب على تقوية مواقعه واستمالة شرائح كبيرة من المجتمع البريطاني هو إزالة قيود الهجرة على مواطني عضوي الاتحاد الأوروبي الجديدين، رومانيا وبلغاريا، مما يخول مواطني هذين البلدين دون أي عائق القدوم إلى بريطانيا والبحث عن عمل فيها. ولعب نايجل فاراج على هذه الأوضاع وسخرها لصالح حزبه في الانتخابات الأوروبية والمحلية.
إذ تمكن الحزب من أن يزيد عدد ممثليه في المجالس المحلية من تسعة عام 2012 إلى 150 مقعدا يوم الخميس الماضي. حزب الديمقراطيين الأحرار خسر أكثر من 300 مقعد في المجالس المحلية وخسر السيطرة على جزء من المجلس لعدم حصوله على أكثرية.
لكن هل شعبية يوكيب في هذه الانتخابات كافية لإيصاله إلى ويستمنستر، وهل سيحصل على عدد من المقاعد تخوله أن يصبح الوكيل السياسي الذي يحمل بجيبه مفاتيح وستمنستر، كما حصل مع حزب الديمقراطيين الأحرار في الدورة الانتخابية البرلمانية السابقة عندما اضطر «المحافظين» والعمال الدخول بمفاوضات ائتلافية من أجل تشكيل حكومة غير آيلة للسقوط.
لكن على الرغم من كل هذا التقدم فإن أداءهم ليس كما كانت التوقعات في الانتخابات المحلية، وليس بمستوى الانتخابات الأوروبية.
وقال فاراج، 51 عاما، «سنركز جهود يوكيب على المناطق التي له فيها أعضاء في المجالس البلدية ونستخدمها كمنطلق للفوز بمقاعد محددة في مايو 2015». كما يقر بضرورة تشكيل هيئة قيادية ذات صفة تمثيلية ضد الهجوم المعمم لأحزاب «المؤسسة الحاكمة» بعد سنوات من التفرد بالسلطة. وأضاف «أعتقد أن الرأي العام البريطاني يود رؤية فريق منكب على العمل مع اقتراب الانتخابات العامة» معلنا عن تعيين متحدثين كفؤ للصحة والدفاع والهجرة والوظائف قريبا. وقال «في المستقبل لن يتعلق الأمر بي بقدر ما سيتعلق بهم».
حزب يوكيب كان لا يزال حتى يوم الاثنين يعد هامشيا بمنتسبيه الـ36 ألفا. وقال فاراج «لم تتخلصوا منا». أما وسائل الإعلام البريطانية المعادية له عموما فتشير إلى أعضاء حزبه على أنهم «شائبو الصدغين» وهم بغالبيتهم خمسينيون.
جون كيرتيس أستاذ العلوم السياسية في جامعة ستراثكلايد قال خلال اشتراكه في حوار نظمته هيئة البث البريطاني «بي بي سي» ليلة الانتخابات قال، إن «أداء الحزب جيد لكن لا يجب أن نبالغ في قوتهم.. جيد لكن ليس فوق العادة».
«أداؤهم ليس جيدا في لندن، لأن سكان لندن من الشباب والأقليات العرقية. لهذا نرى أن القاعدة الشعبية لحزب الاستقلال في المناطق العمالية خارج لندن وبين المسنين والبيض».
لكنه في نهاية المطاف فقد أجبر حزب يوكيب السياسيين أن يتفاعلوا مع الوضع الجديد. وقال رئيس الوزراء ديفيد كاميرون «سوف نعمل المستحيل لأن نجيب على أسئلة الناس الذين يعملون بجد». المقصود هنا الإجابة على تخوف الناس من تدفق المهاجرين الأوروبيين.
بوريس جونسون، عمدة لندن، الذي يعتقد الكثير من المعلقين أنه الوريث الطبيعي لزعيم حزب المحافظين ديفيد كاميرون في حالة هزيمته في انتخابات العامة في مايو المقبل، قال لـ«بي بي سي» إنه «على رئيس الوزراء أن يوضح سياسية الهجرة، وأن تكون محصورة ببعض المهنيين في الأعمال وألا تكون مفتوحة للجميع»، مضيفا أن «على حزب المحافظين أن يجري استفتاء عاما حول عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي عام 2016 وليس كما وعد الحزب أن يكون الاستفتاء في عام 2017».
وكان قد وافق ديفيد كاميرون تحت ضغط المعاديين لأوروبا في معسكره وحزب يوكيب على تنظيم استفتاء عام 2017 حول بقاء البلاد في الاتحاد الأوروبي بعد إصلاحات سيجري إقرارها بخصوص علاقة الدول الأعضاء مع الاتحاد.
وقال رئيس الوزراء كاميرون، إن «المواطنين يشعرون بخيبة أمل كبيرة حيال الاتحاد الأوروبي.. يريدون تغييرا وبالنسبة لي، فإنني تلقيت الرسالة تماما وفهمتها».
وعلق المحللون بحذر حتى الآن على إمكانية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، رغم أن الغالبية في هذا البلد من المشككين في أوروبا.
ويؤيد 46 في المائة من البريطانيين الخروج من أوروبا بحسب ما أظهر استطلاع للرأي نشرت نتائجه مطلع مايو، فيما يدعو 39 في المائة إلى تحسين وضع بريطانيا فيها.
وكان فاراج صرح لوكالة الصحافة الفرنسية أثناء الحملة الانتخابية متحدثا عن ديفيد كاميرون «تحالف؟ إنني لا أثق به لكن بوسعي الإقدام على صفقة لضمان تنظيم استفتاء».
وفي الوقت الحاضر يبقى ماثلا في ذهن كاميرون أن يوكيب «يريد القضاء على المحافظين وليس العمل في فريق معهم». لكن وزير المالية جورج أوزبورن صرح قائلا إنني «أحترم السيد فاراج»، حرصا منه على عدم استبعاد ربع الناخبين الذين صوتوا له.
وهذا ما يرضي زعيم يوكيب الذي يطرح نفسه في موقع الرجل الثالث على الساحة السياسية، ويطالب باستمرار أن يقابله قادة الأحزاب في مناظرات، إلا أن الوحيد الذي وافق على ذلك كان زعيم حزب الديمقراطيين الأحرار نيك كليغ، والذي لم يبل بلاء حسنا، وحسب استطلاعات الرأي خرج نايجل فاراج منتصرا منها.
جون مان من حزب العمال قال غاضبا إن «حزب العمال لم يستغل افتنان نايجل فاراج بمارغريت ثاتشر»، مضيفا لصحيفة «الغارديان»: «كان قرارا خاطئا قرار عدم مهاجمة يوكيب.. بعض المخططين لسياسة الحزب عدوا أن تقدم حزب يوكيب سيكون على حساب كاميرون وحزب المحافظين. عليهم أن ينزلوا من أبراجهم العاجية وأن يراجعوا حساباتهم».
وحتى في داخل حزب العمال ارتفعت بعض الأصوات تطالب بالتغيير في قيادة الحزب، بعد أن فشل الحزب في الحصول على عدد أكبر من المقاعد في الانتخابات المحلية. ومن أجل أن يشكل حكومة أكثرية دون الاعتماد على الأحزاب الصغيرة. فكان على الحزب الحصول على 500 مقعد بدلا من الـ300 مقعد، التي جاءت أكثر من توقعات بعض المحللين.
لكن المزاج في حزب العمال تغير بعد نتيجة استطلاع رأي، قامت به مؤسسة تابعة للورد أشكروفت من حزب المحافظين، والذي يبين أن حزب العمال متقدم على حزب المحافظين في بعض المناطق الساخنة بـ12 نقطة، وبهذا ستكون النسبة التي قد يحصل عليها 41 في المائة مقارنة مع 29 في المائة لحزب المحافظين، وهذا كاف لكسب 83 مقعدا من المحافظين. وبهذا سينجح حزب العمال بأكثرية في الانتخابات القادمة. وحسب الاستطلاع فإن يوكيب سيحصل على 18 في المائة من الأصوات وثمانية في المائة لحزب الديمقراطيين الأحرار.
ووسط فرحة الفوز، فصل الزعيم الشعبوي خارطة الطريق التي سيعتمدها خلال الأشهر المقبلة. وهو لا يعتزم الاندفاع بشكل متهور في المعركة التشريعية في مايو 2015 بخوض السباق لجميع المقاعد المطروحة في مجلس العموم الذي يبقى حتى الآن حصنا منيعا على تنظيمه.
وقال حزب يوكيب إنه لا يريد فقط أن يدخل نايجل البرلمان في انتخابات مايو المقبل «لا نريد أن يكون نايجل هو الوحيد. سنحاول استهداف ما يقارب 30 مقعدا. هذه الطريقة المثلى للأحزاب الصغيرة حتى تدخل المعترك السياسي. وهذا ما قام به حزب الديمقراطيين الأحرار لسنوات وزادوا من رصيدهم السياسي على مدى سنوات».
التوقعات تفيد بأنهم سيحصلون على بعض المقاعد في البرلمان في العام المقبل. وهذا سيعطيهم قاعدة سياسية مهمة في السياسة البريطانية.
في بداية التسعينات لجأ حزب الديمقراطيين الأحرار إلى استهداف بعض المقاعد التي لا تتمتع فيها الأحزاب بأكثرية. في الخامس من يونيو (حزيران) سيكون هناك انتخابات تكميلية بسبب استقالة أحد أعضاء حزب المحافظين من مقعده، ونتيجتها ستكون مؤشرا على مدى اختراق البنية السياسية التقليدية.
* مارين لوبن.. المرأة الطموح
* عينها على الرئاسة الفرنسية

* منذ أشهر، تردد مارين لوبن أن هدفها في الانتخابات الأوروبية التي جرت يوم الأحد الماضي هو الحلول في المرتبة الأولى لتفرض نفسها رقما صعبا في المعادلة الانتخابية الفرنسية، ولتهيئة الاستحقاقات القادمة.
فهذه المرأة «الحديدية»، التي بدأت مسيرتها السياسية في ظل والدها جان ماري لوبن وهي في الثامنة عشرة من عمرها، يحركها طموح لا حدود له، إذ إن عينيها ترنوان نحو استحقاق ربيع عام 2017، حيث ستجرى الانتخابات الرئاسية، وهي تعتقد أن الأحزاب الكلاسيكية «انتهى مفعولها» وأنه «حان وقت وصول مرشح وطني لرئاسة الجمهورية» لإعادة تصويب الأمور ووضع فرنسا على سكة «النهوض الوطني». وعندما تنظر مارين لوبن إلى المشهد السياسي حولها حيث عجز حزب الرئيس فرنسوا هولاند عن الوصول إلى عتبة الـ14 في المائة من الأصوات، وحيث حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية غارق في فضائحه المالية والحروب الداخلية لقادته، فإنها ترى أن هناك فرصة يتعين اقتناصها، وأنه آن أوانها.
تعي مارين لوبن، هذه المحامية المتمرسة في فن النقاش والجدال، أن «الزلزال السياسي» الذي أحدثه احتلال الجبهة الوطنية الصدارة بحصولها على 25 في المائة من أصوات الناخبين الفرنسيين، آخذ في هدم الثنائية الحزبية التي تعودت عليها فرنسا منذ تأسيس الجمهورية الخامسة، وأن التصويت لليمين المتطرف لم يعد فقط تعبيرا عن احتجاج أو رفض للطبقة السياسية التقليدية، بل أصبح تعبيرا عن «قناعات» ناشئة وطروحات تدافع عنها الجبهة الوطنية. وتريد مارين أن تكمل حلم والدها جان ماري لوبن في الانتخابات الرئاسية عام 2002 عندما تقدم على المرشح الاشتراكي ليونيل جوسبان في الدورة الأولى، ونازل الرئيس شيراك في الدورة الثانية. لكن الأخير، كما كان متوقعا، تفوق عليه بحصوله على نحو 80 في المائة من الأصوات. وبحسب الجبهة، فإن المجتمع الفرنسي لم يكن «جاهزا» لتقبل رئيس للجمهورية قادم إليه من اليمين المتطرف. بيد أن الأمور تغيرت جذريا. فشخصية مارين لوبن مختلفة عن شخصية والدها. هي امرأة وحديثة ولا تجر وراءها أثقال حرب الجزائر حيث مارس الأب التعذيب ضد مناضلي جبهة التحرير الوطنية. وهي لا تنوء كذلك تحت أعباء اتهامات معاداة السامية التي انصبت على رأس جان ماري لوبن منذ ثلاثة قرون، ولا يربط الناس بينها وبين الشعارات النازية أو العنصرية.. باختصار، أخذ الفرنسيون ينظرون إلى الجبهة الوطنية وهي الحزب اليميني المتطرف الوحيد الذي احتل المراتب الانتخابية الأولى، على أنها «حزب سياسي كغيره من الأحزاب». والجديد أن منتسبيه أخذوا يتباهون بانتمائهم إليه بعد أن كانوا في السابق يحاولون إخفاءه. فمن هي هذه المرأة التي تريد أن تربط حصانها في باحة قصر الإليزيه؟ وكيف وصلت إلى ما وصلت إليه؟
مارين لوبن هي البنت الصغرى لجان ماري لوبن. ولدت في شهر أغسطس (آب) من عام 1968 في ضاحية نويي الراقية الواقعة على المدخل الغربي لمدينة باريس. درست الحقوق ومارست مهنة المحاماة، وهي مسجلة في نقابة المحامين في العاصمة. خلال دراستها الجامعية انضمت بطبيعة الحال إلى التجمع الطلابي القريب من الجبهة الوطنية المسمى «الدائرة الوطنية لطلاب باريس». لها من زوجها الأول الذي طلقته في عام 1999 بنتان وصبي، وهي تساكن حاليا لويس اليو، نائب رئيس الجبهة السابق، وذلك بعد طلاقها الثاني من أحد قادة الجبهة.
وإذا كانت مارين لوبن ستتوجه إلى البرلمان الأوروبي على رأس مجموعة مؤلفة من 24 نائبا من ضمنهم والدها (من أصل 74 نائبا فرنسيا)، فإنها ليست جديدة على هذا البرلمان الذي دخلته للمرة الأولى عام 2004. فمنذ عام 1998، أطلقها والدها في عالم السياسة والجبهة الوطنية ووضعها في الواجهة لقطع الطريق على صهره برونو ميغريه الذي حاول القيام بانقلاب داخلي على مؤسس الحزب. كذلك فإن والدها تدخل بقوة لوأد الاحتجاجات الداخلية التي اندلعت لرغبته في توريثها الزعامة، الأمر الذي تم في مؤتمر عام الحزب بداية عام 2011 حيث انتخبت بنسبة مريحة رئيسة للجبهة الوطنية. وبطبيعة الحال، فإنها ترشحت للانتخابات الرئاسية عام 2012 متنافسة مع الرئيس السابق نيكولا ساركوزي والمرشح الاشتراكي فرنسوا هولاند. وجاءت المفاجأة بحصولها على نسبة 17.90 في المائة من الأصوات، وهي أعلى نسبة حصل عليها مرشح يمين متطرف بما في ذلك والدها عام 2002. وفي ربيع العام نفسه، سعت للدخول إلى الندوة البرلمانية. لكن النظام الانتخابي وعدم «استعداد» الفرنسيين حرماها من الفوز عن دائرة بادوكاليه، الواقعة شمال غربي فرنسا.
لم تتخط مارين لوبن حتى الآن سن الـ46 عاما. لكنها رغم ذلك تجر وراءها تجربة سياسية عريضة، إذ إنها خاضت أول انتخابات نيابية وهي في الثامنة عشرة من عمرها. وحتى اليوم، لم يحالفها الحظ في الدخول إلى الندوة النيابية. لكنها بالمقابل انتخبت للعديد من المناصب المحلية.
يكمن سر نجاح مارين لوبن في أنها عرفت كيف «تقولب» من جديد الجبهة الوطنية وتنزع عنها الصور الرائجة بصددها، مثل العنصرية ومعاداة السامية والفاشية. الجبهة الوطنية، وفق ما تكرره «ليست يمينا متطرفا»، بل هي حزب «يميني وطني» يدافع عن مصالح الشعب الفرنسي وسيادته التي «سلبها» الانتماء إلى الاتحاد الأوروبي. وما تريده مارين لوبن أن تنسحب فرنسا من الاتحاد وأن تتخلى عن العملة الأوروبية الموحدة (اليورو)، وأن تعيد الرقابة على الحدود وتحد من تدفق المهاجرين وتمنع بناء المساجد وارتداء البرقع والصلاة في الشوارع. وبحسب فكر الجبهة الوطنية، فإن الهجرة غير الشرعية سببها «تلكؤ» الدولة عن القيام بمهامها. وهذه الهجرة سبب أول لارتفاع نسبة البطالة وعجز صناديق الرعاية الاجتماعية وفقدان الهوية الفرنسية التي جعلت من الدفاع عنها هاجسها الأول.
غير أن مارين لوبن نقلت الجبهة الوطنية من مكان إلى مكان، ونجحت في تغيير صورتها لجعلها حزبا عاديا. وإذا نظرنا للنتائج الانتخابية التي تمثل المؤشر الحقيقي لوزن أي حزب سياسي لوجدنا أنها نجحت في ذلك. ففي عام 2007، حصل والدها في الانتخابات الرئاسية على 10.4 في المائة من الأصوات، بينما حصلت هي في الاختبار نفسه وبعد خمس سنوات على نحو 18 في المائة من الأصوات، وها هو حزبها يحصل في انتخابات الأحد الماضي على 25 في المائة من الأصوات بحيث تحولت الجبهة الوطنية إلى أول تشكيلة سياسية في فرنسا.
واضح أن طموحات مارين لوبن لن تتوقف عند البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ، حيث ستسعى إلى تشكيل مجموعة مستقلة مع نواب أوروبيين يصبون في الاتجاه السياسي والآيديولوجي نفسه. لكنها بانتظار الاستحقاقات القادمة ستحاول ترجمة فوزها الأوروبي إلى نفوذ وتأثير داخليين بحيث تطأ بكل ثقلها المشهد السياسي الفرنسي. وأول ما تتوقعه هو «انفجار» اليمين بين جناح يريد التحالف بين الجبهة، وجناح رافض له، وبالتالي اجتذاب الفئات الأكثر يمينية أو براغماتية من اليمين الكلاسيكي. وبما أنها تعي «وزنها» الجديد، فإنها بادرت بعد إعلان النتائج مساء الأحد إلى مطالبة رئيس الجمهورية بحل البرلمان والدعوة لانتخابات تشريعية جديدة، ودعت رئيس الحكومة مانويل فالس إلى الاستقالة باعتبار أن النتائج تفقده المصداقية لا بل الشرعية.
تقول مارين لوبن «نحن نشهد اليوم رفضا كاملا للنظام السياسي. إنه نوع من الثورة الوطنية» التي في رأيها تتخطى الأحزاب التقليدية ولن تتوانى عن الإطاحة بها. لكن هل حل زمن الجبهة الوطنية في فرنسا؟ واضح أن الحزبين الرئيسيين (الاشتراكي والاتحاد من أجل حركة شعبية) يعانيان حاليا من حالة انعدام الوزن. الأول وجد نفسه في طريق مسدود بسبب عجز سياساته الاقتصادية عن مواجهة البطالة وغياب النمو والتقشف وارتفاع الضرائب وحالة التشنج الملمة بالفرنسيين. والثاني غارق في نزاعاته وطموحات قادته وأنانياتهم. ولذا فإن مارين لوبن مقتنعة بأن الفرصة متاحة للانقضاض على قلعة الجمهورية ورفع علم الجبهة الوطنية على أسوارها. لكن ما تراه لوبن جيدا لحزبها يبدو بالغ الإساءة لفرنسا التي ستضعف صورتها في المحافل الأوروبية والدولية.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.